تربية الأبناء بين القسوة واللين دينا توفيق

      يؤكد علماء النفس أن النظم الأولية كالرضاعة، والفطام، المعدة، والاستقلال والبكاء، كل تلك العادات وأثر اللين أو القسوة في التدريب عليها يترك أثرا واضحا لدى الطفل ويكسبه أفكارا سواء سلبية أو إيجابية عن نفسه ويؤثر على تعامله مع الآخرين.

إشباع الطفل لنهمه للطعام ليس هو الغرض الأساسي من عملية الرضاعة، إنها عملية سيكولوجية بحتة، فأحاسيس الطفل تتشكل بين أحضان أمه حيث يحس بالحب والطمأنينة والأمان، وعملية الضم إلى الصدر نفسها وحرارتها تتكون من عاطفة تغذي بها الأم وليدها "حنانا"..! وتتغذى بها هي "أمومة"!..

وذلك الشق يجب ألا تغفله أي أم خوفا على رشاقتها وظنا منها أن حرمانها طفلها من ثديها وإعطاءه الزجاجة يحافظ على صحتها، وهي في الحالتين الخاسرة!!

أما من الناحية الغذائية ومدى إشباع الطفل فتؤكد بعض الدراسات أن أفضل نظام هو تقليل مسافة الفترات التي تفصل بين الرضعات، حيث إنه كلما طالت الفترة بين الوجبة والأخرى كان الطفل أقل استقرارا لجوعه، والأفضل أن تقتصر الوجبات على أربع مرات يوميا..

وعند تنظيم الوجبات يجب أن ننتبـه إلى أن الفترة التي تنقضي على طلب الطفل للثدي بعد إرضاعه لا تزيد على الساعات الأربع، وأننا يجب ألا نتجاهل المرحلة القادمة التي نعد أطفالنا لها، مرحلة الفطام والوجبات الثلاث في المستقبل.

وفي إحدى الدراسات نجد أن الطفل في حاجة إلى الاستمتاع بعملية المص، وأن الطفل الذي يتدفق اللبن في فمه سريعا، أو الذي لا يتمتع بوقت كاف في المص أثناء الرضاعة يعوض عن ذلك بمص أصابعه، أو أي شيء آخر!.. وذلك يجيب على حيرة الأم عندما تجد صغيرها الذي تعدى أعوامه الأولى ما زال يصر على مص أصابعه، إنه افتقاد لشيء ورغبة عزيزة حرمناه منها رغما عنه، وهي من حقه!!

وقد تتساءل الأمهات عن طول الفترة التي يجب أن تستغرقها الرضعة الواحدة، وهنا لا إجابة. فالطفل هو سيد الموقف ويجب ألا تضج الأم بوليدها، فهو أثناء الرضاعة قد يتحول عن ثدي أمه "يناغي" وينظر حوله، ثم يعاود الرضاعة ثانية، فهو يستمتع بذلك، وتركه الثدي وعودته إليه رغبته هو وليست رغبة أمه!.

إلى متى يرضع الطفل؟

عند بعض قبائل هنود أمريكا كانت تستمر رضاعة الطفل حتى ثلاث أو خمس سنوات!! وكانت الأم تسمح لطفلها بعد التعود على الأطعمة الأخرى أن يمص ثديها أو ثدي أي مرضعة أخرى من القبيلة.

وعند قبائل أخرى ينعكس الحال تماما فالفطام يتم بعد ستة أشهر فقط!! ويتم إرغام الطفل على الابتعاد عن أمه لأيام حتى يتعود على ترك ثدي الأم!.

أما الوضع المثالي فهو الذي ورد في القرآن الكريم حيث لا يتم الفطام قبل "حولين كاملين" وذلك لأسباب نفسية وبيولوجية لها حكمتها، وتحدثنا عنها من قبل، وإن كنت أضيف أنه لا يوجد شيء أكثر نقاء وتعقيما من لبن الأم.

ويأتي الفطام حالة انفصال عن الأم، والعملية يجب ألا تتم بقسوة فهذا يؤدي إلى آثار نفسية عميقة في الطفل يؤثر عليه في المستقبل، ولا عجب أن نرى أطفالا يمصون أصابعهم ويقضمون أظافرهم!!

وقد تستعمل الأمهات طرقا مختلفة لمنع الأطفال عن أثدائهن من دهن للثدي بأشياء غير ضارة مرة المذاق كالصبار أو دهنه بالفلفل، وتهجر الأم طفلها بضعة أيام ليتعود على فراق ثديها.

وإن كنت أنصح أن يتم ذلك تدريجيا من سن عام ونصف حتى اكتمال العامين، وليس فجأة.

وهناك ملحوظة مهمة بأنه كما للحرمان المبكر من ثدي الأم أضراره فللإفراط في تعويد الطفل على رضاعة الثدي أضراره أيضا!! فكلاهما وكما يؤكد علماء النفس يلون شخصية الطفل في المستقبل بلون يتفق والحرمان أو زيادة الشبع!!

لتعود على النظافة

قضاء الطفل لحاجته يتم في البداية بشكل لا إرادي، وإن كان الطفل يمتلك القدرة التي يكتسب بها ذلك التنظيم إبداء الرغبة في قضاء حاجته سواء كانت تبولا أو إخراج فضلات.

وكل أم ترغب دوما أن يكون صغيرها غاية في النظافة وله رائحة جميلة، فلذلك تقوم الأم بتعويد الطفل على ضبط حركة معدته من السنة الثانية وهنا تفخر الأم بطفلها إن قدر على ذلك في سن مبكرة.

لكن نصيحة لكل أم ألا يتم ذلك بشكل فيه تعسف أو قسوة ولا يأتي ذلك بالضرب والإهانة، لأن ذلك يشكل ارتباطا في ذهن الصغير بتصورات قد يكرهها وينشأ كما يؤكد علماء النفس متزمتا قلقا ولديه وساوس قهرية.

في بعض الثقافات البدائية نجد الطفل يتراوح بين إجبار مبكر على ذلك، أو تفريط شديد ولا حساب!..

فنرى الطفل في جماعات اليوروك الهندية مجبرا على التدريب على ضبط معدته مبكرا، خوفا من القذارة، ويصل الأمر لمحاولة إرغامه على ذلك من سن شهرين أو ثلاثة أشهر من ولادته!!

أما في قبائل أخرى فيصل التحرر إلى حد أنهم لا يبدأون في تدريب الطفل على ضبط المعدة إلا بعد ست سنوات!! ويتفق علماء النفس على أن السن المناسبة هي سن السنة والنصف، والتي يكون الطفل فيها قد تعلم المشي، والكلام، والتعبير عن رغباته سواء باللغة أو بالإشارة ويكون التعويد على ذلك بشكل أفضل عن طريق أسلوب الذم والمدح.

كيفية التعامل مع الدموع

يبكي الصغير فتتفاوت الاستجابات، وإن كنت سأروي لكم كيف تستجيب الأمهات من الثقافات المختلفة لذلك البكاء.

فالأم الأمريكية ما دام طفلها غير جائع فهي تتجاهل بكاءه، لأن هذا أمر لا مفر منه وله فائدته لتقوية شخصيته ورئتيه!!

أما الأم الكينية فهي تضيق وتهدد وتتوعد، ثم تعاقبه بدنيا! أما في الهند فالاستجابة هي التهدئة إما بتحويل انتباهه أو إعطائه جرعة من نباتات مهدئة "!!!" أما في الفلبين فالتدليل وتحويل الانتباه!

والطفل يبكى إما لأنه جائع أو لأنه يتألم، أو لأنه يشعر بالبلل، وعلى الأم أن تتفقد طفلها بين الحين والآخر حتى لا يكون جائعا أو مبتلا، فهي المسئول الأول والأخير عن راحته في تلك الفترة

وشعور الطفل بـ "المغص" يجب احترامه وتقديم السوائل المزيلة لألم أمعائه، ومساعدته على إخراج الغازات سواء بالضم إلى الصدر والضغط على البطن، أو بالطرق الخفيف على الظهر لإخراج الفائض الذي نطلق عليه "القشط" من الفم.

أما بدء استقلال الصغير في إطعام نفسه، أو ارتداء ملابسه أو نظافة نفسه، وما إلى ذلك فمتوسط السن الذي أشار له علماء النفس هو سن الثلاثة أعوام أو ثلاثة أعوام ونصف، أن كان ذلك يتم في بعض المجتمعات من سن عامين ونصف. وهناك بعض الشعوب التي تتصف بالقسوة فلا تسمـح للطفل بالجلوس في حجر أمه بعد الفطام، أو حتي النوم بجوارها! ولا تستجيب الأم لصغيرها مهما بكى، إن عاند فهي تضربه وتعاقبه ويحرم الطفل، ويكون لذلك أثره النفسي فيما بعد، فينشأ وداخله رغبة في الاعتماد على الغير للتخفيف من حدة القلق أو على النقيض نجد هؤلاء يشعرون بالقلق إن شعروا باحتمال اعتمادهم على الغير!! مما يجعلهم تعساء في حياتهم!!

أما ما ينصح به العلماء فهو استخدام الشدة واللين معا عند تعويد أطفالنا على الاستقلال فلا ينشأون معتمدين على الآخرين، ولا ينشأون مستقلين يقلقهم أمر اللجوء للآخرين للمشورة في أوقات يحتاج فيها الإنسان للرأي الآخر الذي يستنير به.

.. وأخيرا

لا للقسوة ولا للتدليل، إنها أمور تفسد حياة أبنائنا، أن كنا تحدثنا عن النظم الأولية، فلعلنا نكون قد عرفنا أهميتها في تنشئة أبنائنا وتأثيرها القوي عليهم في المستقبل الذي تشكله معاملتنا لهم وهم في سنوات عمرهم المبكرة!

 

دينا توفيق