اللغة حياة: قاعدة لغويّة تتفرّد بها «العربيّ»

اللغة حياة: قاعدة لغويّة تتفرّد بها «العربيّ»

قيام الجملة المعترضة مقام الصفة والاسم

قلت لصديقي وأنا أحدّثه في قول منسوب إلى أحد الساسة، يراد به ترسيخ عرف طائفيّ: «ولنفترض أنّ سعادته قال ذلك، فهل هو صلّى الله عليه وسلّم»؟ ولم يدرك قصدي، فهو ذو ثقافة بعيدة من المصطلح الدينيّ، فردّ عليّ: «لا، لم يصلّ الله عليه ولم يسلّم». ومعروف أنّ عبارة «صلّى الله عليه وسلّم»، إذا جاءت من غير ذكر النبيّ (ص)، دلّت عليه دلالة الصفة على الموصوف المحذوف. وقد جعلني ذلك الحوار أتوقّف عند هذا الاستعمال الخاصّ الذي لم يعن اللغويّون به، في ما أعلم.

ففي الكلام على ضروب الجمل، يتحدّث النحاة عن الجمل التي لا محلّ لها من الإعراب، كالجمل الاعتراضيّة في نحو: «قد علمت، أعزّك الله، غرامي بالشعر». وفي الكلام على الحكاية يتحدّثون عن الأسماء المركّبة تركيبًا إسناديًا، مثل تأبّط شرًّا، ويحكمون ببقائها على حالها في جميع الحالات الإعرابيّة، من غير أن يدخلوها لا في المصروف ولا في الممنوع من الصرف، وكأنّها ضرب ثالث من الأسماء، هو الأسماء المحكيّة؛ والأصحّ، عندنا، أنّها ضرب من الأسماء المبنيّة، ألزمت صورتها الإسناديّة، وصارت كالكلمة الواحدة، فهي مبنيّة في محل رفع أو نصب أو جرّ، ولا يصحّ القول بامتناع ظهور حركتها، لأنّ الامتناع من الظهور يقتضي ظهور الحركة على الكلمة أصلًا، ثمّ امتناعه عند لحوق شيء بها يستحيل لفظه مع تلك الحركة.

والأهمّ من ذلك كلّه أنّهم أهملوا، في ما نعلم، تراكيب إسناديّة مشابهة كثر استعمالها في الكتب الإسلاميّة، وهي عبارات التعظيم والتكريم والترحّم واللعن، نحو: تعالى، وصلّى الله عليه وسلّم، ورضي الله عنه، ورحمه الله، ولعنه الله،.. إلخ، سواء بذكر المعنيّ بتلك العبارات، أو بترك ذكره.

إنّها جمل اعتراضيّة في الأصل، لكنّها توحي الوصف، حتّى إنّ المتأخّرين استعملوا مكان «رحمه الله» مثلًا، صفة المرحوم، ومن ذلك قول ابن خلدون في تاريخه: «وهو ولد السلطان المرحوم أبي سالم»؛ وذلك استعمال شائع في أيّامنا أيضًا، هو وعبارة المغفور له. وحين يقال: قال الله تعالى، فتقدير العبارة: قال الله المتعالي. لكنّ العرب حين تحذف ما يوحي أنّه موصوف وتقيم بعض تلك العبارات مقامه، تحملنا على الاعتقاد أنّ العبارة كناية عنه، عاملة عمله، كقول الحديث الشريف «وإنّه ليدْنو عزّ وجلّ ثمّ يباهي بهم الْملائكة...» الذي يوحي أنّ عبارة «عزّ وجلّ» في محلّ رفع فاعلٍ لفعل يدنو، مثلما أنّ «جاد الحقّ» في محلّ فاعل لفعل دنا في قولنا: دنا جاد الحقّ؛ فكلاهما مركّب إسناديّ وقع موقع الفاعل؛ مع فرقين: الأوّل أنّ «جاد الحق» اسم علم، و«عزّ وجلّ» جملة قامت مقام محذوف؛ والثاني ناجم عن الأوّل وهو أنّ «جاد الحقّ» وأمثاله يحتمل كلّ حالات الإعراب، وينبغي قياسًا احتمال عبارة «عزّ وجلّ» وأمثالها لتلك الحالات جميعًا؛ لكنّها لم تقع في الاستعمال إلاّ في محلّ رفع، أمّا إذا سبقها ناصب أو جارّ فتنصب أو تجرّ على التبعيّة، إذ يقع العمل على ضمير يسبقها، عائد إلى اسم المعظّم أو المكرّم المفهوم من النصّ، نحو الحديث الذي رواه مسلم، وفيه :«عن ابْن عبّاسٍ في قوْله عزّ وجل: ولا تجْهرْ بصلاتك ولا تخافتْ بها» إلخ. حيث هاء الضمير عائدة إلى الله، بدلالة عبارة «عزّ وجلّ» ونسبة آية قرآنيّة إلى مرجع الضمير؛ ونحو حديث رواه ابن حنبل، وفيه: «فجعلْت أشْكو إليْه، صلّى الله عليه وسلّم، ما ألْقى منْ سوء خلقه...». حيث هاء الضمير الأولى عائدة إلى النبيّ (ص)، بدلالة قولنا: صلّى الله عليه وسلّم. وفي هاتين الحالتين تكون العبارة أدخل في بدل الظاهر من المضمر، فيكون قول الحديث: أشكو إليه صلّى الله عليه وسلّم، بمعنى: أشكو إليه، أيْ إلى النبيّ.

والنظر في مؤدّى تلك العبارات ومنشئها، يضيء البحث؛ فعبارة «صلّى الله عليه وسلّم» تبدو إنفاذًا لأمر الآية الكريمة «إنّ الله وملائكته يصلّون على النّبيّ، يا أيّها الّذين آمنوا صلّوا عليْه وسلّموا تسْليمًا»، وقد فسّرت الصلاة هنا تفسيرات متعدّدة، وأقرب ما تطمئن إليه النفس منها معنى الثناء والتبريك، فتقدير صلّى الله عليه وسلّم هو المثنى عليه المبارك من الله؛ حتى إذا استعملت العبارة مستقلّة، أي يمعزل عن صفة النبيّ (ص) أو اسمه، عنته هو نفسه، وكانت بمثابة قولنا: محمّد أو النبيّ. وأما عبارة «عليه السلام» فيفهم من تفسير الآية المستشهد بها نفسها، والأحاديث المتّصلة بها، أنّها تعني التحيّة، ويفهم من تركيبها أنّها تتضمّن رجاء الأمن والعافية، وكأنّ المراد أن يجعل الله المسلّم عليه ناعمًا بهذين. ومع إيحائها بمعنى الدعاء، فهي كناية عن بعض الأنبياء (عليهم السلام) أو عن النبيّ محمّد (صلى الله عليه وسلم) أو عن بعض آل بيته (رضي الله عنهم)، وتقديرها: المسلّم عليه (من الله والملائكة والناس). أما في عبارة «رضي الله عنه» فنستشف من القرآن الكريم أنّ الله رضي عن أصناف معيّنين من المسلمين: المسلمين الأوائل والمسلمين المخاصمين لأعداء النبيّ (صلى الله عليه وسلم) وأصحاب بيْعة الرضوان؛ لكن سورتي البيّنة والمائدة تجعلان رضا الله يشمل عامّة المؤمنين الصادقين الذين يعملون الصالحات، إلى أيّ زمن انتموا؛ فكلّ مؤمن مرضيّ عنه من الله، وليس الصحابة فحسب. على أنّ استعمال العبارة مستقلّة عن صفة الشخص المكرّم أو اسمه يجعلها تدلّ غالبًا على صحابيّ من الصحابة (رضي اله عنهم)، وقد تدلّ على تابعيّ، أو على بعض الصالحين المتأخّرين.

فمعظم عبارات التعظيم والتكريم تلك تدلّ، في اعتقاد المسلمين، على أمر حاصل، لا على أمر يرجى حصوله كالذي في الدعاء، فالعزّة والجلال والتعالي صفات لله بنيت عليها بعض أسمائه، وصلاة الله على النبيّ مستمرّة، ومأمور باستمرارها، ورضا الله عن المؤمنين مقرّر؛ وهذا ما يجعل العبارات المشار إليها أقرب إلى الوصفيّة منها إلى الاعتراض، ويوحي لها محلًاّ من الإعراب. على أنّ تقرير الصفة أو حصولها حقًّا ليس بالأمر الضروريّ، بل يكفي أن تكون حاصلة على سبيل التمنّي، كما في عبارات الترحّم واللعن. ولذلك جاز عندنا إعرابها إعراب العلم المركّب تركيبًا إسناديّا، فتكون في محلّ رفع أو بدلًا من مضمر.

إنّها قاعدة نزعم جدّتها، وفضل مجلّة العربيّ في السبق إليها من خلال مقالتنا هذه، من غير أن ندّعي وجوب التسليم بها. ونرجو أن نكون في سبْقنا خدمًا للّغة، وأن يكون عملنا مدخلًا لإغناء هذه القضيّة والاستدراك عليها عند الضرورة.
----------------------------------
* أكاديمي من لبنان.

 

 

مصطفى عليّ الجوزو*