أمانات الرسول صلى الله عليه وسلم فى متحف توب كابي فريد أبوسعدة

 لقد تفنن المسلمون في إظهار محبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم وكان إبداعهم الذي تميز بالابتكار والإخلاص والدقة نوعا من التبرك وإحساسا بأنهم في حضرته وإخلاصا في اعتقادهم بأن عملهم سبيل من سبل الصلاة والسلام عليه.

ملكت محبة الرسول وآل بيته قلوب المسلمين جميعا، ولا شك أن هذه المحبة كانت دافعا للإبداع، وسبيلا للتقرب من النبي .

هكذا نجد المسلم حتى وهو سلطان على رأس إمبراطورية هائلة، يجأر بعبارة منقوشة بالذهب "أغث يا رسول الله عبدالعزيز".

وكأنه وهو يتعلق ببردة الرسول الكريم، ويأمر الصياغ والصناع بأن توضع في صندوق منقوش من الذهب إنما يتعلق بشفاعة الشفيع، يوم لا شفيع إلا محمد عليه الصلاة والسلام.

ومن الملوك والسلاطين الذين اهتموا بتراث النبي ورأوا في الاهتمام به طريقا للبركة وسبيلا للصلاة عليه سلاطين آل عثمان، هؤلاء الذين أنشأوا وأداروا آخر وأكبر إمبراطورية إسلامية.

الأمانات في قاعة العرش

لقد بدأ الأمر بوضع الأمانات التي توافرت لسلاطين الدولة العثمانية في "دار الأسلحة" أو قصر "راوان" ثم تم نقلها بعد ذلك إلى "الغرفة الخاصة" في قصر توب كابي باسطنبول وهي الغرفة التي كانت تحتوي على العرش ويباشر منها. السلطان مهام الحكم وشئون الإمبراطورية.

ثم تطور الأمر عندما أمر السلطان محمد الفاتح بإنشاء جناح "الأمانات المقدسة" بين عامي 1474- 1478 في قصرتوب كابي.

وقد ازداد الاهتمام بجمع الأمانات بعد فتح مصر على يدي السلطان سليم في1517 وبعد أن توافرت أمانات عديدة مع اتساع وامتداد الإمبراطورية على الأرض وفي الزمن.

كان السلطان أحمد الأول 1603- 1617 هو أول من فكر ووضع الصندوق الذي يحتوي على بردة النبي فوق كرسي العرش متبركا بها وآملا أن تقوده الروح العلية في سياسة أمور الإمبراطورية الهائلة، وهكذا ظل الحال حتى غادر السلطان محمود الثاني 1808- 1839 قصر توب كابي نهائيا وأمر بتخصيص القصر بالكامل ليكون متحفا لحفظ الأمانات المقدسة.

في الزاوية اليسرى من "الغرفة الخاصة" - غرفة العرش سابقا - توجد "شبكة الأمانات المقدسة" والتي كانت في الأساس عرش السلطان مراد الرابع 1623- 1640، فقد صنع هذا العرش بأمر من السلطان، رئيس صياغ القصر: الدرويش زيللي محمد "والد الرحالة التركي الشهير أولياء جلبي"على شكل مخيم من الفضة المشغولة يستند على أربعة قوائم وتعلوه قبة محلاة بالمرايا كما زين من الداخل بنماذج من الحليات التركية من طراز القرن السابع عشر، وحول القبة من الخارج كتابة شعرية بأحرف عربية تتضمن قوافيها تاريخ بناء العرش، أما ما بين الأعمدة من أبواب فقد تم صنعها فيما بعد، وبعد أن تحولت إلى شبكة للأمانات المقدسة، بأمر من السلطان محمود الثاني 1808-1839.

هكذا احتلت أمانات الرسول عرش الإمبراطورية وغرفة الحكم التي كانت تدار منها مصائر شعوب ودول عديدة.

بردة الرسول

في هذه الشبكة يوجد صندوق من الذهب منقوش بالآيات القرآنية والزخارف البديعة أمر بصنعه السلطان عبدالعزيز1861-1876 كوعاء يحفظ فيه صندوق أصغر من الذهب أيضا هو الذي يضم بداخله البردة النبوية الشريفة، أما البردة نفسها فقد وضعت في بقجة من الحرير مطرزة تطريزا رائعا.

ويمكن قراءة هذه الآية الكريمة سورة الأنبياء، الآية: 107 وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين، وعبارات مثل "لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك"، "أغث يا رسول الله عبدالعزيز".

أما في الصندوق الصغير الذي يضم البردة فيمكن قراءة هذين البيتين:

عبدالعزيز الذي من آل عثمان

يرجو الشفاعة من رسول رحمان

لكسوة المصطفى أنشـا محافظه

اللـه يحفظه من كل إنسـان

ومن المعروف أن هذه البردة الشريفة هي التي أهداها النبي للشاعر كعب بن زهير بعد أن ألقى في حضرة الرسول قصيدته الميميمة الشهيرة والتي سميت لذلك بقصيدة البردة.

وقد حاول معاوية شراء هذه البردة من كعب بمبلغ عشرة آلاف درهم غير أن كعب أبى ولم يقبل بذلك حتى مات فباعها الورثة للأمويين بمبلغ عشرين ألف درهم.

وانتقلت البردة من الأمويين بعد زوال ملكهم إلى العباسيين، ثم انتقلت إلى مصر مع آخر الخلفاء العباسيين.

وعندما فتح السلطان سليم مصر، تسلم البردة النبوية في 10 فبراير1517 مع باقي الأمانات المقدسة وحملها معه جميعا إلى قصر توب كابي في عاصمة الإمبراطورية.

البيرق النبوي

من الأمانات أيضا العلم النبوي الشريف الذي كان يحمله السلاطين أو القادة أثناء الحروب غير أنه بسبب إصابة العلم بالتلف فقد حوفظ عليه داخل صندوق من الذهب ثم وضعت أجزاء منه على أعلام أخرى، وكان نقل وتسليم العلم النبوي من جناح البردة في قصر توب كابي إلى السلطان أو القائد العام يتم خلال مراسيم رائعة، تجرى في الرواق الواسع أمام باب السعادة - البـاب الثالث للقصر- وكان يحضر هذه المراسيم كبار رجالات الدولة، حسب مراتبهم، أما الآن فتوجد في المكان حجرة للإشارة إلى مكان تسليم العلم.

أما رسالة النبي التي بعث بها إلى المقوقس ملك الأقباط سنة 627 فقد أمر السلطان عبدالمجيد بحفظها داخل إطار من الذهب وصنع لها أيضا صندوق من الذهب المزخرف بحليات رائعة أبعاده "42.5 * 30 * 10.5 سم " وهذه الرسالة التي كتبت على الجلد أصابها التلف من وسطها، وقد وضع إلى جانبها لوحة كتب عليها نص الرسالة وكان قد عثر على رسالة النبي باحث فرنسي يدعى بارشيليمه عام 1850 في أحد أديرة الأقباط بمصر، ملصقة على غلاف إنجيل قبطي قديم، ولما تحقق من أن الرسالة تخص النبي بالفعل قدمها للسطان عبدالمجيد الذي أغدق عليه وكافأه ببذخ.

سيوف الرسول والخلفاء

هذا وتتضمن الأمانات المقدسة 21 سيفا من سيوف الخلفاء والصحابة، وفي مقدمة هذه السيوف سيفان للنبي يمكن رؤيتهما موضوعين على حشية من المخمل الأزرق فوق صندوق من الفضة المزخرفة، السيف الموجود في المقدمة أمر السلطان أحمد الأول بصنع غمده وقبضته من الذهب الخالص وتم ترصيعه بالأحجار الكريمة، كما أمر بإعادة صنع السيف الثاني على نفس الطراز. وتتمتع هذه السيوف بقيمة أثرية وتاريخية هائلة إلى جانب قيمتها الدينية التي لا تقدر.

وقد تم إصلاح أغماد وقبضات ونصال معظم السيوف في عهود السلاطين العثمانين كما غلفت بالمعادن الثمينة ورصعت بالأحجار الكريمة.

وهناك أيضا خاتم النبي المصنوع من حجر العقيق وهو بيضاوي الشكل ولايتعدى حجمه حجم فص خاتم كبير وقد نقشت عليه عبارة "محمد رسول الله" وتظهرمطبوعة على ورقة في العلبة.

كما يحتفظ بجزء من سن من أسنان النبي صلى الله عليه وسلم في بقج مرصعة داخل محفظة على شكل علبة فضية مزخرفة وهي السن التي انكسرت أثناء موقعة أحد.

وهناك العلبة التي يحتفظ فيها بشعرة من اللحية النبوية الشريفة، وهي مصنوعة من الزجاج وحولها إطار من الذهب ويتم وضعها في علبة فضية مزخرفة.

مصحف عثمان

ومن بين الأمانات المقدسة هذا المصحف الشريف المخطوط على جلد غزال والذي يقال إنه المصحف الذي كان يتلو فيه سيدنا عثمان رضي الله عنه عندما استشهد في بيته ويلاحظ أنه ملطخ بالدماء.

وتوجد بعض العلب الذهبية المرصعة بالأحجار الكريمة والتي تحتوي على تراب جلب من ضريح النبي عليه الصلاة والسلام.

أمانات الكعبة

وإلى جانب أمانات الرسول توجد بعض الأمانات الخاصة بالكعبة المشرفة، فيوجد مفتاحا الكعبة والقفل وكلها من الفضة، وكذلك توجد ستارتان مأخوذتان من غطاء الكعبة وتزينان جدران "الغرفة الخاصة" ويلاحظ عليهما آيات مطرزة بالسيم.

أما الحجر الأسود فله محفظة من الذهب الخالص وزنها "14600 جرام" ويمكن للزوار مشاهدة هذه المحفظة داخل خزانة بللورية موجودة في غرفة كان السلطان يوزع فيها الهدايا على زائريه ليلة نصف رمضان المبارك بعد زيارته للبردة النبوية الشريفة. وفي غرفة السعادة يمكن للزائر رؤية المزاريب التي صنعت للكعبة ومنها مزراب صنع من الفضة والذهب بأمر من السلطان سليمان القانوني 1520- 1566 وعليه كتابات لاكبر الخطاطين الأتراك في ذلك العهد: أحمد كاراهساري، وهناك مزراب آخر صنع بأمر السلطان أحمد الأول، وفي الثالثة نرى المحفظة الفضية التي أمر بصنعها السلطان مراد الرابع ليوضع فيها المزراب الفضي الذي صنع بأمر السلطان سليمان القانوني وتوجد على المحفظة آيات قرآنية.

لا شك أن الزائر لأمانات الرسول في متحف توب كابي يشعر أنه في حضرة روح سامققة هائلة، تقوده إلى الصفاء والطمأنينة والمحبة، وتغسله بالماء والثلج والـبرد، فيعود نقيا يدرأ عن نفسه صغائر الدنيا وينطلق راغبا في مباهج الحقيقة.

 

فريد أبوسعدة