مساحة ود رجاء عدلي

من بلاد بعيدة

منذ أسبوع أتت "أوفيليا" إلى بيتنا..

و"أوفيليا" فتاة في العشرين، وكما يصفون هذا العمر فهي في "ربيعها العشرين" بضة وجميلة ذات وجه مدور، دقيق القسمات ونظرات شاردة ولها شعر ليلي، أملس وطويل معقوص على هيئة ذيل حصان.

ولدت وعاشت "أوفيليا" في قرية فلاحية صغيرة تبعد عن العاصمة "مانيلا" مسافة طويلة كانت تقطعها بالحافلة كل يوم ذهابا وإيابا لتتلقى دروسها في علوم الرياضيات والكمبيوتر، وبعد أن حصلت على درجتها العلمية، استطاعت أن تحظى - بعد جهد محموم - على إحدى استمارات العمل، ووعد بتحقيق الأحلام الرائعة، والسفر إلى عالم بعيد.

تركت أوفيليا حضن أمها الدافئ، وفطائر التفاح في أعياد الكريسماس، وإخوة خمسة، وبيتا صغيرا، لكنه مرتب ونظيف وبما أنه ملحق به مطبخ وحجرة للطعام، فهو يستحق أن يسمى بيتا، يلتف حوله شريط أخضر يسمى حديقة كانت أوفيليا تسكن هناك، وتستطيع من نافذة حجرتها أن تلمس الأغصان المجدولة لشجرة الأفوكادو العتيقة وتنصت بوضوح لأصوات طليقة مغردة، والغريب أنها منذ رحلت ظلت تشكو دائما من طنين في أذنيها - يشبه أصواتا لطيور مغردة - وظل هذا الطنين يلازمها طوال نهاراتها الطويلة الصامتة هنا.

"أوفيليا" تشك في كل الناس!!

وحين رأيتها في مكتب الخدم لأول مرة - وسط كثيرات غيرها.. كلهن متشابهات وكأنهن في صالة عرض - كانت تلبس جلبابا طويلا يبدو وكأنه ليس لها، وكانت تقف ملتصقة بأحد الأركان مثل نبات وحشي متوحد تم انتزاعه قسرا وعلى غير رغبة منه ليتم أستزراعه في أرض غريبة، وعملت هناك أنها كانت قد مكثت عند عائلة كبيرة العدد قرابة الخمسة شهور، ثم ولت هاربة من صفعات الصغار وإهانات الكبار، لذلك فقدت "أوفيليا" ثقتها في كل "الأسياد"!!

وقبل أوفيليا كانت "ليونيدا".. فتاة فلبينية أخرى ظلت عندنا سنتين، كانت دافئة ذكية ولا تفارق الابتسامة وجهها، وحين اقترب موعد رحيلها كانت تبكي وتقول: أنا لا أريد نقودكم.. أنا أريدكم أنتم لأني أحببتكم. ولكنها رحلت ولم نعد نعرف عنها شيئا.

ماذا نعرف عنهن أولئك الصغيرات الحالمات؟!

ماذا نعرف عن حضارة يمتزج فيها الحب بالحياة، ويذوب فيها الفرد بالآخرين حتى درجة التلاشي.

لي صديقة زارت "مانيلا" وعادت بانطباع سيئ عن جيوش الفتيات المتحررات هناك، هل هذا هو الوجه الحقيقي الوحيد هناك؟.أم أنه انطباع السائح الذي ربما لن يرى من تعقيدات هذا العالم سوى سطحه العابر!؟!

وأعرف أن أولئك الفتيات ربما يخفننا، أولئك الصغيرات المتشابهات ذوات القامات الصغيرة، والابتسامة المتألقة دوما وهي تشع من عيون دقيقة مثل حبات الخرز. نعم يخفننا وهن يتحركن بخفة وسهولة ودونما خوف أو حرج، وكأنهن سابحات في ملكوت خاص بهن لا نستطيع فهمه أو سبر أغواره.

اليوم عدت إلى البيت في الظهيرة كالعادة وحال دخولي لمحت أوفيليا تقف في وضع استعداد منتظرة الأوامر، كانت تفوح منها ومن البيت رائحة النظافة، والابتسامة تملأ وجهها، سمعت صوتي وأنا أقول باقتضاب:

- أوفيليا.. حضري لنا الغداء.

تقلصت الابتسامة، ومثل بندول الساعة تحركت أوفيليا بانتظام، جهزت كل شيء في صمت، ثم اختفت في المطبخ.

 

رجاء عدلي