"القيمة الأدبية" بين الذوق والعلم

قراءة نقدية.. في أعمال د. شكري عياد

لم يتوقف عطاء د. شكري عياد الأدبي حتى الآن. وفي إطار هذا الجهد يحاول أن يؤسس مشروعا نقديا جديدا متعدد الروافد، يهدف إلى استخلاص القانون العام لمسيرة الأدب العربي الحديث واكتشاف منابع الإبداع فيه.

شرع شكري عياد منذ وقت قصير في إعداد الإبداع- مقدمة في أصول النقد" (1987) و"اللغة والإبداع - مبادئ في علم الأسلوب العربي" (1988). وهما، كما ترى، كتابان في مناهج البحث. ولكن صاحبهما كان حريصا غاية الحرص على توصيل "الأمانة" إلى ذويها و"الدعم" إلى مستحقيه، فجاء أسلوب التوصيل ومادة الدعم مما لا يقطع الخيط من الجامعة إلى الشارع.

أراد شكري عياد منذ البداية أن يقول إن "مناهج البحث" ليست طلاسم كهنوتية من المحرمات على "القارئ العادي"، وإنما الوقوف عليها ومعرفتها من الضرورات القصوى لقارئ الأدب، حتى لا يخدعه ناقد ناقص الخبرة وبالتعالي والتعالم والاستخدام الأجوف لمصطلحات غامضة يزدردها دون فهم وإدراك ووعي مما يخيف القارئ ويرهبه فيبتعد كليا عن النقد متهما نفسه بالجهل، أو أنه يفقد الاتصال بالعمل الإدبي موضع النقد، على أقل تقدير.

وهكذا يخسر الأدب قارئه. وإما أن القارئ يطلع على نقد جديد بالفعل له أدواته المستحدثة التي تستحق الصبر في التعامل معها والاستنارة بها فتغتني رؤية القارئ بجوانب ما كان يستطيع الاستمتاع باكتشافها من قبل.

وكان شكري عياد قد تابع المتغيرات اللاهثة في العالم الأدبي المعاصر طيلة العقدين الأخيرين. كانت هناك أولا علامات الضعف والهزال التي اتضحت في أكثر ممارسات النقد العربي. كانت الجهود النظرية قد اختفت على وجه التقريب، وتحول النقد في مختلف مدارسه إلى انطباعات وتأملات وخواطر أكثر منه تحليلا وتقويما.
وكانت هناك ثانيا الاتجاهات البنيوية والألسنية أشبه ما تكون بالطقوس الوافدة من علوم "مقدسة" كالأنثروبولوجيا والسيميولوجيا. وقد هب بعضنا ينقل المصطلحات والإحصاءات والقياسات الجديدة مهملا مقدماتها وسياقها مشوها ترجمتها في الأغلب متعسفا في تطبيقها. ولكنها بدت في جميع الأحوال وكأنها المنقذ من الضلال.

وفي الوقت نفسه كان شكري عياد يقرأ الرواية العربية الجديدة والقصة القصيرة الجديدة والقصيدة الجديدة، وينصت إلى احتجاج مكتوم متعدد التنويعات: أين النقد؟. كان "المناخ الحميم" القديم قد غاب مع الكثير الكثير الذي غاب. كان القمع الانفتاحي النفطي قد غيب الثقافة في الشتات. وكانت هناك هجرتان إحداهما أقسى من الأخرى، هجرة إلى الداخل والثانية إلى الخارج. انفرطت العروة الوثقى بين الأدب والنقد وبين النقد والجمهور. انكسرت الأقلام والمنابر وأقيمت الحواجز الصحية بين المواطن والثقافة.

ليست الثقافة جامعة مفتوحة أو كتابا يصدر أو صحيفة تقرأ أو برنامجا يذاع، وإنما الثقافة حركة حية لحوارات بين اتجاهات مختلفة. وفي ظل العهد الموصوف بالانغلاق، شهدنا وسمعنا وشاركنا في معارك الشعر الجديد والواقعية والفن للفن والالتزام. معارك العقاد وطه حسين ومحمود العالم وعبد الرحمن الشرقاوي وزكي نجيب محمود ولويس عوض وصلاح عبدالصبور ومحمد مندور ورشاد رشدي. هذه المعارك الصريحة هي التي صاغت التيارات والاتجاهات والمنابر، وهي التي بلورت "الحركة الثقافية" بما اشتملت عليه من أدب ونقد. ولكن الانفتاح النفطي الذي هزم أشياء كثيرة هزم أيضا الحركة الثقافية. لم تعد حركة. لم يعد ثمة حوار ولا تيارات ولا منابر. لذلك وقعت الهجرة بشقيها إلى الداخل وإلى الخارج. انتهى "المناخ الحميم" وبدأ عهد الشتات. لذلك انفصل الأدب عن النقد والنقد عن القارئ. وأفضى هذا الانفصال إلى تراكمات للسلبيات واحد ثغرات بين الإبداع والتذوق، وبينهما وبين ضرورة قيام "حركة ثقافية".

ثلاثية شكري عياد التي صدر منها جزءان هي أحد المؤشرات الإيجابية على استئناف الحركة الثقافية لمسيرتها المتعثرة.

إنها حوار مباشر مع الاتجاهات المسماة "حديثة" في الغرب. ولكنه حوار "صاحب الشأن" وليس المتفرج الواقف على الرصيف، حوار المهموم بقضايا الثقافة الوطنية وفي مقدمتها قضايا النقد. وهو حوار وليس تلقيا سلبيا مستسلما لمواصفات مسبقة.

هذا الحوار ينطلق من داخل الظاهرة الأدبية، وأن يعيد برفقتنا النظر في كثير من المسلمات- المحلية والأجنبية- وأن يراجع تراكمات التجربة الأدبية والنقدية العربية المعاصرة.

الإبداع والعودة إلى الذوق النقدي
كتاب "دائرة الإبداع" لشكري عياد هو دعوة حارة ومعمقة للعودة بالنقد الأدبي إلى "الذوق" الذي كان يفتقده في النقد "الر ياضي" إن جاز التعبير عن اتجاهات التحليل الوصفي الإحصائي القياسي، إلى غير ذلك من مناهج تقف في آخر المطاف بعيدا عن "القيمة" التي يجب استخلاصها من "العمل الأدبي". وهو المصطلح الذي يفضل عليه البنيويون كلمة "النَّص" فالنص كبنية لغوية مغلقة على ذاتها يتطلب القياس الكمي والإحصاء الرياضي، مبتعدا عن البحث في "القيمة".

وكتاب شكري عياد يبحث بالضبط هذه القيمة، عنها وفيها، داعيا إلى عودة الذوق بعد طول غياب، بصفته المرجعية الممكنة للقيمة.

وأخشى مايخشاه صاحب "دائرة الإبداع" أن يبتذل البعض- وهم كثيرون- ماهية الذوق فيشيعوا أنه الانطباع الشخصي المؤقت أو الثابت، لناقد الأدب. لا علاقة للذوق بهذا الفهم الدارج والمبتذل.

إننا على هذا النحو، وقبل أي تفصيل، نلج أخطر أبواب الخلاف حول النقد الأدبي: هل هو علم أم أنه فن؟ هل هو مجموعة من القواعد التي تثمر أحكاما عامة أو مجموعة من القوانين التي تثمر أحكاما جزئية، أم أنه بحث في القيم الفنية اعتمادا على الذوق؟

العلم والفن
يهتم شكري عياد اهتماما واضحا بإزالة اللبس الذي يحيط كلمة "العلم" وكلمة "الفن".. فالعلم في الأدب، أي النقد "العلمي" لا يستطيع أن يعامل المادة الأدبية كما لو أنها مادة كيميائية أو طبيعية في المختبر. ذلك أن ما تشتمل عليه من لغة وخيال وذاكرة وشخصيات يكتسب من المؤلف والمجتمع والتقاليد الثقافية قدرا من "الذاتية" هي الخبرة الشخصية. ومن ثم فالمعنى الأمبيريقي للعلم قد يوفر لنا قدرا لا بأس به من المعلومات الهامة حول الكاتب ومجتمعه وعصره، ولكنه لا يوفر لنا الشعور بالقيمة أو "اللحظة الجماعة" التي تحتاج إلى شيء آخر غير "هذا العلم". تحتاج إلى الذوق الذي لا يمنحنا في الأغلب معرفة ذات بال، ولكنه وحده يوفر لنا "المتعة " أو "الراحة" أو اللحظة الجمالية أو الشعور بالقيمة.

ومن ثم فشكرى عياد لا يرى تناقضا حقيقيا بين علمية النقد وفنيته، أو بين التحليل والتفسير، أو بين المعيار والقيمة "فالذوق يمكن أن يدل على طريقة لاختبار الواقع تناظر الطريقة العلمية وإن كانت ذات طابع شخميى (وبذلك يكون النقد في منزلة متوسطة بين العلم والفن) كما يمكن أن يدل على مرجع ذهني لفهم الجزئيات والحكم عليها، مع الاعتراف بأن قيمة الاختلافات الفردية لا تقل عن قيمة السمات المشتركة (وبذلك يكون وسطا بين الأحكام العامة والأحكام الجزئية) ويمكن أن يدل أخيرا على نوع من الفهم يشترك فيه الفكر والوجدان (وبذلك يجمع النقد بين التفسير والتقييم)..".

دعوة شكري عياد إلى إلغاء التناقض المفتعل بين العلم والفن في النقد الأدبي، ليست حماسا للتوفيق بين المتناقضات، وإنما هي رحلة مضنية بين اتجاهات النقد الغربي من أرسطو إلى جاك دريدا، وبين اتجاهات النقد العربي من الجرجاني إلى طه حسين، رحلة تستهدف التركيب المعرفي من عناصر فنية واجتماعية وفلسفية ونفسية متناثرة بين قوانين العلم وخبرات التذوق. إنه لا يدعو مطلقا إلى نوع من الزواج، مثلا، بين الماركسية والبنيوية، فهذا النوع من التوفيق بين اتجاهين كلاهما مكتمل بذاته لا يخطر على بال مؤلف "دائرة الإبداع". وهو كذلك لا ينتقي من الاتجاهات المختلفة بعض مكوناتها الأصلية ويمزج بينها على نحو أو آخر. وإنما هو يستكشف التعميمات القيمية المستخلصة من تاريخ الأعمال الأدبية الكبرى، تاريخ التقاليد وبصمات المواهب الاستثنائية وتاريخ الاستجابات والتلقي من جانب النقاد والقراء. هذا الاستكشاف ينتهي بتعريف الذوق بأنه " ممارسة الحكم على أعمال معينة بناء على مرجع عام، هذا المرجع لا يمكن تحديده إلا بأنه قيمة أو قيم ما. فالحكم يستند إلى القيمة، أي أنه معقل بالقيمة، وإن كانت القيمة نفسها غير معللة ". هذا التعريف يقوم في أحد جوانبه على أساس أن الأدب ذاته له رسالة مقصودة لذاتها هي "الرسالة الأدبية" التي لاعلاقة لها بحل المشكلات في الحياة العلمية "فلابد من الاعتراف بأن علم الأدب هو- في نهاية المطاف- دراسة للقيم. فليست القيم إلا معاني نستحسنها لذاتها، أو نستحسنها استحسانا مطلقا". هكذا يصبح النقد هو "العلم الفني" أو "التقييم المفسر" الذاتي، الموضوعي في آن واحد.

نقد للبنيوية
ولكن المؤلف في سبيل أن يصل إلى هذه النتيجة، كان عليه أن ينقد البنيويين فقال إنهم "اكتفوا بالبحث عن بنيات الأعمال الأدبية (...) دون جوهر التجربة الإنسانية المتمثلة في هذه الأعمال". ويؤكد أن الناقد لن يكون خبيرا إلا إذا تجاوز الأشكال (التي تظهر القيمة من خلالها) إلى قيمتها الجوهرية للإنسان "الإنسان بكل طاقاته وبكل مشكلاته".

هذا النقد للبنيوية والتأكيد على القيمة الجوهرية للإنسان من النقاط التي تضع على المحك أطروحة "اللحظة الجمالية" بكاملها.
والنقطة الثانية هي ذلك التحديد للوظيفة المشتركة بين علم الجمال وفلسفة الفن من ناحية والنقد الأدبي من ناحية أخرى، وهي وظيفة البحث "في طبيعة الإبداع الأدبي وطبيعة القراءة، من حيث كونهما نشاطا يرغب فيه لذاته، أي البحث في العلل الأولى لما نسميه الذوق. ولكن المؤلف نفسه يؤكد من جديد ارتباط الذوق بالقيمة و"القيمة عند التحليل الأخير ميل فطري غير معلل وغير مهدف، ومن ثم لايمكن قياسها قياسا كميا بالاعتماد على مسبباتها أو على نتائجها، وإن كانت تتفاوت كيفيا بحيث يمكن الشعور بهذا التفاوت من حالة إلى حالة لا عن طريق القياس".

هاتان نقطتان محوريتان في الإشكالية التي اتخذ فيها شكري عياد قرارا يتكون من أن النقد العلمي في تحليل عملية التذوق يعتمد على "المسلمات" التالية:

  1. إن الشعور بالقيمة أصيل في فطرة الإنسان، ومتميز ومتقدم على الشعور بالمنفعة.
  2. إن الشعور بالقيمة واحد في البشر جميعا، لا يختلف جوهره باختلاف الأشخاص والحضارات، وإن اختلفت مظاهره.
  3. إن الشعور بالقيمة قابل للتحليل بحيث يمكن فهم جوهره، ولو أن هذا الفهم يتجاوز حدود الماهيات والوظائف.
  4. إن الشعور بالقيمة قابل للتدريب من خلال إدراك مظاهره وإدراك علاقته بتلك المظاهر.

ثم يقول المؤلف إنه في ضوء هذه المبادئ "يمكن القول بأن الحكم القيمي هو معرفة تصح لدى الغير"، وبالتالي فالنقد يستبعد دراسة التصنيفات الأدبية والحيل اللغوية البيانية، وهو لا يدرس نظما وهياكل، ولكنه " يدرس خصائص النشاط الإبداعي في عمليتي القراءة والكتابة (...) ويدرس حركة، ويحاول استخلاص مباديء هذه الحركة". ولذلك فالعمل الأدبي في منظار النقد الذي يقترحه المؤلف "ليس ذاتا ولكنه فعل متجدد ومتغير" ومن ثم فرؤية النقد على هذا العمل يجب أن ترتكز على نموذج حركة لا نموذج جسم، عضوي أو غير عضوي، أي أنه نموذج ذهني محض. وينتهي البحث في هذه النقطة إلى "أن فنية الأدب تتمثل في جمعه بين الحركية والثبوتية".

وفي هذه الحال يتعين على الناقد أن "يدخل في قلب العمل، ويشارك المنشئ في جميع خطواته بخبرة تضاهي خبرته أو تفوقها، ومن ثم يمكنه أن يقارب الدقة في فهم العمل على جميع مستوياته وتذوقه بحسب ما في العمل نفسه من إمكانات التذوق".

يهتم صاحب "دائرة الإبداع" فيما تبقى من صفحات الكتاب بالقول إنه ما دام العمل الأدبي ليس ذاتا بل فعلا متغيرا، فإن وجوده ليس ذهنيا فحسب. إنه لا يرادف موضوعية المواد الطبيعية، ولكن له وجودا "شبه موضوعي". إن المقياس الخارجي معدوم في هذا النقد الذي يبحث لنفسه عن مقياس إنساني يجمع بين الثبات وتغير الأحوال البشرية: هو الحرية. وإذا كنا قد ارتضينا ارتباط الأدب بالقيمة، فإن كل شيء "قيم" هو الذي ينفك من قيود الضرورة "هو ما نعنيه بالحرية".

والنقد - مرة أخرى - هو تحليل الهرة التي تحدثها القراءة: هذه اللحظة الجمالية، أو "النشوة المبهمة التي لا نستطيع أن نحدد مأتاها".
وتختلف "اللذة الفنية هذه عن بقية لذات الحواس بشمولها وإشباعها كل الرغبات لدرجة الامتلاء، وببقائها في النفس ذكرى حية حتى حين يشحب المثير الأصلي. هذه اللذة ليست حرية مطلقة، ولكنها "تحرر" شاق من قيود الضرورة. هكذا يصبح المضمون مادة الحياة والعالم الحيوي للكاتب، بينما يصبح الشكل تعبيرا رمزيا عن هذا العالم قابلا للفهم الذي هو "احتواء متبادل" بين الإنسان والعالم. هذا الاحتواء المستحيل نشعر به كومضة البرق "تمتلئ أنفسنا بروعته دون أن نحققه".

ويختتم شكري عياد مشروعه النظري المزدوج - للأدب والنقد - فيقول إن النص بحد ذاته لا يقول شيئا مهما، ولكنه "يعيد تشكيل الواقع بواسطة الكلمات" ذات الصفة السحرية التي تعني الشيء وغيره " فيتكلم عن الأشياء ويعطيها معاني فوق الأشياء. وهكذا تحررنا الكلمات من الواقع، تجعلنا فوق الواقع، أقوى من الواقع". أما الناقد - يستطرد المؤلف - "فرجل لا رأي له. لا يتابع ولا يعارض ولا يشايع ولا يناهض ولا يحب ولا يكره لأنه تعود فقط أن يفهم..".

هذه هي دعوة "دائرة الإبداع" للعودة إلى الذوق، فمن يستجيب؟

مشروع للتذوق الجمالي
حتى نستجيب أو لا نستجيب لدعوة شكري عياد إلى إجادة التذوق ومعايشة اللحظة الجمالية والشعور بقيمة أو قيم العمل الأدبي، علينا أن ندرك أهمية هذه الدعوة في حفزها لنا على مواجهة الإشكاليات الحية في أدبنا ونقدنا على السواء ذلك أن تأكيد الباحث على "جوهر التجربة الإنسانية" الذي يتجاهله البنيويون، وأيضا على "ارتباط الذوق بالقيمة " يحتاج منا إلى مجموعة من التساؤلات التي لا تشكك في تأكيدات المؤلف، ولكنها تلهمنا المزيد من الفهم لما قصد إليه.

ذلك أن "مشروع" شكري عياد لا يلتزم بالتفصيل، لأنه يكتفي- وهو الأمر الطبيعي- بالتعميم. هكذا نجد أننا مطالبون بالحوار مع بعض "الهموم" التي ستصادف من رأى نفسه في أول الطريق مرتاحا لهذا الاختيار الذي يجمع بين العلم والفن وبين الأحكام العامة وخبرة التذوق، وإذا به يكتشف في منتصف الطريق أنه وحيد أعزل لا يملك الأدوات التي تصوغ له هذا "التركيب" في رؤية العمل الأدبي.

إن ما أسماه شكري عياد مثلا بالوجود الذهني شبه الموضوعي للعمل الأدبي يحتاج - ليصبح تركيبا من العلم والفن - إلى تصور بديل لنظرية "الانعكاس" لا يلغي العلاقة بين الفن والواقع.
إن مصطلح "الفن" لم يعد يمنحنا الصورة المبسطة التي كانت تملأ مخيلتنا منذ ربع قرن، و"الواقع" أيضا أمسى مصطلحا شديد التعقيد، ولم يعد هو الصورة الفوتوغرافية المسطحة التي توهمناها منذ عدة عقود، ومن ثم فالعلاقة بينهما - أي بين الفن والواقع - لم تعد تلك العلاقة الميكانيكية المبتذلة التي حكمت النقد فترة من الزمن. في ضوء الكشوف الخاصة بالإبداع الفني والكشوف الأخرى في مستويات الواقع المختلفة، اكتشفنا أيضا أن "العلاقة" بين الفن والواقع أكثر تعقيداُ وغنى وأهمية من أن يختزلها هذا اللفظ الفقير "الانعكاس". ولكننا في الوقت نفسه زدنا استبصارا وثقة من أن هناك نوعا آخر من "العلاقة" بين الفن والواقع. ولست أظن أن مشروع شكري عياد قد خلا من مكان ومكانة لهذه "العلاقة"، غير أن التعميم النظري لم يسمح له بغير النقد لأفكار الوجوديين والستالينيين عن "الالتزام". كذلك فإن هذا التعميم لم يسمح له بغير النقد للبنيويين بسبب غياب "الجوهر الإنساني" عن أعمالهم.

العلم والفن والنقد الأدبي
ولكننا مازلنا نحتاج إلى إدراك مفضل لتركيب "العلم والفن" في النقد الأدبي إدراكا جماليا يشي بمفهوم جديد للعلاقة بين الواقع والإبداع الأدبي: هل تخلو هذه العلاقة حقا من الأيديولوجية؟ هل تخلو هذه العلاقة من الذاكرة الجماعية للأمة واللاوعي الجماعي للكاتب والأنماط السائدة في المجتمع للقيم وأنظمة الأفكار وطرائق السلوك؟ وهل تخلو هذه العلاقة من تطور ولاءات المبدع الأدبي للشرائح أو الفئات أو الطبقات الاجتماعية التي يتحرك داخلها ومعها؟ وما تأثير تجليات السلطة المختلفة على تكوين العمل الأدبي وتشكيله المتتابع إذا اقتنعنا بأن هذا العمل لا يولد مرة واحدة، وإنما له مراحل من النمو يتأثر خلالها بتناقضات المناخ المحيط؟ ما العلاقة بين ثقافة الكاتب الذهنية والثقافة الاجتماعية المحيطة والتي تتدخل وتتداخل في نسيج الاختيار اللغوي والبنيات الأسلوبية والقوام الخيالي المجسم للشخصيات والأفعال والرؤى والعلاقات بين الأزمنة والأمكنة والإيقاعات والعواطف والأفكار؟

إن الجواب عن هذه الأسئلة وغيرها من شأنه أن يستبدل النظرية الجديدة للأدب والنقد بالنقيضين الخاطئين وهما: الانعكاس الميكانيكي للواقع، والإلهام الميتافيزيقي للمبدع. أطروحتان في الخلق الأدبي والفني انتهى أمرهما إلى نقد "علمي" فقير إلى العلم من ناحية، ونقد انطباعي فقير إلى الذوق من ناحية أخرى. وكانت البنيوية والالسنية محاولة لتأصيل العلم اللغوي على حساب الذوق الفني، فانتهى أمرها هي الأخرى إلى توصيف خارجي للكتابة تسوى بين جميع الكتابات، فأوشك "الفن" أن يضيع ومعه التذوق والحس الجمالي و " الجوهر الإنساني " كما يسميه شكري عياد، الذي يأتي مشروعه كإعادة نظر في هذه المسلمات كلها. وقد توصل صاحب المشروع إلى المقدمة الصحيحة التي تحتاج معها نظرية الأدب إلى إعادة بناء، تمسي معها "إنسانية الأدب" - وليصر جوهره الإنساني - و"الوجود الذهني الخارجي شبه الموضوعي" للعمل الأدبي مادة رئيسية في بناء أطروحه تركيبية جديدة لا تلغي علاقة الفن بالواقع بل تزيدها تأكيدا وخصوبة حين تبتعد عن الاختزال بأقصى ما نستطيع، وتقترب من التحليل بأقصى ما نستطيع. ولكن هذا الاقتراب وحده هو الذي سيجعل من "البعد الإنساني" الغائب عن النقد البنيوي قيمة معيارية وأداة تحليل للذوق في وقت واحد، فلا يعود الذوق مجرد خبرة لا تقبل التعليل أو الاستهداف.

ولكن هذا التعامل مع نظرية الأدب يفرض على شكري عياد أن ينظر إلى مشروعه في إطار أرحب إذا أردنا أن نصل بالمقدمات إلى نتائجها الطبيعية وامتداداتها المستقيمة في نظرية جديدة للنقد. وهي النظرية أو النظريات التي تتجاوز قدرات أي فرد. لقد عالج شكري عياد مشروعه أساسا في سياق النقد الغربي، كأنه حوار من داخل الثقافة الغربية، فاغتنينا بهذه الحصيلة الثرية من متابعات الكاتب لأقدم وأحدث منجزات تلك الثقافة. ولقد ورد ذكر بعض العرب القدامى والمحدثين، ولكن من زاوية التشابه أو الاختلاف، وليس كجزء من الإطار المنهجي للبحث. وهو الإطار الذي تم فيه الحوار بين الباحث والنقد الغربي باقتدار عظيم. وهو حوار يفيدنا الاطلاع عليه، ولكنه في إطار مشروع طموح لبناء أطروحة جديدة في النقد، يضعنا في سياق مغاير وفي محطة تبعدبنا عن بغيتنا شوطا طويلا.

إن أهم ما يعنينا من مشروع جديد للنقد هو الأدوات الإجرائية التي يقترحها، وفي مقدمتها المصطلح. لقد كان من البديهي أن نستخدم المصطلح الكلاسيكي والرومانسي والرمزي والسريالي والتجريدي والتجريبي والطليعي وغير ذلك من مصطلحات غربية، لعدة عشرات من السنين كان أدبنا "الحديث" خلالها يولد ويتطور بين أحضان النماذج والقيم الفنية الغربية. ولم يكن الأدب والنقد نشازا ثقافيا، فالمجتمع الاقتصادي والسياسي كان تمز بهذه المرحلة من مراحل التفاعل مع "الآخر" من موقع غير متكافئ. وكان من الطبيعي أن نترجم الأعمال الأدبية الأوربية ومصطلحات النقد الأوربي في وقت واحد. وكان من الطبيعي كذلك أن نشم ونسمع ونرى الكلاسيكية والرومانسية والواقعية في شعر البارودي وأحمد شوقي وجماعة أبوللو وعبد الرحمن الشرقاوي. وكان من الطبيعي أخيرا أن نستخدم أدوات النقد الغربي ومصطلحاته في تحليل وتذؤق وتقييم هذا الإنتاج الأدبي.

تراث أدبي حديث
و
لكننا الآن لا نملك عشرات من القصص أو المسرحيات أو القصائد، وإنما نملك رصيدأ أدبيا يبلغ عمره مائة عام، ظهرت خلالها مئات الروايات وآلاف القصائد والآلاف من مقالات النقد. أمام هذا التراث الحديث والمعاصر لم يعد جائزا الاستسلام لأدوات النقد الغربي الجاهزة في لغاتها، ذلك أن الإنتاج الأدبي المصري - والعربي عامة - لم يعد أسيرا للقوالب التي استزرعها في تربتنا المحلية، ونجحت زراعتها ونجحت أكثر الإضافات والتفاعلات والتجارب التي قام بها المئات بل الألوف من أدبائنا، من وحي اللغة والإيقاع وبناء الشخصية واستلهام الأحداث والمواقف وغير ذلك من عناصر يتشكل منها العمل الأدبي. وأصبح لدينا رصيد ضخم من الإنتاج الأصيل الذي لا تنفي أصالته تفاعله الحر مع الثقافة الإنسانية ولكنه تفاعل الأنداد. ولسنا بحاجة للتدليل على أصالتنا بما نأخذه عن قديمنا الذي هو حق مشاع لغيرنا أيضا، فالأصالة هي الكتابة الحرة من أشباح مهيمنة للآخرين أيا كانت جنسياتهم بما فيها جنسيتنا.

هذا التراث الحديث والمعاصر- خلال مائة عام أكرر- يحتاج بل ويدفعنا دفعا إلى تأسيس مشروعنا النقدي المتعدد الروافد والاتجاهات وحتى النظريات، من خلال إعادة دراسته أدبا ونقدا بهدف استخلاص القانون العام لمسيرة الحركة الأدبية العربية الحديثة والمعاصرة. وبالدراسة النوعية للتراث الروائي أو الشعري أو المسرحي نستخلص القوانين النوعية المضمرة في حركة تطور هذه الأجناس.

إن الاستنارة بالقانون العام لحياتنا الأدبية في العصر الحديث، والقوانين النوعية لفنوننا الأدبية المختلفة، هو الذي سيكشف لنا عن الكنز الخفي في تضاعيف إبداعنا الأدبي والنقدي. سيمنحنا للمرة الأولى المصطلحات والأدوات الإجرائية الأصيلة التي من شأنها ألا تتعسف في تقييم أدبنا الوطني، بل تهدينا سواء السبيل إلى تذوقه والشعور بقيمته كما هو، لا بالمقارنة إلى "أصول" نشكل فروعا لها، أو "أصوات" نتوهم أننا أصداؤها.

إن الفجوة المركبة بين النقد والأدب وبينهما وبين القراء، هي الأزمة الحقيقية وليس غياب النقد أو تقصيره. هذه الأزمة هي التي يشير إليها مشروع شكري عياد في الصميم على نحو غير مباشر. وهو مشروع يحتاج إلى فريق ضخم من النقاد يبدعون لنا الذوق الذي لا يتناقض مع العلم.