جولة في العطاء الفكري للشيخ عبدالله العلايلي

جولة في العطاء الفكري للشيخ عبدالله العلايلي

يعتبر الشيخ عبدالله العلايلي، الذي ولد في بيروت حوالي سنة 1914، وتوفي في المدينة عينها سنة 1996، من أفذاذ علماء العربية المعاصرين، ومفكرًا إنسانيًا دخل من باب الدرس الفقهي الإسلامي إلى عالم الفكر الحضاري المعاصر وقضاياه. من مؤلفات الشيخ العلايلي: «مقدمة لدرس لغة العرب - المعجم الكبير - المرجع (معجم وسيط) - مدخل إلى التفسير - سورية الضحية - فلسطين الدامية - سلسلة «إني أتهم» - دستور العرب القومي - تاريخ الحسين - رحلة إلى الخلد - أيام الحسين - مثلهن الأعلى أو السيدة خديجة - أين الخطأ؟ - العرب في المفترق الخطر - الوجه الكرتوني - مجموعة مقالات وخطب (ثلاثة أجزاء) - من أجل لبنان (مجموعة شعرية)».

شكّلت آراء العلايلي وكتاباته، في قضايا الحياة وأمورها، تميّزًا مذهلاً له في مجالات الفكر الاجتماعي والرؤية الحضارية بشكل عام. ولو قدّر له من يتابع أعماله هذه ويعيد دراستها وتحليلها وعرضها، لكان لهذه الأعمال أن تشكّل، بمنهجها وتوجهاتها وخلاصاتها، نبراسَ معاصرةٍ للوجودين العربي والإسلامي، لا ينضب ولا يكلّ من هداية السالكين دروب العيش ومعاناة كثير من أزماته الخانقة وتحديّاته المرعبة. لكن منهج العلايلي لم يلقَ دعمًا سياسيًا حقيقيًا من أهل «السلطة» في زمنه، الذين كان بيدهم القرار، ولا لقي ما يمكن أن يشد أزره حقًا من تأييد ناس المعارضة، في ذلك الزمن، الذين كان بمقدورهم قيادة التغيير، ولم يكن العلايلي يحظى، شخصيًا، بدعم شعبي جماهيري واسع بين الناس، فغلبت عليه صفة اللغوي بينهم حتى الثمالة، فبات وكأنه، على خلاف حقيقته، مفكّر يحصر وجوده بنخبة معيّنة من ناس زمانه من دون غيرها!

وكانت النتيجة أن فكر العلايلي أصبح، إلى حد كبير، أسير كتبه ومؤلفاته ومحاضراته وما دوّنه بعض خلصائه من أحاديثه معهم، وخاصة في المرحلة الأخيرة من حياته، كما كانت النتيجة أن بعض القوم ما برح يتناسى، أو يعمد إلى تناسي، بحارًا عميقة اللجج، كثيرة الخيرات، من فكر العلايلي واقتراحاته وتصوّراته وكتاباته عن حلول تواجهها حضارة عيشهم المعاصر. ولعل من أبرز الأدلة على هذا أن بعض مؤلفاته ظلت رهينة «الحبس» حتى زمن قريب، أو يستصعب نشرها أو حتى الوصول إليها، ومنها كتابه «أين الخطأ؟».

في اللغة والأدب

تنهض كتابة العلايلي، تأسيسًا، على جدل عضوي بين الفكرة والتعبير اللفظي عنها. إذ، وكما يبدو، إن العلايلي لا يميل، ميل غالبية التقليديين من منظّري الكتابة عند العرب، إلى فصل لمضمونٍ عن شكل، بل هو، في تفعيله لهما، إنما يصدر عن رؤية لوحدة عضوية تتكامل فيها العلاقة بين الشكل والمضمون، مؤلفة لجدلية تشكل التعبير الكتابي. والكلام عند العلايلي لا يستحسن، تاليًا، البدء ببناء وجوده إلا من عمق الفكر والأسس التي ينهض عليها، فلا مقاربة لقضية عنده من خلال مظاهرها السطحية أو علائقها الجانبية أو الهامشية. ولما كان هذا الانبناء الفكري أساسيًا، إلى حد ملامسته أبعد أغوار ما في الفكرة من عمق، فإن انجداله باللفظ ومعه لا يكونا، عند العلايلي، سوى بكلمات هي من أُسّ التعبير اللفظي وصفاء وجوده، وبتعابير لفظية متكاملة فيما بينها، بأصالتها اللغوية ونضج بنيانها التركيبي. وكأن الكلمة عند العلايلي، بذا، تُقَدُّ من صوّان سبيكة تعبير قوامها الفكر واللفظ معًا، تكون أصالة الفكر فيها موجبة لأصالة اللفظ، كما يكون لأصالة اللفظ فيها ألا تقود إلا إلى أصالة الفكر ونضجه! فإذا ما كان للشيخ أن يواجه، في جبروت عمله هذا، ما هو وافد من ثقافات أخرى على اللغة والفكر، فإنه لا يتورّع عن الأخذ به، لكن بعد أن يسعى إلى إلباسه أفضل ما يجتهده له من أثواب التعريب الفكري واللفظي على حد سواء. وهكذا يتحقق لنص العلايلي عمق الفكر ونضجه، منجدلين معًا بصفاء اللفظ وأصالته ومتجليين بالأقوى من التكثيف والأبهى من الوضوح، ولعل في بعض حديث الشيخ العلايلي عن «الإسلام» ما يمكن أن يساعد في تقديم أنموذج عن هذا الانمياز في كتاباته:

«الإسلام في جوهره، حل من الحلول الكبرى و«فكروية أيديولوجية» متكاملة، له مميزاته المستقلة التي هي وحدها سر قيمته ومجلى شخصيته. نعم، هو منهج كلي لا يؤخذ تفاريق ولا يدرسُ أجزاء معزولة.. إنه يضع في خط الحل الواحد الممتد الحياة وما يختلف فيها، والتحرّك الإنساني وما يستشرف إليه». («أين الخطأ»، الطبعة الثانية 1992 دار الجديد، بيروت، ص 14).

أما في الشعر، فالعلايلي لم يكن مكثرًا فيه كما كان حاله في النثر. وما يجده المرء في شعر الشيخ من تركيز على الفكر، من دون الاحتفال الأكبر بالصورة أو التركيب الشعري لهذا الفكر، قد يدفع إلى موافقة العلايلي نفسه في قوله إنه ليس بشاعر وما ينبغي له أن يكونه. («من أجل لبنان» - قصائد دامية الحرف بيضاء الأمل، منشورات مؤسسة أ. بدران وشركاه للطباعة والنشر، 2008 بيروت، ص.4»). ويلاحظ المطالع لما كتبه العلايلي في مجال الشعر تسلط المنحى الفكري العقلي الصارم على قصائده ومقطّعاته، فقلّ أن تبرز فيها شطحات البهاء الشعري، وندر أن يرتع فيها رونق تألق التصوير أو بهاء المجاز أو حتى جاذبية التشبيه أو الكناية.

بيد أن البحر الذي خاض العلايلي عبابه بأروع ما يمكن لباحث أو عالم خوضه بموسوعية المعرفة وأصالة المنهج، هو بحر اللغة، إذ اهتم العلايلي للغة اهتمام البناء بتشييد عمارة يراد لها الرسوخ والاستمرار. ومن هنا، فإن العلايلي كان، باهتمامه هذا، يقف في هذه الساحة طامحًا إلى محافظةٍ على أصالة اللغة، وناهدًا، في الوقت عينه، إلى تطويرٍ فيها وتجديدٍ وتحديثٍ، الأمران اللذان فرضا على هذا المنضوي تحت لوائهما ضرورة اتباعه منهجًا متميزًا بجدية ومسئولية.

ضرورة تحقق المعرفة

ينطلق العلايلي في منهج تفكيري تأسيسي له في حقل اللغة، من مقولة ذكرها سنة 1938 في مقدمته لدرس لغة العرب، ومفادها أن «ليس محافظة التقليد مع الخطأ، وليس خروجًا التصحيح الذي يحقق المعرفة»، فالأهم من الأمور عند العلايلي يكمن في عدم الغرق في الخطأ والدفاع عنه، بحجة التقليد ومتابعة السلف. ولذا، فالعلايلي باحث دءوب عن الصواب، أما مقياسه في هذا البحث فضرورة تحقق المعرفة. ومن هنا، فإن المعرفة، بكل أبعادها وميزاتها ومتطلباتها، هي دافع العلايلي وديدنه في أعماله، أكانت هذه الأعمال في مجالات اللغة أو الدين أو الحضارة.

يعبّر عبدالله العلايلي، في كتابه «دستور العرب القومي» بوضوح عن مسألة اللغة، إذ يربط بين اللغة القومية والفكر القومي، قائلاً: «أنا أفكر بفكر عربي. فإذن أنا موجود عربي». ويتوضح هذا الربط، الذي تبنّاه العلايلي طيلة حياته، بقوله: «فإذا لم تكن لنا لغة قومية تامة صحيحة، فلن يكون لنا فكر قومي تام صحيح. ففرض إنسان من دون لغة معناه فرض إنسان من دون فكر». (المعجم - موسوعة لغوية علمية وفنية، طبعة دار الجديد، بيروت، 1997 ص 355). ومن هنا، يمكن القول إن اللغة أضحت عند العلايلي ضرورة اجتماعية ونفسية في آن، أهم بواعثها الفكر وعلاقاته ودلالاته وإشاراته المجازية، وهي، بذلك، مؤسسة ترتبط ارتباطًا مباشرًا بنشاط الإنسان.

أما كلام العلايلي، في هذا المجال، فيأتي متجاوزًا التوصيف، ليصب في خانات التفصيل والتنظيم والتعميق والتقعيد لموضوع اللغة. ويقول العلايلي إن «المعجم العربي في حاجة كبيرة إلى التشذيب والتخليص من حيرة المعنى، وهذا يكون في تحقيق الوحدة المعنوية لجذر اللفظ، ومن ثم رسم خط بياني، ما أمكن، لسيره حقيقة ومجازًا». ويزيد العلايلي في هذا «أن الشأن حيال اللغة، لاسيما ماضيها، هو الشأن حيال أي موضوع آخر داخله الغموض والتعقيد. لذلك لا يمكن اعتماد منهج التقرير والقطع، وإنما مبدأ السؤال والمشاركة في التساؤل». (المعجم، ص 381) ومن هنا، فإن العلايلي لا يحصر البحث اللغوي بالتضلّع اللغوي وحده، بل يوسّع في مجال المعرفة، مؤكدًا أنه لابد في البحث اللغوي من مشاركات جمّة فيما حفلت به المجتمعات البدائية من ترهيّات (ميثولوجيات) وأساطير وعادات، وما تعرّض له الكائن البشري من تطوّرات حِياوية (بيولوجية) ونفسية وإنسانية وإرامية (أثنولوجية) ثم حضارية». (المعجم، ص 383-384).

يتوزّع منهج العلايلي على عدة محطات وجود وفعل، فاللغة عنده ماض لابد من احترامه والحفاظ على منهج عمله، لا حبًا بالماضي وتقديرًا له فقط، بل رغبة في المحافظة على التواصل مع اللغة وبها عبر الأجيال وتوالي الحقب الزمنية. والحاضر، عند العلايلي، ضرورة تدعو بإلحاح إلى معاصرةٍ للغة وحداثة فيها لابد منها للتواصل مع الزمن الراهن بكل ما يحمله من جديد وتحدٍ عبر هذا الجديد. واللغة، عنده أيضًا، بوابة تحضّر لاستقبال الآتي من الزمن والتفاعل الإيجابي أو السلبي مع ما قد يقدّمه إلى مسيرة العيش الإنساني المستمرّة. ومن هنا كان على العلايلي أن يتّبع منهجًا مركبًا، شديد الإحساس بالماضي والتبصّر به، وعظيم الاهتمام بالراهن والتعامل معه، من غير ما إغفال للمقبل، ولكن ضمن شروط من الموضوعية العلمية وعبر مقاييس من صلب منطق بناء للغة متكامل فيما بينه قادرِ على حمل مسئولية ما يعمل عليه وينهدُ إلى تحقيقه وتفعيله.

الشأن حيال اللغة، عند العلايلي، لاسيما ماضيها، هو الشأن حيال أي موضوع آخر داخله الغموض والتعقيد، لذلك لا يرى الشيخ اعتماد منهج التقرير والقطع، وإنما مبدأ السؤال والمشاركة في التساؤل. فالتقرير القاطع في جوهره، عند العلايلي، التزام لتقاليد فكرية معينة، وهو توقف وجمود مهما اتفق وجاء منه. أما التساؤل، بمعناه المنطقي، فهو بنظر العلايلي مواصلة تجربة عقلية ظامئة لا تدع شيئًا على أنه انتهى. ومن هنا، يبني العلايلي المدماك الأول والأساس في منهجه اللغوي عندما يقرر أن اللغة، وهي مفعول طبيعي اجتماعي، لا تقاس بالفرضية، بل العكس هو الصواب، أي قياس مقدار سلامة الفرضية باللغة.

يرى العلايلي أنه لابد للمعجم من أن «يتضمن كل ما يشكّل الألفاظ والكلمات المستخدمة في أزمنة اللغة، بغض النظر عن كونها قديمة أو محدثة، وبغض النظر، كذلك، عن كونها من أصل اللغة أو وافدة عليها». (المعجم، ص 354-355). وهنا يرى العلايلي أنه لابد من اعتماد الطريقة العقلية في فهم اللغة، والتدرّج من المحسوس إلى المعقول بمقابلة ما بينهما ووصله في صيرورة مطردة».

العلايلي الموسوعي

وفي سياق آخر، فإن العلايلي الموسوعي، هو كل هذا الذي يعرف بين الناس والدارسين بـ«الشيخ عبدالله العلايلي». إنه رجل تمكّن من معارف عصره بمعظمها، لا في عالمه العربي ودنياه الإسلامية وحسب، بل في كثير جدًا مما عرفه زمنه من علوم وحقائق، وما حفظه ذلك الزمن من أزمنة أخرى سبقته وشكّلت الماضي المعرفي للإنسانية، فالمرء إذا ما دخل آفاق عوالم العلايلي المعرفية، عبر ما كتبه الشيخ أو تحدّث به، فسيجد الرياضيات مجاورة للفقه، واللغة مصاحبة للحضارة وإيقاع التاريخ ونمو المعرفة وتوسع الإدراك وانفتاح المجتمعات، كما سيجد السياسة تتناغم، في فهم الشيخ لها، مع الجغرافيا والاقتصاد، والحاضر ينبني، عنده، على رؤى المستقبل بعد أن يعبّ بناؤه من تجارب الماضي. ولعل من الطريف، ههنا، تبيان أن العلايلي فرّق بين الشرح المعجمي الهادف إلى إزالة الغموض، والشرح الموسوعي، الناهد إلى التفصيل والبيان. ويخلص العلايلي، بذا، إلى أن الفرق بين المعجم والموسوعة فرق في المحتوى والمضمون وليس فرقًا في مبدأ الإثبات. ليستنتج، تاليًا، أن ما هو أكثر تعلقًا بالجانب اللغوي هو «معجم»، وما هو أكبر عناية بالجانب العلمي هو «معجمة».

يتضمن المعجم، في نظر العلايلي، كل ما يشكّل الألفاظ والكلمات المستخدمة في أزمنة اللغة، بغض النظر عن كونها قديمة أو محدثة، وبغض النظر كذلك عن كونها من أصل اللغة أو وافدة عليها. والمعجم العربي، وفقًا للعلايلي، في حاجة كبيرة إلى التشذيب.

وينظر العلايلي في قضية «الممات» من الألفاظ وفقًا لناحيتين، أولاهما المعاجم المدرسية، ويرى أن من عملها أن تفرغ للتزوّد بالنافع من اللغة للاستعمال، وثانيتهما المعاجم الكبرى، ويقوم مبدأ العمل فيها، عند العلايلي، على أنه لا اعتراف بممات، لاسيما أن الإماتة ليست لشيء في ذات الكلمة يخنقه إثر الولادة، بل هي عضويًا تخضع لظروف الكائن فيما داخله منها وخارجه، وواجب هذه المعاجم ألا تعترف بممات ومهمل ماداما يمدّان بما هو معبّر وبما هو سليم الجرس وعذب الوقع على الأذن. والإماتة حين توضع في حدود الظروف الحافّة بالمستعمل، وتنقل من حيّز الكلمة بالذات إلى حيز العلل الفاعلة، توضّح كيف أن مماتا لا يظل في مدرجة الموت، وأن حيّا لا يظل في زهزهة الحياة.

يُظهر العلايلي، في موضوع الاشتقاق، (المعجم، ص.359-360) منهجًا اجتهاديًا تجريبيًا ينهض على ما يمكن اعتباره براغماتية لغوية. ويرى العلايلي، في هذا المجال، أن تُعرَض المشتقات من باب الاقتراح الخالص، فما استحياه الناس يبقى وما أمسكوا عنه آل إلى المنحدر. ولعلّ من أبرز الأمثلة على هذا ما كان من جهد للعلايلي نفسه في اشتقاق لفظ عربي سليم بديل من اللفظة الأعجمية لما يعرف بـ«التلفزيون». وقد كان لي حظ أن أسمع منه شخصيًا، في إحدى الجلسات الخاصة التي تسنّى لي اللقاء به فيها قبيل وفاته، حكاية هذا الاشتقاق. قال العلايلي إنه انطلق من اللفظ «رنا-يرنو»، الذي يفيد إطالة النظر إلى الشيء، ليشتقّ منه لفظ «مرناة» تعريبًا لما يعرفه ناس هذا الزمن بـ«التلفزيون». لكن جمهور الناس، ولأسف العلايلي يومها، أبى الركون إلى «مرناة»، بالرغم من كل ما فيها من عذوبة لفظ وسهولة أداء وسلامة تركيب لغوي عربي، وآثر الإبقاء على «تلفزيون»، بكل ما فيها من عجمة لفظ وأداء وتركيب!

يتخذ العلايلي من موضوع الفصيح والعاميّ، الشائك والمثير لكثير من الجدل بين الناس، موقفًا هو ابن المنطق اللغوي العام الذي تبناه شخصيًا، والمنادي بحيوية اللغة وضرورة استمرار تفعيل هذه الحيوية في مجالات المعاصرة الزمنية. ويرى العلايلي أن ما هو عاميّ، في كلام الناس، أو يشكّل ما يعرف بالمحكيّة، يمكن أن يعمل عليه اللغويون لتفصيحه.

في الفكر الحضاري

لكن العلايلي يظلم كثيرًا إذا ما ظل حبيسًا في عالم دراساته الدينية الإسلامية واجتهاداته اللغوية العربية، فالرجل، قبل أن يكون عالم دين إسلامي لافتًا للأنظار، وقبل أن يكون باحثًا نِحريرًا في مجالات اللغة العربية هو إنسان صاحب منهج فكري عام، منهج أساسي وتأسيسي في آن، ولقد عمل بمنهجه هذا في اللغة وأمور الفقه، كما عمل به في سائر مجالات الحياة وقضاياها، مهما تنوّعت وتعدّدت وتباينت، ولعل في كتاب «أين الخطأ؟»، الذي أصدره العلايلي لأول مرة سنة 1978 ما قد يشكل أنموذجًا لما تمكن الدعوة إليه من تعامل للعلايلي في مجالات الاجتهاد الحضاري.

وإذا ما كان تحقيق المعرفة يشكّل الخطوة الأولى في انطلاق منهج العلايلي في الاجتهاد الحضاري، فإن لهذه المعرفة، عنده، أسسًا تقوم على مبدأين أحدهما ديني إيماني، وثانيهما موضوعي علمي. أول المبدأين، أن الانطلاق إلى المعرفة يكون من كتاب الله، من القرآن الكريم، وليس من رغبات الذات ودوافعها، وثانيهما أن المجتمع وجود سيروري، ديناميّ، لا يعرف السكون إطلاقًا. يرسم العلايلي الخطة التنفيذية لمنهجه هذا بقيامها على مقولة أن في القرآن الكريم ما يسد جميع احتياجات السيرورة الدائمة الحية للمجتمع. وينقل العلايلي في هذا الصدد، عن الإمام مالك قوله: «كان من قبلنا يعمدون إلى كتاب الله وسنّة نبيّه فيتلقون الأحكام. أما اليوم فنعمد إلى رغائبنا، ثم نبحث في كتاب الله وسنّة نبيّه عمّا يسندها ويشهد لها». («أين الخطأ؟»، ص13-14).

ويرى العلايلي أن الإسلام، كما هو في القرآن الكريم، «يضع في خط الحل الواحد الممتد، الحياة، وما يختلف فيها، والتحرّك الإنساني، وما يستشرف إليه» «أين الخطأ؟، ص.14». ثم يردف، العلايلي، مشيرًا إلى «أن مجتمعًا بهذا المفهوم الإسلامي، هو مجتمع حركي «دينامي» ناشط، لا تخاذل فيه ولا وهن، يسعى ونسعى جميعًا نحو خيره وكماله، يعمل ونعمل جميعًا في سُنن هناءته وازدهاره، وعلى هذا، يعلن العلايلي أن المجتمع يقوم، عبر ما في النص القرآني، على أسس من أبرزها («أين الخطأ؟»، ص.15):

1) حق الإنسان في الحرية.

2) حق الإنسان في الاستقلال الشخصي.

3) الحرية الإنسانية في العمل والإنتاج والجهد.

4) مبدأ المسئولية الإنسانية الشخصية في الجزاء.

5) نظرية الجزاء للحق العام.

ويؤكد العلايلي أن «هذه الشريعة (هي) القَمينةُ برمِّ ما يَفْري عالم اليوم من سقمٍ عياء ويستبد به من حُمًى برحاء.. ينعكس فعلها في الفكر والمجتمع ومناهج السلوك، إذا ظلت أسيرة قوالب جامدة. وهذا ما حاذره المبعوث بها في قوله الشريف صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث لهذه الأمة، على رأس كل مائة سنة من يجدد دينها». ويعلّق العلايلي على هذا الحديث الشريف بأنه «دستور كامل لحركية الشريعة و«ديناميتها» في مجال سيرورة الزمن، فهي تَجدد دائم يدوس أصنام الصيغ في مسار طويل، فشأنها أنها غضّة الأماليد أبدًا. ويرى العلايلي أن عبارة «يجدد دينها» أمعن في الدلالة على «التشكّل والتكيّف» بحسب الموجب أو المقتضى، لأنها تتجاوز الترميم إلى الإبداء والإنشاء، إنشاء آخر. فهي عند العلايلي عبارة لم تخص التجديد بشأن دون شأن أو بأمر دون أمر، بل أحيانًا في أمورها مجتمعة، وهذا واضح، عنده بكلمة «دينها» الذي هو هنا بمعنى الأقضية والنظم. ولا يقف العلايلي عند هذا الحد، بل يرى أننا «إذا ضممنا الحديث السابق إلى مثيل له، وهو: «إني بعثت بالحنيفية السمحة» يتضح ببيان جليّ، أن خاصيّة الشريعة الأولى هي الطواعية ومجافاة التزمّت والحرج والرهق. ولقد استبانت هذه الخاصيّة بكل سطوع عند القدماء، وصاغوها في كليّات أصولية فقهية («أين الخطأ؟»،ص 18):

1) إذا ضاق الأمر اتسّع، ولذا كانت «الرُّخص»، بمعنى أن الأخف يَفْضُل الأشق غالبًا.

2) الضرورات تبيح المحظورات.

3) المشقّة تجلب التيسير.

ويستخلص من توجه العلايلي هذا، أن ثمة شريعة عملية تظل مواكبة للشريعة العقدية، إن جاز التعبير، وهذه الشريعة العملية، برأي العلايلي، من الليان بحيث تغدو طوع البنان، إزاء الظرف الموجب، مهما بدا متعسّرًا أو متعذّرًا. يتساءل العلايلي، بعد هذا كله، عن كيفية ما يسمّيه معالجة الشريعة العملية، توصلاً إلى حصيلة يمكن أن تكون أساسًا لتقديم الشريعة تقديم «الفكروية: الأيديولوجية»، الحاوية لعناصر الخلاص في المضمار الاجتماعي العام، المتزوبع اليوم على ذات نفسه تزوبع الأعاصير السافية»، ويأتي الجواب عند العلايلي، من خلال تصوّر مؤسساتي وفردي في آن، إذ يرى أنه «ليس على الباحثين فقط بل على كل الدول الإسلامية إنشاء المؤسسات العاملة عملاً جاهدًا في هذا الحقل، ونشر فروعها في كل مكان من العالم، وليس على أساس كون الشريعة دينًا بل على اعتبار أنها منهج حياة وسلوك». («أين الخطأ؟»، ص20).

وبناء على ما سبق، يدعو العلايلي إلى رؤية حضارية لعيش الاقتصاد الاجتماعي المعاصر، تقوم على أسس من أبرزها («أين الخطأ؟»، ص29-40):

1) أن الفرد ليس بحاجة إلى الثروة، إذ الثروة ضرورة اجتماعية فقط.

2) تحريم الكنز، منطلقًا من النص القرآني: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (التوبة).

3) جبريّة الحركة في تداول الإنتاج والمال.

4) تطبيق التكافلية بين الناس، والتكافلية، عند العلايلي، غير الاشتراكية القائمة على المساواة، إذ يرى في التكافليّة:

أ) جبرية القرض، منطلقًا من قوله تعالى في القرآن الكريم وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا (المزمل).

ب) وجوب فترة السماح في القرض، منطلقًا في هذا من قول الله في القرآن الكريم وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ (البقرة).

خلاصة عامة

إن هذه الأمور التي أمعنّا فيها، لضيق الوقت وضرورة الإشارة في آن، إيجازًا وتكثيفًا، مرشّحة لأن تؤسس أمرين كبيرين بإمكانهما توفير مساهمة فعّالة في نهضة عربية لابد من العمل على تحقيقها في الزمن الحالي. أحد هذين الأمرين هو منهج في النظر إلى جوهر اللغة العربية وآلية التعامل معها وبها حفاظًا على ما فيها من جوهر حيّ وقابلية كبرى للتفاعل مع متطبات العيش ونمو الفكر وانطلاقه التجديدي والإبداعي، والآخر، مبادئ نظام اقتصادي إنساني حيوي لا يتعارض مع متطلبات السيرورة الاقتصادية العالمية والمحلية على الإطلاق، بل يحمي سلامة حركيّة كل منهما، وحسن ارتباطها بالأخرى، ويؤمّن رفاهيّة ناس هذه السيرورة.
--------------------------------
* أكاديمي من لبنان

 

وجيه فانوس*