هل أضعنا حس الزمن؟ شاكر مصطفى

من وراء المنظار الأسود:

قبيل نهاية الألفية الأولى للميلاد اكتسحت أوربا موجة من التدين والرعب ما عرفتها أبدا من قبل، امتلأت الكنائس بالضارعين، انتشر البكاء في الشيوخ والشباب على السواء توقفت أيدي المجرمين واللصوص وارتفعت مبتهلة إلى الله تطلب الغفران، أمضى القساوسة ليلهم والنهار بالصلوات، ركض المدينون إلى الدائنين يسددون ديونهم، تزاحمت صفوف الخاطئين على كراسي الاعتراف هرول العاقون إلى آبائهم يبكون، جيلا ملائكيا تحول البشر، اختفت كل الشياطين في جحورها فالدنيا جنة من الخير.. ما هي الحكاية؟

شاع في الناس أن العالم سينتهي سنة 1000 وأن القيامة قائمة بعده، أيها الرب غفرانك!! ومضت الليلة الأولى من العام 1001. ثم الثانية والثالثة، ثم العشرون والثلاثون، وانخفضت حدة التوتر الديني، حتى إذا مضت أشهر نسي الجميع نهاية العالم والقيامة، وعاد الناس كما كانوا من قبل بشرا من البشر.

بعد هذا وفي سنوات بدأت حرب ساخنة استمرت ما يزيد على 400 سنة هي الحرب الصليبية التي شنها العالم الهمجي الأوربي ضد العالم الإسلامي المتحضر، بدأت في إسبانيا منذ أواسط القرن الخامس الهجري/ 11م وفي صقلية، ثم بلغت ذروتها بغزو المشرق الإسلامي في الشام مائتي سنة، قبل أن تعتصم بعد ذلك في قبرص، ثم رودس، ثم مالطة. أوربا صبت كل سخائمها الدينية في تلك الحروب التي يمكن أن نسميها مع ما لحقها ورافقها من حروب المغول للعالم الإسلامي وغيره بالحروب العالمية الأولى، لم تكن أقل شراسة وتدميرا وسحقا للبشر من الحربين العالميتين الأخيرتين في القرن العشرين: الأولى والثانية! وفي نهاية الألفية الثانية، ونحن على مشارفها، ليس بممكن أن يحدث هذا الأمر نفسه التاريخ لا يكرر ذاته أبدا، قد يتشابه ولكنه لا يتماثل، عبثا نفتش عن التكرار، ربما كان التشابه الوحيد بين أوائل الألفية الثانية وأوائل الثالثة أن نكبة الحروب الصليبية سوف تتسع لتصبح حربا غير متكافئة بين الشمال والجنوب، حرب جياع ضد متخمين، وحرب تقنيات جبارة ضد شعوب عزلاء.

اللعبة المقبلة.. السرعة

على أن هذه الحرب لن تدوم 300 أو400 سنة، هذا كان في الماضي ولن يعود، الزمان سيجمع فيها فليس أكثر من ساعات أو يوم وتنتهي الكارثة، أنسينا حرب الخليج، وآلاف الأطنان من القنابل التي ألقيت في أيام، وهي أكثر من جميع ما ألقى في الحرب العالمية الثانية خلال أربع سنوات ونيف؟ لعبة العالم المقبلة هي السرعة مسخ الزمن، صار يحسب بالثواني والدقائق، بعد أن كان يحسب بالشهور والسنين، وإذا كانت هذه النبوءة كارثة مرعبة قاسية فإنها الشيء الوحيد الذي يتراءى في نهاية النفق المظلم الذي دخلت فيه البشرية منذ ربع قرن، الهوة التي تتسع بين مجموعتي المتقدمين والمتخلفين لا تترك مجالا للتفاؤل بغير هذه النتيجة الرهيبة. والصاعقة أيضا.

في هذه الصورة الشيء الأساسي الذي اختلف عن مطالع الألف الثانية هو السرعة الصاعقة بعد مائة من العبيد الذين يجدفون بالمركب على إيقاع الطبل الرتيب ليسير، حلت محلهم المحركات التي تسبق الصوت، وتترك الهواء وراءها ينفجر بهزيم الرعد، وحلت الصواريخ التي تخرق السماء إلى الكواكب في ساعات.

في جنوب شرقي آسيا يتحدثون عن "جنون آموك" ذلك الجنون الذي إذا أصاب امرءا وضع سكينه في فمه وانطلق يدق أعقابه في ظهره لا يدري إلى أين؟ ولكنه يمضي في اتجاه واحد ويقتل كل مخلوق يجده في طريقه! أليس هذا المجنون رمزا لهذه الآلة الحضارية الحديثة التي تحكم العالم؟ بلى! منذ سنتين وبعض السنة لاحت بارقة أمل بعد حرب الخليج، ارتمى فيها على عرض الصحف وعلى ألسنة الإذاعات شعار "النظام العالمي الجديد" وظن بعض الناس ظنا أن عهدا من السلام في العلاقات الدولية قادم عليهم مع السنوات المقبلة، ولكنه كان الظن الخلب، فكما تهوي طائرات الورق متى توقفت الريح عن حملها كذلك هوى هذا الأمل الذي روجت له وطبلت كل قوى الإعلام الأمريكي.

هل كان هذا الشعار هو الوحيد الذي يهوي بهذه السرعة ويفتضح؟ إن عصرنا هو عصر افتراس الزمن، عصر الانقلابات السريعة العاصفة ما عرف تاريخ البشر أبدا عصرا مثله عاش أهله في دوامة التغير المتوالي المذهل، حتى كأن هذه الأرض قد ضاعفت سرعتها في الدوران، فنحن في دوار عليها وبين أشياء تطير، الزمن نفسه تضاعفت سرعته أضعافا مضاعفة صار كل يوم نعيشه مختلفا عن الأمس في كل شيء، الدقائق تركض بنا ولست تدري إلى أين؟

اغمض عينيك وتذكر، كم حدثا جديدا عشت منذ الستينيات بل منذ السبعينيات؟ كم عرشا هوى للدكتاتورين ولغير الدكتاتورين؟ كم نظاما حسب أن جذوره خرقت أعماق الأرض تداعى كقلب المقوي، كم مدرسة فنية تقلبت؟ كم نهجا شعريا تحول؟ كم تقنية أعطت مكانها لغيرها ثم لغيرها ثم لغيرها؟ كم من الأخطار لم تكن في الحسبان فاجأت البشرية كالأغوال "الإيدز، فتحة الأوزون الانفجار السكاني، التصحر المتمادي، التلوث."؟ كم مجاعة تنقلت تمتص دماء الشعوب هنا وهناك؟ كم صرحا من المبادئ سقط "أعاليه تبحث عن رأسه"؟ كم ابتكارا مدمرا ابتكر الإنسان الشرس؟ كم أحداثا وقعت وطويت "طي السجل للكتب"؟ كم سلعة استهلاكية تبدلت ثم تبدلت ثم تبدلت في هذه السنوات الخمس والعشرين الأخيرة؟

ثورات انقلابية

الوتيرة المذهلة التي تتسارع بها الأحداث وتتلاحق صباح مساء تحرمنا القدرة حتى على استيعاب ما يجري، لقد دخل العالم منذ الستينيات على الأقل "بما بعد العصر الصناعي" ثورات انقلابية في المعرفة والتقنية والاتصال خلقت هذا الدوار الذي يمنعنا الوقوف لحظة لنتبين موضع أقدامنا والرءوس، مثل هذه التغيرات الانقلابية لو كان لها أن تحدث قبل الآن لكانت تحتاج إلى ثلاثة أو أربعة قرون حتى يتم تبلورها وظهورها، فنحن في الواقع نعيش أعمارا من أعمار أجدادنا في عمر واحد، ونعيش عدة عصور قد تصل 500 سنة في سنة أو أقل.

ونتيجة لذلك فإن نوعية "الاستعمار المقبل" واستثمار المتخلفين سوف تتغير كل التغير في العلاقات الدولية المقبلة كما تتغير سرعتها التغير الجذري، وليس هذا فقط، ولكن التقنيات والوسائل التي سوف تستخدم ضد الدول المتخلفة "كبنوك المعرفة والأقمار الصناعية والتجويع المنظم والحروب الصغيرة وألوان الثقافة التي تبث وطرق تدمير النظم والأفكار"، سوف تختلف بدورها، على أن أهم ما سوف يختلف - عدا عن هذا - هو تقزيم الزمن، الضربة الصاعقة ستكون خلف جميع الأحداث.

ولم تكن لهذه السرعة المجنونة لدى الدول المتقدمة أخطارها لولا أن عدة عوامل تمشي معها وتنجم عنها، ألف رأس من الخيول الجموح تجر عربة "زيوس" في الأعالي:

أولا: عدم التكافؤ في القوى بين المتقدمين والمتخلفين "ونقصد قوى العمل والإنتاج والإبداع المتمادي والخلق"، إنتاجية الفرد في الدول المتخلفة "ومنها البلاد العربية" لا تعدل كمية ونوعا 15% إلى 20% من الإنتاجية العامة للفرد في الدول المتقدمة واللقاء بين الطرفين حتمى، وفي هذه الحالة فإن قانون الأواني المستطرقة يفعل فعله، والطبيعة - كما يقولون - تكره الفراغ، فحيثما كان ملأته أولى القوى المبادرة.

مأساوية المشكلة: أن ثم عدم تساوق في درجات التقدم العلمي نفسه في ناحيتين:

فهناك شعوب ركبت نعلي "هرمز" إلى ما وراء زحل والمريخ والمشتري، لتستعمر الفضاء وتستغله، وشعوب لا تزال على الحمير والبغال تضرب الدف والمزاهر للقمر إذا خسف، لئلا يبتلعه - في زعمها - الحوت!
وهناك ضمن الشعوب المتقدمة سبق تقني هائل مادي، لم يرافقه تقدم خلقي - نفسي يوازيه. الإنسان - الذئب لا يزال ضمن إهاب الإنسان المتقدم بكل أنيابه ومخالبه، وصار أقوى في الوسائل. والقوة تبرر كل شيء، ولا ينفع الوعظ فعلى من تقرأ مزاميرك يا داود؟

ويتراكض المتقدمون في تقدمهم المادي، ولكن دون هدف واضح، إنها قوى عمياء ما تدري أيان المستقر والشمس تجري لمستقر لها وأحسب أنها محكومة بعوامل ذاتية هي التي أفرزتها ذاتها.

ثانيا: أن ثمة تدفقا حضاريا وحيد الاتجاه من الدول المتقدمة يغزو الدول المتخلفة ليس في الآلات والحواسب والاتصال فحسب، ولكن حتى في الأشياء الصغيرة والحميمة حتى في الملاعق والأحذية وأحمر الشفاه ولون الأثواب، نحن مخترقون حتى النخاع الشوكي بالدول المتقدمة "غربية كانت أم شرقية" انتزاعها منا أشبه بانتزاع السرطان المتشعب في الرأس، في كل ميلليمتر تهديد مميت، ومن ذا الذي يجرؤ على اجتثاث السرطان في الدماغ دون أن يفقد المريض حواسه أو حياته؟

ثالثا: غلبة القيم الغربية: سيطرة المال كسلطة أولى، الفردية الأنانية، الوصولية بأي ثمن، تقديم المصلحة على كل قيمة كل القيم الرأسمالية اكتسحت القيم الأخرى في العالم، ولا تصدقوا ما تعلنه أوربا من مبادئ المساواة والإخاء والعدالة، حتى الحرية. إنها مبادئ وقيم لأوربا وحدها ولأقوياء الدنيا، "فالصحيح أمام البيرنة خطأ وراءها" كما يردد الفرنسيون مع باسكال، فالمساواة بينهم فقط، والإخاء المزعوم والعدالة لهم وحدهم، والحرية من حقوقهم، لا من حقوق الإنسان، واقلب المؤشر 180 درجة حين تنتقل إلى الدول المتخلفة فلا مبدأ من هذه المبادئ يرعى ولا قيمة تحتم، حتى الحرية هي حرية القوي، أما الضعيف فله الله، أو الشيطان، وحتى حرية العبادة لله، ألست ترى أنهم يدوسونها في البوسنة والهرسك والصومال وأذربيجان وطاجاغستان وكشمير وفي الهند وجنوب السودان ونيجيريا، بل وفي فرنسا نفسها؟

رابعا: التنميط الاستهلاكي "الجينز" أضحى ملبوس العالم رغم بشاعته الهامبورغر صار أكلة الناس ورمز التحرر في موسكو، الكوكاكولا مشروب آلاف الملايين حتى في جزر واق الواق، لقد فصلوا أجيالنا التالية عنا بمختلف الوسائل والسبل، فأبناؤنا المباشرون ليسوا أبناءنا إلا بالاسم، حتى الثقافة التي تبث عبر قنواتنا ونحن طائعون، أضحت سلعة استهلاكية، فلا ترى على التلفزيون إلا ما يريدون أن ترى، ولا تسمع من الأخبار إلا ما "يفبركون"، في مصانع الأخبار، ومن الزاوية التي يحبون ولا يكشفون من الأسرار في العلم أو السياسة أو السلاح إلا ما يسمحون به يرقبون ذلك مراقبة الذئاب للفريسة! حظر السلاح له تاريخ في القديم أيام الحروب الصليبية أصدر الإمبراطور البيزنطي تحريما على رعاياه يقول: "من الآن فصاعدا يجب ألا يجرؤ أحد على حمل السلاح إهداء أو بيعا إلى بلاد العرب (Assasins) ولا على حمل الأخشاب لبناء السفن التي تتسبب في إيذاء المسيحيين، ولا الدروع ولا السيوف ولا الرماح، ولا أي نوع من السلاح، أما الأخشاب (التي تصدر) فيجب ألا تكون ألواحا من الصنوبر أو البلوط أو الزان أو من المجاديف، ولكن يحق لمن يشاء حمل جذوع الأشجار بطول خمسة أقدام وعرض فأس (160 سـم 20 x سم) ويحق له حمل قوارير وصحون وأقداح.." أليس هذا هو ما يفعله صانعو السلاح اليوم وما يفرضونه من القيود مع الدول المتخلفة بحجة وقف سباق التسلح؟ شركات احتكارية كالحيتان الضخمة هي التي تسوق كل شيء وتبتلع كل شيء، وتكدس المعلومات عن كل شيء، فليس يفوتها مع التنصت بالأقمار دبيب النمل! ولحظة بلحظة!

خامسا: أن التكنولوجيا المتقدمة ووسائل الاتصال جعلت مدنية "ولا أقول حضارة" الدول المتقدمة مدنية كونية فالدول المتخلفة معها كالذي دس في قفص مغلق، لقد أبحروا بنا وليس في السفينة من مهرب، وإلا فأمواج المحيط أو الفضاء الأرهب نصيب الهاربين، والسفينة في سباق مع كل الرياح!

سادسا: أنها مدنية مطلقة سواء في القوى أو في القيم، وذات بعد واحد، هو في أقصى مداه مصالحها الخاصة والمباشرة فليس لديها من مكان للمتخلف، لا يهمها إن هبط مستوى الفقر في بوليفيا إلى ما تحت مستوى الخط الرسمي للبؤس من 85% سنة 1986 إلى 96% سنة 1992، أو كانت المدفوعات السنوية للديون في زامبيا تفوق الإنتاج القومي كله، أو كان 75% من زنوج الولايات المتحدة تحت خط الفقر أو كانت المجاعة تفترس إريتريا أو بنغلادش، بل لا يهمها في بلادها نفسها أن يكون 11 - 12 مليون بريطاني تحت مستوى الفقر! أو أن يكون 84. 5 مليون أمريكي في مستوى الأمية! إنها مبادئ الرأسمالية الحرة وهي ماضية قدما تحمل علم "الديمقراطية" وتركض، والتنافس الحر مفتوح للحيتان وللسمك الصغير!

سابعا: تقوم هذه "المدنية" على أركان متقدمة من العلوم وتطبيقاتها التقنية فلا مجال لمقاومتها أو لموازاتها إلا بالعلوم نفسها وتطبيقاتها، أو بمنطق آخر هو ما وراء المنطق المعروض، أو بفتح سبيل جديد في الفكر، وكيف تقف لوسائل مادية قاهرة جبارة وتطبيقات شمولية وقدرات تدميرية هائلة إلا بالقفز إلى مسار علمي تطبيقي جديد؟ وحتى لو قفزت فهل يتركونك للنجاة وهم يمتصون "نزيف" العقول من كل الدنيا؟

ثامنا: أن هذا الزحف التقني - العلمي، الكوني، الشمولي، زحف غير ظاهر الخطر، إنه يجري في العروق كالسم البطيء، لا تدري متى يصعق؟ لا سيما والمقاومة له معدومة أو تكاد، فنحن لا ننتج حتى الحاجات الاستهلاكية الضرورية أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم مجموع هذه العوامل يصب مباشرة في الهوية القومية ويترك آثاره المدمرة فيها، تأثيره الجذري نحسه في بنيتنا الفكرية العميقة، في تكويننا الثقافي الأولي، إنه يقتلعنا، ويضمنا إلى ركب التبعية والذيلية واللهاث وراء الراكضين، التبعية السياسية العسكرية لم تعد تهم أحدا من المتقدمين، كان ذلك زمن طفولة الاستعمار إنهم اليوم نفذوا إلى الجذور الثقافية والدينية، يعلمون أنها مستودع الهوية القومية وأمتن الأسوار، فهم لعب بها وهز عنيف لأركانها! وهم فيها نقب وهدم وتشويه يفرحون إن عاد الهندي الأحمر إلى طاقية الريش في رأسه أو فتحت أنت مزرعة دجاج بدل مخبر نووي، أو لهونا باللحى كم تطول وتقصر، وبالثياب كيف تعري وتستر؟ ورحم الله المتنبي. إنه منذ ألف سنة قال:

أمنتهى الفخر أن تحفوا شواربكم

يا أمة ضحكت من جهلها الأمم!

هذه العوامل المدمرة يأتي عامل السرعة فيعطيها أقصى قوتها، ينقلها من دنيا التغيير البطيء الهادئ إلى دنيا العوامل الانقلابية البني الثقافية - الاجتماعية التحتية - وهي في العادة أبطأ ما يتطور وآخر ما يتطور - تتبدل بغتة التبدل الجذري وتنهار تحت الأرجل، وهنا مكمن الخطر! وأحسب أنها بدأت فعلا في الانهيار!

ويبدو أن هذه الحقيقة البدهية لم تنفذ بعد من القشرة السميكة لبلدان التخلف - ونحن منها - لم تكسر قواقعها الصخرية لتتحرك أجهزتها العصبية للدفاع ككل كائن ديناميكي حي، قد تكون:

لامست أسماعهم لكنها

لم تلامس نخوة المعتصم!

لم ندرك بعد ما معنى الثورة المعرفية الجديدة وأن بنوك المعرفة والمعلومات هي رأسمالية الغد وقاعدة استعماره، لم نع بعد أن التقنيات التي وصلت حتى معالجة معارف الإنسان على الأرض وغطت السماء بمئات الأقمار هي قيود غير مرئية تسيطر على العالم المتخلف، وقد تغدو أكفانا، وأن هي آلية الغد وآيينه! "أباطرة" العالم الثالث الذين تدق لهم الطبول، وتجرى الاستقبالات، ويعبدون كل في محرابه، ليسوا مجرد دمى في أيدي القوى الكبرى، ولكنهم كتمثال القرود الثـلاثة الهندي: لم أر شيئا، ما سمعت شيئا، ما أعرف شيئا! يضعون أيديهم على عيونهم، وعلى آذانهم، وعلى الأفواه فرحين بما آتاهم الله من فضله! ما من أحد يفكر في مصائب الغد الآتي، وهنا يأتي السؤال الحرج ويأخذ مداه: هل فقدنا حس الزمن؟ ألما ندرك بعد هذه النقلة السريعة المذهلة التي تختطف أبناءنا وتغير بنيتنا والكيان بنية أخرى وكيانا آخر؟ إن الدنيـا تطير من حولنا ونحن عاكفون على أصنامنا الموروثة إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون.

ولن أطوف بجواب هذا السؤال الحرج على العالم، يكفيني أن أطوف ببلادي العربية، وما وضع السؤال إلا لها، هل فقدنا حقا حس الزمن؟

نحن ننتظر والعصر لا ينتظر

منذ مائة وخمسين سنة كان ما نسميه بعصر النهضة العربية ونحن منذ مائة وخمسين سنة لانزال نردد الأسماء نفسها: الطهطاوي، الأفغاني، علي مبارك، محمد عبده فإن أفلحنا أضفنا إليها اسم عبدالرازق وطه حسين، وقد بليت عظامهم مع آرائهم مع هذا العصر العاصف الرهيب، ونكرر ثنائيات جدل ما زالت معششة في جباهنا لا تريم، فمجالنا الفكري مشلول ضمن إطارها: الدين أم القومية؟ الأصولية أم المعاصرة؟ إحياء التراث أم هجره؟ الديمقراطية أم الاشتراكية؟ الاجتهاد أم التقليد؟ التنوير أم الجمود؟ التجديد أم المحافظة؟ ونحسب واهمين أننا نفكر حين نتحدث بها وندبج المحاضرات الطويلة والكتب حولها، وإذا كانت خلاصتها جميعا هل نقبل العصر أم نرفضه؟ فإن العصر لم ينتظر قرارنا، لقد جرنا برغمنا وراءه، أزال حتى القواعد التي نقف عليها، وألقانا في مقطورة المهملات، في ربع القرن الأخير الـذي نعيش. تجاوز الزمن هذه الثنائيات، أفرغها من المعنى، لم تعد مشكلة فكر، لأنه عمليا وواقعا جرنا وراء العربة ولا ندري. صارت هذه القضايا أمرا واقعا منتهيا وقضية محسومة!

وهذه الثنائيات لو نظرنا إلى ما تعني حتى قبل الآن لوضح أنها في طبيعة تكوينها زائفة فالدنيا تسير ويأخذ بعضها عن بعض، (وبخاصة يأخذ الضعيف عن القوي)، والثرثرة عمرها ما أوقفت العجلة عن المسير، ومع ذلك فمن ذا الذي قال إن الدين والقومية نقيضان؟ ألما نعلم أنهما بالنسبة للعرب بالذات وجهان لقطعة نقد واحدة، ولا يمكن فصلهما؟ فلولا الإسلام ما كان للقومية العربية وجود لأنه معناها العميق، ولولا جهاد العرب الأولين ما انتشر الإسلام شبرا في الأرض! ومع ذلك فنحن نقتتل والزمن يطير!

ويختصمون في "الأصولية" بل يقتتلون في جدليتها، ويجمعون الأنصار والخلايا السرية ويستخدمون السكين والرصاص والاغتيال، والدين يسر وسماحة وسلام وجادلهم بالتي هي أحسن، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك.. فهل يعلم المتطرفون أن 95% من القانون الذي به نحكم في أقطارنا هو قانون إسلامي محض؟ وليس ثمة خلاف إلا حول ثلاث قضايا: الربا والزنى وقطع يد السارق، وقد رفعت حول حدودها التحفظات حتى ما تكاد تنفذ، ومن ذا الذي ينكر تبدل الأحكام بتبدل الأزمان؟ إن الإمام الشافعي، وهو الإمام الثبت، حين انتقل من العراق إلى مصر رجع عن فتاواه كلها إلا أربعا، أليس لنا في ذلك الإمام أسوة حسنة ومجال تفكير لمن ألقى السمع وهو شهيد؟ إذن فلماذا لا ننتبه للزمن الذي هرب منا ونحن وقوف نختلف؟

إلام الخلف بينكم إلاما؟

وهذي الضجة الكبرى علاما؟

وفيم يكيد بعضكم لبعض

وتبدون العداوة والخصاما؟

ونختلف في أنواع النظم، ديمقراطية أم اشتراكية أم أوتوقراطية دينية، أليس كل نظام حر يحقق العـدالة الاجتماعية بين الناس بالنظام الرضي، أيا ما سميتموه؟ أم نصر على أن نبقى العبيد المقلدين؟ إنا نحار بين النظم. قل الدين نفسه يخرجكم من هذا التيه إلى رحاب الله، أقيموا مؤسسات ثابتة منظمة وطيدة للعدل وللمساواة وللشورى وللحرية، وسموا هذا النظام ما تشاءون إن هذا هو التحدي الأكبر للمسلمين من أصوليين وغير أصوليين في هذا العصر، إن فعلتم إذن فالديمقراطية والاشتراكية وغيرهما بعض من نظامكم ومما به تؤمرون إن مجرد الصراخ باسم المبدأ في حد ذاته لا يقيمه، ولا يقدم أو يؤخر، إن أسماء المبادئ مهما سمت أشبه بالأكياس الفارغة لا تقف إلا إذا امتلأت وصار لها قوام ملموس، مع كل ذلك فإنا نصر على الوقوف والصراخ، ودنيانا كلها تتحرك مبتعدة إلى المجرات أم نحسب ان المثل العليا ألفاظ سحرية يكفي التلفظ بها لتكون - دون جهاد عنيف وضحايا وفكر خلاق - صروحا ونظما تساير العصر وتسبقه؟

ثنائية التراث والعبث

ونتحدث عن التراث نحييه أم نهجره؟ وهذه ثنائية عبثية أخرى ما لها من قوام، التراث كروح ليس شيئا آخر سوانا نحن أنفسنا، ولا يمكن هجر ذواتنا وهويتنا ولو حرصنا، والتراث بوصفه مادة ليس بالقدسي أبدا "فيما عدا القرآن والسنة الثابتة" وقد صاغه مفكرون مثلنا لعصورهم، ويصوغ مفكرونا نحن لعصورنا ما يتفق معها. فما معنى ان نصر على ربط عيوننا إلى الخلف، وتناسي الزمن الراكض المتغير؟ ثم إن التراث في المدى ليس ابن عصر واحد، ولكنه نتاج تراثات عديدة في الزمان، وتراثات متنوعة في المكان ونحن بدورنا في أقاليمنا المختلفة مسكونون بقرون مختلفة ونعيش في بيئات متعددة والدين واسع فلماذا نضيق واسعا ونحن نلهث؟ ومن ذا الذي أغلق باب الاجتهاد وجعل التقليد هو الأساس؟ ونحن في عصر تفجرت فيه كل القيم وكل الحدود؟ ومن ذا الذي كتب علينا الجمود والمحافظة بل والعودة إلى الوراء، وألزمنا بها، والدنيا تمور بما لا عين رأت ولا أذن سمعت؟ وتتغير كل يوم خلقا آخر؟

هذه الثنائيات وأمثالها نحن صغناها بأيدينا، وبنيناها أسوار سجن من حولنا أقبلنا نطوف بها حيارى، لقد أضحت بالنسبة لأجيالنا الناشئة أصداء من الماضي البعيد، لقد أبحروا ونحن لانزال نمسك فيها بتلابيب الماضي، نريد أن نجعله هو المستقبل، قل تغيرت الدنيا بمن عليها وما عليها وأنتم تنظرون.

نوع من السلبية السكونية يرين على دنيانا، فنحن نطلق قمرا "عربيا" ولكن بأيد أجنبية، فمالنا وللأقمار "ونحن والقمر جيران"؟ ونعقد الصفقات البائسة مع أعدائنا ونسمي ذلك نصرا، ألسنا رؤساء دول؟ ونمد للحكام الآجال يحكمون؟ ولو أن بعضهم هزم ثم هزم منذ ست وعشرين سنة، ولا تشفي جنونه الثورة! وتظن الطبقات المستغلة المتورمة أن جماهير الكادحين خلقت خانعة خرساء وهي تكبر من يوم إلى يوم مع الزمن المتغير ولها صخب مكتوم بألف معنى. أعرفت ثورة البراكين الصامتة؟ وتنتحب الإذاعات لدينا بالأخبار نفسها سنين، والزمن آخذ المستمعين عنها بعيدا وبعيدا جدا وهي لا تدري! وتحسب مختلف النظم أن الزمن توقف عندها.

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي

متقدم عنه ولا متأخر..

كلا! وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب، وعن قريب سيكون التجويع وحده سلاح السيطرة ونضرب على بطوننا: إننا بحمد الله غير جائعين بعد. التباين بين زمن الدنيا الموارة وبين زماننا الذي أغلقت فيه كل النوافذ، وكتمت حتى الأنفاس وتوقفت الساعات أضحى هوة فلكية لا ينفع معها خداع الذات ولا إغماض الأعين! ويقولون لك إن الله خلق الدنيا في ستة أيام، وكان بإمكانه أن يخلقها في حرفي كن، قل عند الله القدرات كلها يحرك منها ما شاء متى شاء، ولو خلقها الآن لخلقها كيف شاء وبلمحة بصر، أما نحن فبشر نتسابق بقدرات أيدينا وفكرنا، والسكون هو الموت، والزمن يندفع بنا اليوم ولا اندفاع الشلال الهاوي من أعالي القمم!! وإذا كانت العرب تقول: "الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، إن لم تبادره بادرك"، فماذا يمكن أن يقولوا اليوم، وإنسان هذا العصر يركب ألف صاروخ مجنون تخرق الفضاء الكوني؟ في حين ننام نحن مع أحلامنا، وننتظر أن تتحقق الأحلام من نفسها؟ نضع استراتيجية التربية في سنوات ثم نستيقظ بعد عشرين سنة لنجدها قد تجاوزها الزمن فنعمل على تجديدها، وليس في نية أحد تطبيقها! ونقضي خمس سنوات في وضع استراتيجية للثقافة العربية، ويقررها وزراء الثقافة في المشرق والمغرب ثم لا يقرأ منها أحد حرفا ولا تطبق منها بعد ثماني سنوات توصية!.. ولعلنا ننتظر أن يفتحها بعض أبنائنا ليرى آمالنا الثقـافية في فترة ما كيف كانت! ونضع استراتيجية العلوم، ومعاهدات الدفاع المشترك، والتكامل الاقتصادي، وما شئت من قرارات المؤتمرات، ومن أدب: "اقرأ تفرح، جرب تحزن"، نحسب أنها تنفذ نفسها بنفسها، ويهرب الزمن منا ضاحكا من قبائل المغفلين! وأن بعضها لمما تجاوزه الزمن قبل أن يكتب، فلسنا نلحق فيه التغيير!

لا مكان للأحلام في هذا العصر ولا لإغفاءة الشعر، قتل الركض المسبحة الروحية. تلاحق الدقائق لم يعد يترك مجالا لتأمل الحياة التأمل الناعم، إنه عصر الكوابيس وعصر خشونة الواقع وهجوميته، انكسرت الروح الانكسار العنيف، ألست ترى أن الموسيقى قد عنفت، أسرعت، صارت هزات هستيرية وطبولا تصفق في حين لا نزال نحن على ترنيمة يا ليل التي تطول كل الليل؟ وعلى كلمة "تعال بكره"؟

أتراها شطحة من شطحات المنظار الأسود؟ أم أننا حقا فقدنا حس الزمن؟!.

 

شاكر مصطفى