صورة وحيدة جار النبي الحلو

 صورة وحيدة

كنا حولها متشحين بالأسى، مفزوعين بالذي قد يأتي حالا، كنا بالنسبـة لعينيها الـذاهبتين مجرد صور مغبشـة، تترقرق العين بالدمـوع، وتتهدج الحروف في الحنجرة، وتنكسر الابتسامات أمام البدن الضئيل عند حافة الموت.

النافـذة المفتوحة تسكب الضوء على وجـه العجوز فلا تبين سوى ملامح قديمة استسلمت، وارتعاشة بالذقن الصغير، وقلة الماء على الإفـريز يطل منها عود نعنـاع أخضر. رفعت أمي العجـوز وجهها بوهن، وقد حـاولت رفعه بكل قوة كي تراني. وأنـا لم أعد في حجرها الآن. وأنا حتى لا أستطيع التحـدث إليها، حـاولت فتح عينيها كـي تراني. أعـرف. حبست دموعي فاختنقت. هزت يـدها هزة خفيفة، فارتجف قلبي. كـم أود أن أرمي تحت قدميك عشرات الحكايات التي لم أحكها لأحد وتؤرقني. لو يرجع الزمن لحظة كنا نجلـس معا ترنـو إلي ونهمس لبعضنا كعشاق ثم تربت علي: " يخليك ". هكذا قولها، فيما كـانت تتألم بصوت كتوم، سألتها أن أحضر لها ما تشاء، تمتمت: " أعـوزك طيب " . طلبـوا مني الآن أن أكلمهـا، حـاولـت، الصـوت حشرجـة. لماذا لا تنهضين وتنقـذينني وتضعين الـريحان في جيب قميصي وتبتسمين ثم تخبئين صورتي في صدرك؟

بجبهتي سندت على جبهتهـا، وجههـا غايـة في النحافة، حقن " اللاسكس " امتصتها. قبلت الجبهة الباردة. رأتني للمرة الأخـيرة، همست: " وديني "، سألتها: " للطبيب ". هزت رأسها بعنف ليس فيها، وبزهق لم يبـدر منها حـين كنا نمشي المسافـات الطويلة حاملة فوق رأسها الخبز والفاكهة والذرة المشوية حتى تأكل ابنتي. هزت رأسها نفيا. قالت تحدثني حديثها الأخير، قـالت في آخر حكـايـة تحكيها لي، قـالت وباختصار " وديني ". عرفت إلى أين تودين الوصول ترددت للحظة، بينما ضربت أختي على صدرها وشهقت " أمـا "، رددت عليهـا بصـدق ووعـد: "حاضر يـا أما ". نـزلت برأسهـا كأنها استودعتني سرها، تنهدت كأنها ارتاحت من كل سنوات عمرها المثقلة بالحزن والحب والحنو والمرض. ثم خرجت آه.. طـويلة، تبـدأ من لحظة قطع الحبل السري حتى عم " علي " الذي يحفر بكل همة الآن مستقرها الأخير. رجعت للخلف، التصقت بالدولاب الذي تحفظ فيه ملابس أبي ومـلابس أختي وتذكـارات قـديمة، والمناديل الجميلة التي كـانت تهوى اقتناءها وفي كل مرة تراني تشدني برفق، وكحبيبة تقول: " خد المنديل ده.. خـده " تحسست بيـدي ضلفة الـدولاب. لم تستعمل أبـدا المفاتيح. هربت عيناي إلى صورتها المعلقة على الحائط. جميلـة. كاسمها. جميلـة. وجهها مدور، عيناها واسعتان، وابتسامتها حنون. قالت أختي إن أمي ابتسمت في ذلك اليـوم البعيـد بعد أن أصر المصور أن تبتسم. لم تكن خجلى، بل حـاولت البحث عن ابتسامـة عريضة فـرحـة بشبع فلم تجد، وأخذت تشكـو لأن الجميع يضغط عليها في كل شيء حتى من أجل صـورة. استسلمت ليد المصور وهو يعدل طرحتهـا وكتفها ويرفع ذقنها- المرتعشة الآن- لأعلى، وكيف تبحلق في كشافـات الضـوء؟ وقلب أختي يـدق من أجل الصـورة. وخجلت أمي كثيرا وهي تتأمل صورتها بين يديها. بعد سنوات تمكنا من تكبير الصورة ووضعها في إطار مناسب غير مزخرف وقور مثلها، وعلقتها هي فوق سريرها.

في البداية كـانت صورتها في الإطار وحـدها مضيئة وحلوة ورائقـة. وذات مرة وكنا نشرب الشاي معا، وكـانت تسر لي بأحداث البيت الذي تركتـه من زمن طويل، إذ بي ألمح صورة أبي الصغيرة وقـد حطتها في الإطار، وكان على رأسه الطربوش وابتسامته الدافئة تطل علينا، وخيل لي أن أبي في نظرته لليسار كان يرنو إليهـا. ابتسمت، وربت على كتفهـا: " تعيشي وتفتكـري ". وظلت تهتم بتنظيـف وتلميع الإطار، وفجأة سألتني عن صـورة لجدتي الحاجـة التي ماتت منذ زمن لا أعرفه، فضحكت كثيرا.

ومرت سنوات وصورة أبي وحيدة بجوار صورتها الوحيدة. ثم في عامها الأخـير هذا رصعت الإطار بالصور، بجانب صورة أبي مباشرة صورة أختي التي ماتـت بنفس مرض أمي، وأمي تقـول إن أختي لا تنظر سوى لها، ولا أحـد يراها كـما تراها، ثم صورة خـالي وعلى رأسه طاقيـة هـو الـذي مات وحيدا بالمستشفى العام بعد أن تركتـه أمي ليلة واحدة لترتاح في البيت من تعبها الـذي يبدو قد طال قلبهـا- كـما أخبرني الطبيب في المرة الأخـيرة- وفـوق صورة أبي حشرت صورة خالي الثاني الذي أقعده المرض سنوات كنت خـلالها أزوره مع أمي ويحكي لي عن عـلاقتـه بجنية البحر وبأنه محرم عليه دخـول المقابر، أضاحكه . ولماذا لم أستطع أن أضـاحك أمي اليـوم رغم أنها كـانت تبتسم وتفرح بكـلامي. أحسست بازدحـام المكـان، ثم بدأوا في تهيئـة البيت من كنس وتنظيف وترتيب للكـراسي. وأخطروا العمة والخالة والبنات والأولاد. لمحتهم يعدون لشيء قبل حدوثه، تسللت لأنفي رائحة الشيح، وأخذت ابنة أخي تتلو القرآن، تعثرت قـدماي، تقدمت إلى حلمي الكبار العجوز الذي ستقتله اليقظة بعد قليل، أمسكت يدها .. يالله .. بيـدهـا الأخرى تربت على يـدي خلسة من وراء العـالم أجمع، انحنيت وقبلت الكـف وشممت فيـه رائحة الطبيخ والشاي وكعك العيد والسندوتشات ، ورأيت بعضا من دموعي التي كثيرا ما مسحتها برفق وأقـول في نفسي لا تموتي، ولكن هيهات أنه سيقبل رغم ازدحـام الحجـرة ورغم رغبة الحياة، طالعتني صورة ابنتي الضاحكة وقد وضعتها أمي بـين صورة أبي وصورة خالي، إذ إنها في الشهور الأخـيرة لم تكتف بصـور الأمـوات بل وضعت صـورة أخي الكبير وصورة أختي الأصغر عندما كانت صغيرة، وصورة ابنـة أختي قبل أن تتـزوج وتتحجـب. سمعت الهمهمات فتأملت الصـور بـاستغراق. حشـد من الصور الغريبة، صور ملونة وصور بيضاء وسوداء، شيوخ وأطفـال. كل الصور صغيرة بعضها متهرئ، والآخر لا يزال قويا، وحين انفجر النحيب والصراخ والبكاء ابتسمت أمامي في الصورة، ابتسامة ليست عريضة كـما أراد المصـور، ولكـن في الابتسـامة كل حكايـاتها الطويلة المريـرة. أخذتني عيناها الجميلتان الواسعتـان في الصورة، ولم أر بقية الصـور التي بدت بجوارها شاحبة، فيما انزلق عود النعناع الأخضر في حلق القلة المبتل.

 

جار النبي الحلو