قراءة نقدية .. في:
رواية من تأليف صنع الله إبراهيم
رواية "ذات" رواية سـاخنة، وصنع الله إبراهيم كاتب غاضب متمرد على الواقع، وعلى الأشكال الأدبية. لكنه لا يرفض قارئه ولا يحيره تحت دعاوى الحداثة والتجديد. هو يصر على الوضوح الصارخ الجارح. يطمح لأن يقول كلما يمكن أن يقال وحتى مالا يقال. ضائق هو بقيود النشر، ضائق بتهذيب اللغة الأدبية التي لم تعد تستطيع أن تحمل ما في الـواقع من غلظة وفجاجة، ضائق برومنتيكية الأدباء والمتأدبين الذين يسمون السنة أو العام.
لا شيء يكشف المتناقضات التي يقوم عليها فن صنع الله إبراهيم الساخر الجارح سوى الضوء البـاهـر الذي يسلطـه على الشخصيات والأمـاكن والكائنات من فوق ومن تحت ومن جميـع الاتجاهات. لا شيء يجدي هنـا سـوى الكلمات الحادة المدببـة، والجمل المرتبة في دم بارد وقصدية وتعمد، في سخرية مـرة مـؤلمة مـن "الـذات "، ومن "الأدب " ومن"الوطن". ليس مجرد سخرية.. بل "هجاء ".
الواقعية الجديدة
"تلك الرائحة "هي الرواية الأولى التي صـدرت لصنع الله إبراهيم، صـدرت الطبعة الأولى 1966، وصودرت. ثم صدرت لها طبعة غير كـاملة في القاهرة 1966 عن دار الثقافـة الجديدة، إلى أن صـدرت لها طبعات كـاملة في عـام 1986 في كل من القـاهرة والخرطوم والدار البيضاء. وأصبحت الرواية رغم بساطتها حادثا أدبيا، لأن الفنان فيها كان يقرر نوعا خاصا من الواقعيـة يتحدى به الذوق العام المستقر. ويدخل بالتعبير إلى مجالات كان يحفل من الولوج إليها الأدباء الذين يخافون على اسمهم وسمعتهم وعلى قبول المؤسسات لهم.
في شهادة أخـيرة نشرتها مجلة فصول القاهرية للكاتب يقول: "في لحظة يأس ولـدت روايتي الأولى " تلك الرائحة" التي اكتفت بأن ترصد الواقع كـما هـو دون محاولة للتأويل أو التفسير، على الأقل من الظاهر. فقد كان ثمة إيحاء ما مـن خلال عملية الانتقاء للظواهر المرصودة. وانعكس ذلك الاختيار على اللغة، فالجملة فعلية، قصيرة، تخلو من التشبيهـات وألوان البلاغة التقليدية، من الترهل والاسترسال المعتادين في السردالعربي، جملـة محايدة تقريرية، لا تحيل على شيء. منظـومـة في تتـابـع لاهث، لايتـوقـف للتحليل والتمحيص والتعقيب. ترصـد كل شيء، فظواهر الواقع كلها تساوى في القيمة: ترصد وحسب دون أن تحفل بالتقاليد الاجتماعية ولا بالتقاليد الأدبية (فلا تتورع عن الركـاكـة في التركيب، أو التكـرار لبعض الأفعال أو أدوات الوصل، ولا تحفل بضيق القاموس المستخدم) لكنها تسمح بمعارضات غنائية تتعلق بالماضي ".
كانت الواقعية الجديدة التي تقررت في أعمال يوسف إدريس والشرقـاوي، وفي أدب إحسان عبدالقدوس ونجيب محفوظ كما يقول صنع الله في نفس الشهادة قد تكشفت عن وجه غير واقعي بالمرة "تكشفت الواقعية عن رومانسية ضحلة، لم تلبـث أن فقدت مصـداقيتها وجاذبيتها".
ولأن الكاتب المتمرد لا يملك تكرار التجربة، ولأن همه الأساسي كـان هو الإلمام بالواقع ومحاولة فهمه لا مجرد رصده، فقد ألقى بنفسه هو ومجموعة من الرفاق في خضم تجربة مصرية كبيرة هي موضوع السد العالي. (إنسان السـدالعالي: بـالاشتراك مع كـمال القلش، ورءوف مسعد دار الكتاب العربي 1967).
سافر الكاتب إلى الاتحاد السوفييتي "السابق " وعدد من الدول الاشتراكية لعدد من السنوات، ثم عاد لكي يقدم تجربـة السد العـالي نفسها في عمل روائي كبير هو "نجمـةأغسطس" 1974 والتي أظن أنها تقـرر اتجاه الروائي الجديـد. ثم بعد ذلك تأتي روايتـه الأشهر "اللجنة " 1981 التي وقع فيها أسير الرؤية " كافكا " ولكنه سرعان ما نفضها وعاود طـريقه الخاص في بيروت 1984.. حتى صـدرت لـه أخيرا " ذات " في القاهرة.
خلال تلك الفترة الزمنية الطويلة قد مصنع الله عددا من الترجمات الأدبية والسياسية لعل أهمها رواية (الحمار) للكاتب التشيكي جـونتر دي برون، وروايةالعدو لجيمس دروت. في نفس هـذا الـوقت اهتم الكـاتب بإصدار روايات وقصص وحكايات علمية للأطفال بلغ عددها حوالي اثني عشر كتابا، حاولـت رصد هذه الأعمال ليس لمجـرد التعريف بها وتأكيد دأب الكـاتب وجـديتـه في العمل ولكن أيضـا لكي أوضح أنـه من القلائل في مصر الذين لم يلتحقوا بأعمال ثابتة في أجهزة الصحافة والإعلام. فقـد حاول أن يعيش من كتابته وهذا أمر نادر. كما أن تنوع هذه الأعمال وعدم اتخاذها لنسق واحـد يؤكد أنه باحـث، مغامر، وجـادفي نفس الوقت.
يقول في ختام شهادته المنشورة في مجلة " فصل "القاهرية:
تقول سيـزا قـاسم في دراستها عن روايـة نجمة أغسطس: "الأدب هو الوسيـط الممتاز، وربما الأساسي للمعرفـة: معرفة العالم ومعرفةالذات. وفي مجتمعات يتم فيها إخفاء الحقيقة وتشويهها وقمعها، تصبح وظيفة الأدب هي كشف الحقيقة وفضحها " . لست أتبنى هذه النظرية بشكـل مطلق، فقد علمنا التاريخ أن نتحفظ أمام أي حديث جازم بشأن وظيفة الأدب أو الدور الاجتماعي للإبداع.
كـما تعلمنا أن هناك دروبا عديدة تؤدي إلى الـواقع، بعضها يبدو للوهلة الأولى أبعـد ما يكـون عنه، بمثل ما تعلمنا أن الأمر كله لا يعدو أن يكـون لعبا. وعند محاولة تلخيـص تجربةإبداعية ما، ينبغي القـول بأنها مسعى آخـر. من بين عـديـد من المساعي المتباينة، للإمساك عن طريق الأدوات المتاحة، وعلى أساس من مزاج وتكوين منفردين.. بذلك الهدف المستعصي دائما عبر العصور.. ألا وهو الواقع ".
ذات.. الرواية والشخصية
"ذات " اسم فتاة مصرية عادية من الطبقة المتوسطة. والرواية سيرة حياتها وزواجها وعملها، وفراغ حياتها وعلاقاتها.. وأحلامها.
"نستطيع أن نبدأ قصة ذات من البداية الطبيعية، أي من اللحظة التي انزلقت فيها إلى عالمنا ملوثة بالدماء، وما تلى ذلك من أول صدمة تعرضت لها، عندما رفعت في الهواء، وقلبت رأسا على عقب، لكن بداية كهذه لن يـرحب بها النقـاد، لأن الطـريق المستقيم في الأدب والأخلاق على السواء، لا يؤدي إلى شيء ذي بال ".
بهذه البـداية تبدأ الرواية. وفيهـا يتضح الطريق الخاص الذي ينوي أن يوغل فيه الكـاتب على مـدى عشرة فصول مخصصة لرواية حياة ذات. ذات ضئيلة الشأن قليلة الحيلة. التي تنتقل من الختان، إلى الزفاف، إلى الإنجاب، إلى المدرسـة والجامعة الفـارغة..إلى العمل الأشد فراغا وإجدابا.
بين الفصل والآخر فصل من نوع مختلف. فصل من الأخبار وعناوين الصحف، والأحـداث التي تلخص الانهيار والفساد الرهيب الذي عاشه الوطن منذ منتصف الستينيـات حتى الآن. كل أنواع الانهيارات والفساد والرشوة والتبعيـة، وكذب الجرائد والمسئولين وجـرائم الانفتاح، وشركـات الاستثمار، وشركـات توظيف الأموال الإسلامية، وتراجع الأحلام، وفساد الذمة، وفقدان المعنى.. كل هذا.. وغيره مكثف في فصول تحمل الأرقام الزوجية، بينما تظل فصول الرواية التي تحمل الأرقـام الفردية تسرد تطور حياة ذات بعد زواجها وسقوطها فريسة للاستهلاك والطموح المادي المجـرد الفارغ. تقول الرواية قبل البداية: "الوقـائع الواردة في بعـض فصول الروايـة منقولة من الصحف المصرية،القومية منها والمعارضة، ولم يقصد بإعادة نشرها تأكيـد صحتها أو المساس بمن تناولتهم وإنما قصد به المؤلف أن يعكس الجو الإعلامي العام الذي أحاط بمصائر شخصياته وأثر فيهم ".
الصورة التي رسمتها هذه الفصول الوثائقية بشعة صارخة وإيقـاعها مخيف، وتصاعدها كأنه وقع طبول آكلي لحوم البشر، لكنها بقيت مفصولة عن "مصائر شخصيات الرواية".وكـل المحاولات التي بذلها المؤلف للوصل بين النوعين بدت خفيفة خفية متهافتة، إلى الحد الذي كنت أتمنى فيـه أن تظل هذه الفصول بدون أرقام وأن تخضع إلى نوع مختلف من المونتاج أو الاختصار. إن ضخـامة الجهـد التوثيقي الـذي بذل في جمع هذه العناوين والحوادث والجرائم لا يبرر إيرادها كما هي. بل إنني أشعـر أن كثيرا منهـا قـد دخل إلى السياق السردي بعد أن اكتسب حياة فنية تدخله في لب التكوين الروائي.
الدلالة السياسية والاجتماعية للرواية موجودة أكثر في الجانب السردي الذي يحوي قصة حياة ذات. إن القارئ الذي يحتمل على رأسـه دقات المصائب التي تحويها الفصول التوثيقية.. يقول لنفسه ثم بعـد؟ إنه يبحث عن متنفس في الفصول الـروائيـة التي تحكي حيـاة البشر. حياة "ذات" وزوجهـا وزملائهـا وجـيرانها..أصدق وأعمق دلالة على بشاعة ما يحدث حولنا.
الرواية - فعلا - جـديدة من ناحية شكلها الفني المتميز: تلك التوليفة المجـدولة بين السرد القصصي الـذي يـروي حيـاة "ذات "، وبين تلك العناوين والأخبـار، والجرائم، والانهيـارات التي تشكل الجو الإعلامي العام الذي أحاط "بذات" وحياتها لمدة تقترب من ربع قرن. حكم فيها مصر ثلاثـة رؤساء للجمهورية، ثلاثة أنظمة مختلفة الطابع والتوجـه. الرواية أيضا جديـدة في الجرأة السياسية، والاجتماعية. إلا أن المسألة الأساسية هي أن هذاالتجديد ظل ظاهرا، ظل مقصودا، متعمدا ولا أقول.. مصنوعا.إن الرواية نفسها- شكلا ومضمونا - تقترح علينا تطورا أصيلا.. ظل القارئ ينتظـر هو يفتقده طوال الـوقت.. ذلك التطور المفتقد المطلوب هو أن تـذوب الوقائع التوثيقية داخل السياق السردي.. داخل شخصيات الرواية.. داخل ذات الرواية. بهذا كان سيتحقق التجديدالفني تلقائيا. كنا سنكسب واقعا حيا، وكـانت الدلالة السياسية الصارخة ستكتسي لحما فنيا ويسري فيها دم أدبي خالص.
ذات الاسم والدلالة
اسم ذات، لم يطلق على البطلة عبثـا. إن اختيار الاسم جـزء من أسلوب الكـاتب في الكتابـة، وجزء من رؤيته للواقع. هـي أولا أنثى، وذات المرأة، غالبا سرية غامضـة. ذات المرأة غالبـا ما يقع عليها قهر مضاعف. "بـالإضافةإلى ذلك فإن النظرةالعصرية لفن القص هي نظرة حسية ذكورية تماما ". الكاتب الـذكـر يكشف لنا ذات المرأة، يعـريها في قسـوة وإصرار. فـماذا يجد.الذات- بدون أداة التعريف - ذات هنا مثال نموذجي للفراغ الداخلي، للعجـز، للضعف، للتردد، لاستحالة الوجود الإنساني في هذا الواقع. في ليلة الدخلـة اكتشف الزوج عبدالحميد أن البضاعة التي أنفق عليها كل مدخراته، ورهن بها مستقبله (زوجته ذات) لم تكن سليمـة تماما. هي بضاعة إذن!. وبسبب محدودية العملية التقاليدية التي أجريت لها في طفولتها (الختان) كانت تجد صعـوبة بالغة في التركيز، وتنتابها حالة غريبة عند القراءة أو الكتابة، تمتطي فيها الكلمات ظهر بعضهـا البعض، فتختلط الألفاظ والمعاني. كلما اقتربنا من ذات. وكل ماتقدمت الرواية ودخلت ذات في دوامةالاستهلاك الانفتـاحي، والطمـوح المادي المجـرد من المعنى اكتشفنـا أنـه لا ذات لها، وأنها فـراغ مخيف. كيف يمكن أن تتكـون "ذات"في هذاالواقع الرهيب؟.الناس في هذا الواقع لا تتواصل ولا تتحدث ولكنها "تبـث". "البث" لا يحتـاج إلى "ذوات" ولكـن لأجهزة إرسال واستقبال. وكل ما عند "ذات " من أشياء ذاتيـة خـاصـة يقابل من العـالم الخارجي بالمقاطعة. هذا العالم لا يسمح بشيء ذاتي خاص. علاقتها بعبدالناصر، الحلم، تجربتها مع اليساريين في الجامعة، تجربة محو الأمية..إنسانيتها أو طيبتهـا أمام الفتاة التي صعقها التيار الكهربائي، أو غضبها على البضائع الفاسدة، محاولة اعتراضها على الروتين أو الفتنـة الطائفية.. أو تعاطفها مع المرشد العجـوز في الجمرك كل هذه الأشياء الذاتية لا مكـان لها في هذا الواقـع الذي لا يسمح إلا بذلك التصارع المادي على الاستهلاك، والدوران في دائرة الهدم والبنـاء، وقـد فرغت الروح، وتحول البشر إلى قطط تتصارع على صفائح الزبالة في سلم العمارة.
يحمل الفصل الأول من الرواية أغلب خيوط الرواية الأساسية بحيث تدور الروايـة بعد ذلك في دوائر، أو تصبح تنويعـات علىأنغام أساسية. كلهـا تؤكـد فراغ "ذات " استحالة وجود ذات لها، رغم العمل والدوران في أعمال البيت، وإتقـان التنظيم والإدارة للشئـون اليومية الصغيرة.. لكنها دائـما ضئيلة الشأن قليلة الحيلة ليس لها مكان خاص.. سوى المرحاض حيث تذرف الدموع. لكنها تمضي في الحياة، خطوط خارجية تتغير .. تكـبر.. تتزوج.. تحمل، تلد..لكنها فارغة بلا ذات وينتهي الفصل الأول نهايـة مأسـاوية جميلـة: " هل تسرب إليهـا اليأس؟ أبدا، فـما أن تنتهي من ذرف الدموع المناسبة، حتى تحاول من جديد ". هذا هـو واقع ذات.. أو الجحيم.
المنفلوطي والواقعية القادمة
تعلن كتابة "صنع الله إبراهيـم" في هذه الرواية عن وفـاة الرومانسيـة، تحت الضوء الباهر، والحدة القـاطعـة في الرؤية وفي التعبير، تختفي الظلال بل والمشاعر. عالم القرون الوسطى، والجروتسك، عالم الرسام القديم بيتر بروجـل في لوحاته " لعب أطفال"، "ويوم القيامة" التي تقترب من دنيا" الكاريكاتير" لولا بـراعـة التفاصيل والعمق الـداكن للرؤية الإنسانية.. هو عالم الرواية، عالم صنع الله الذي خرج من تجربته مع "كافكـا" أكثر شراسة خاصـة عندما استعمل الوقائع والوثائق الدامغة التي تحول الحلم أو الوهم "الكفكاوي "إلى كابوس خاص جديد له ألوان وإيقاعات مصرية.
لغته هي إحدى الظواهر الجديدة في الرواية. فهي ليست تلك اللغـة الباردة المجردة التي بـدأ بها رحلـةالكتابة. ولكنها لغة دسمة مركزة تبحث عن بلاغة جديدة أكثر إيلاما، وأكثر قدرة على حمل المتناقضات. لغـة تسخـر سخرية سوداء حتى من اللغـة. لم تعـد مشكلته هي العاميـة أو الفصحى. فهو قـادر على ابتكـار ما يريد من كلمات وتراكيب "عصريـة " إن مشكلتـه هيحـدود التعبير. حدود الذوق العادي المألوف الـذي تشعر بـه وكأنه يريد أن يكسره في كل جملة وفي كل تعبير.
لم يكتب صنع الله إبراهيم روايتـه عن القرية ولا عن الفقراء العمال والفـلاحين، لكنه اختار أعقـد الطبقات وأغناها بالدلالات، تلك الطبقة الملعونة بلعنة الصعود والهبوط، بلعنة الطموح والإحباط كـما اختار أن تدور أحداث روايته في مصر الجديدة، ذلك الحي الذي بناه "الخواجات "جميلا منظما، وأفسده المصريون وأشاعوا فيه الفوضى والقذارة.
كـما تخلص أيضـا من الرمـز الساذج والإسقاط، واختار أن يتحـدث في السياسـة بصراحـة ووضـوح موفق ينم عن قـدرة وفهم أصيل لما أسماه في شهادته الوظيفية الاجتماعية للفن.
لعل الفصل الأخير وهـو التـاسـع عشر من أجمل فصول الرواية ففيـه تخرج "ذات " من الدوائر الجهنمية لفراغ ذاتها. ويتحدث الفصل عن الخدم الذين التحقوا بخـدمتهـا تقول بـداية الفصل: " ألـف المصريون المحدثـون تأريخ أيامهم بالتقويم الثوري (قبل 1952وبعدها) قبل أن ينتقلوا إلى التقويم الرئاسي للثالوث الذي تعـاقب على الحكم بعـد الثورة (عبـدالنـاصر، السادات، مبارك) أما ذات فكـان لها تقويم خـاص يعتمد الثـالوث الأمومي الذي تعـاقب أفراده على خدمتها: أم أفكار، أم عاطف، أم وحيد ".
التناقضات.. والواقعية القادمة
رغم كل الضوضاء التي تثيرها مذاهب الحداثة والتجديد والتجريب في الأدب إلا أن الحصيلـة الفنية لكل هـذا قليلـة شاحبـة، تقف كلها عنـدالتدريبات اللغـوية أو التعبيرات المرضيـة عن ذوات فنيـة قليلة التجربة ضئيلة المعرفة بالواقع. وعندما نعثر على رواية مثل " ذات " لصنع الله إبراهيم فـإننـا نشعر بنوع من الصحة وبأن هناك نافـذة مفتوحة وطريقا محددا. وعلى الرغم من أن أغلب النقاد الذين رحبوا بهذه الرواية كـان همهم الأسـاسي الـدلالة الاجتماعيـة والموقف السياسي الحر والجريء للكاتب إلا أن ما يلفت النظر حقا في هذا العمل هو التناول الفني والبحث الجاد عن حرية التعبير وعن الخروج من الشكل التقليدي ليس فقط للرواية، ولكن عموما للكتابة العربية.
لقد حقق صنع الله إبراهيم شهرة وسمعـة طيبة على امتداد العالم العربي، واحترم قلمه من يختلف معه فكريا ومن يتفق. ورواية "ذات " تـوحي بأن الكـاتب على وشك الاستقرار إلى حلول أصيلة وخـاصة لمشاكل الشكل الأدبي والتراث التي أعتقد أنها واحدة من أعقد مشاكل حضارتنا العربية الآن.