جمال العربية: قصيدة «عفراء» لعروة بن حزام

جمال العربية: قصيدة «عفراء» لعروة بن حزام

هذا النص البالغ الفتنة والجمال، أبدعه شاعر عاشق، شهرته في العشق تطغى على شهرته في الشعر، ومأساته في عشقه لابنة عمه «عفراء» تفوق بكثير قصة أي عاشق - في العصر الأموي - لمحبوبته، حتى لو كان قيس بن الملوّح عاشق ليلى، هو عروة بن حزام.

  • قصة عروة بن حزام وعفراء واحدة من أكثر قصص الغرام قسوة في التراث
  • قصائد الشاعر استخدمت بحراً شعرياً يناسب الشجن
  • الجانب الانتقامي في القصيدة جاء طبيعيًا بلا تعسف
  • بهذه القصيدة عُدَّ عروة بن حزام أحد الشعراء العذريين البارزين

تروي كتب التراث العربي قصته بوصفه أحد المتيّمين العرب، وأنه مات في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه. ولما عرف عمه بحبه لابنته قال له: هي امرأتك إن شاء الله.

لكن أمها كانت تريد لها رجلاً ثريًّا وزوجًا يدفع فيها مهرًا كبيرًا. ولم يجد عروة بدًّا من السعي عند عمّ له ثري في اليمن طالبًا عونه في تفريج كربته.

وفي أثناء غيبته خطبها رجل ثري فوافق أبوها على زواجها منه تحت ضغط أمها وبإلحاح منها. وعاد عروة من رحلته في اليمن حاملاً مهر عفراء، ليفاجأ بقصة نسجها عمُّه عن وفاة عفراء، وذهب به إلى قبر جدّده وأصلح منه ليقنعه بأنه مثواها، لكن جارية باحت بالسّر لعروة، الذي رحل من توّه إلى الشام واستقبله الزوج - الذي أتاح له اللقاء بعفراء - وسمع منهما ما كشف له عن حبّهما الشريف العفيف، وبلغ به التأثر من حالهما مبلغًا عظيمًا فعرض على عروة أن يطلقها من أجله فرفض، وعاد من الشام يعاني شدة المرض والهزال والغشيان، بعد أن فشل عرّاف اليمامة - طبيب ذلك الزمان - في مداواته وشفائه. ويقولون إن عفراء - لما بلغها نبأ موته - عام ثلاثين هجرية - لحقت به بعد ثلاثة أيام، ليسدل الستار على واحدة من أشدّ مآسي الحب العذري معاناةً وقسوة.

هذا العرض للقصة الحزينة التي تخلع ظلها على النص الشعري نجح في استخلاصه وتركيزه الفارس الشاعر مصطفى طلاس في الجزء الأول من مجلده الشعري «شاعر وقصيدة»، حتى ينفسح المجال أمامنا لتأمل تجليات النص الجمالية، وروعة البناء الذي شيده الشاعر العاشق وجعل منه شاهدًا على عصر شعري، بين أصوات كبرى لقيس بن الملوّح مجنون ليلى وكثير صاحب عزّة وقيس بن ذُريح عاشق لبنى وجميل بن معمر عاشق بثينة وغيرهم.

يستهل عروة قصيدته بالنداء المألوف الذي يتردد كثيرًا في شعرنا العربي القديم «خليليَّ»، وارتباط هذا النداء بصيغة المثنى يعيدنا إلى أول من قال: «قفا نبكِ»، والخطاب هنا أيضًا للمثنى، الذي توقف البعض عنده بالبحث والدراسة، متسائلين: ولماذا المثنى وليس المفرد أو الجمع؟ وأقرب ما قيل في هذا المجال أن أقلّ صور الجماعة أن يكون الناس ثلاثة، فإذا تكلم أحدهم فإنه يخاطب صاحبين اثنين، من هنا كان نداء امرئ القيس: قفا، وجاء من بعده من يقولون: خليليّ وصاحبيَّ، مؤكدين أن صيغة «المثنى» لها جماليتها التي تتفرد بها اللغة العربية.

لنعد إلى عروة وهو يستهلّ قصيدته، ويُطلعنا على أوجاعه وآلامه، وما أصابه من آلام وقروح، ومنزلة عفراء ومكانتها في قلبه ووجدانه، مُطالبًا صاحبيْه بأن يكونا رسوليه إليها:

خليليَّ من عُليا هلال بن عامرٍ
بصنعاءَ عوجا اليوم وانتظراني
ولا تزهدا في الأجر عندي وأجملا
فإنكما بي اليومَ مُبتليانِ
أفي كلِّ يومٍ أنت رامٍ بلادَها
بعينيْن إنساناهما غَرِقانِ
ألا فاحملاني بارك الله فيكما
إلى حاضر البلقاء ثم دعاني
ألِمَّا على عفراءَ إنكما غدًا
بِشحْطِ النّوى والبيْن مُفترقانِ
فيا واشيْ عفراءَ، ويحكما بمنْ؟
وما؟ وإلى من جئتما تَشيانِ؟
بمن لو أراهُ عانيا لفديْتهُ
ومن لو رآني عانيًا لَفَداني
متى تكشفا عنِّي القميص تَبيَّنا
بيَ الضُّرَّ من عفراءَ يا فَتيَانِ
إذن تريا لحمًا قليلاً، وأعظُما
بَلِين، وقلبًا دائم الرجفانِ

لكنّ «عفراء» تستحق من الشاعر وقفة خاصة، تفيها حقّها من اهتمام الشاعر والتفات من يتلقى النصّ من بعده، وخاصة أن البحر الشعري - الطويل - والقافية النونية التي يسبقها ألف المدّ بما تحمله من شجن وغنائية وإطلاقٍ نغمي، يجعلان لهذا المقطع من القصيدة - الذي يضم أحدَ عشرَ بيْتًا - وقْعًا شعريًّا ونفسيًّا متآزرًا، ويطلق تيارًا من الشعور العميق بالتعاطف مع هذا العاشق الذي خان عمُّه عهده معه، وكان سببًا في دفعه إلى التهلكة.

يقول عروة:

على كبدي من حُبّ «عفراء» قرْحةٌ
وعينانِ من وجدي بها تكفانِ
فعفراءُ أرجى الناس عندي مودةً
وعفراءُ عني المعرضُ المتداني
إذا رام قلبي هجْرهَا حال دونه
شفيعان من قلبي لها جَدِلان
إذا قلتُ: لا، قالا: بلى، ثم أصبحا
جميعًا على الرأي الذي يريانِ
فيا ربّ أنت المستعانُ على الذي
تحمّلْتُ من عفراء منذ زمانِ
فيا ليت كلَّ اثنين بينهما هوًى
من الناسِ والأنعامِ يلتقيانِ
فيقضي حبيبٌ من حبيبٍ لُبانةً
ويرعاهما ربّي فلا يُريانِ
ويا ليت مَحْيانا جميعًا وليتنا
إذا نحن متْنا ضمَّنا كفنان

وهذه الأبيات الثلاثة الأخيرة تصور حجم المحبة التي يشتمل عليها قلب عروة لكل اثنين بينهما هوًى، من الناس وحتى الأنعام، داعيًا بأن يتحقق لهما اللقاء الذي يرومان، ويقضي كل منهما لبانته بعيدًا عن عيون الناس بفضل رعاية من الله، وأن تكون حياة كل العاشقين معًا، فإن ماتوا ضمَّتْهم الأكفان معًا، وهي أبيات تكشف عن جوهر هذا الإنسان العاشق، الذي خلص قلبه للمحبة، وشملت محبته كل الخلق، بالرغم من أنه حُرم كلَّ ما كان يتمناه.

ثم نعود إلى قول عروة في عفراء:

يقول ليَ الأصحابُ إذ يعذلونني
أشوقٌ عراقيٌّ وأنت يَماني؟
تحمّلت من عفراءَ ما ليس لي به
ولا للجبال الراسياتِ يدانِ
كأنَّ قطاةً عُلِّقت بجناحها
على كبدي من شدّة الخفقانِ

ولا يفوت عروة، في حُميّا معاناته وطغيان وجده وآلامه أن يعرض لوقفته مع عرّافَيْ اليمامة ونجد، وكان الأمل أن يشفياه، بعد أن استخدما كلَّ الرقي والتعاويذ، ثم أعلنا عن عجزهما وفشلهما.

في ختام الأمر، يقول:

جعلتُ لعراف اليمامة حكمه
وعرّاف نجدٍ إن هما شفياني
فقالا: نعم نشفي من الداء كُلِّه
وقاما مع العُوّاد يبتدرانِ
فما تركا من عُوذةٍ يعرفانها
ولا رُقيةٍ إلا بها رَقياني
وقالا: شفاك الله، والله ما لنا
بما حَملتْ منك الضلوعُ يدانِ
فَرُحتُ من العرّافِ تسقطُ عمتي
عن الرأس، ما ألتاثُها ببنانِ
معي صاحبا صدقٍ إذا ملْتُ ميْلةً
وكانا بجنبي سُرْعَ ما عذلاني

كما لا يفوته أن ينزل على عمِّه - الذي غدر به ولم يفِ بوعده له واستسلم لإرادة زوجته - بأشدّ ألوان النقمة واللوم، والدعاء عليه بأن يحدث له ما حدث لعروة نفسه من ابتلاء وهوان، وأن يذهب قلبه شعاعًا مقسّمًا في كل مكان، واصفًا إياه بالغدر والغدر سجية فيه، أي طَبْع وصفة ملازمة، فيقول:

فيا عمِّ يا ذا الغدْرِ لا زلْتَ مُبْتلًى
حليفًا لهمٍّ لازمٍ وهوانِ
ولا زلت في شوقٍ إلى من هويتهُ
وقلبُك مقسوما بكلِّ مكانِ
غدْرتَ وكان الغدر منك سجيّةً
وألزمْتَ قلبي دائمَ الخفَقانِ
وأورثتني غمًّا وكرْبًا وحسرةً
وأورثت عيني دائم الهملانِ

وكأنه ينتقم من عمِّه الغادر الذي حرمه لقاء عفراء والاجتماع بها في الدنيا، عندما يقول له إنه سيلتقي بعفراء في يوم الحشر، ولذا فهو يتعجّل هذا اليوم، ويوقن أنه سيكون بعيدًا عن سطوة هذا العمّ وكيده وغدره، وساعتها لن يملك عمُّه من أمر نفسه أو أمر غيره شيئًا، وليبؤ بالخسران!

ويأتي السياق طبيعيًّا، لا عنت فيه ولا تعسّف، فحديث الآخرة ويوم الحشر، والرحيل عن الدنيا، يقود إلى الخراب والفناء وتحوّل العمران إلى أطلالٍ تنعق فيها الغربان، عنوانًا على الموت الذي حلَّ، ورحيل من كانوا يقيمون بالمكان ذات يوم.

وهي صورة شعرية تذكّرنا بالصورة التي أبدعها ذو الرمة وهو يقول في حالٍ مشابهة، مصورًا الديار التي هجرها الأهل والأحباب فصارت أطلالاً خاوية، وحلّت بها الغربان تنعق معلنة عن حلول الموت:

عشية ما لي حيلة غير أنني
بلقط الحصى والخـطِّ في الأرض مولعُ
أخطُّ وأمحو الخطَّ ثم أعيده
بكفي، والغربان في الدار وُقَّعُ

أما عروة فيمضي بصورته الشعرية إلى أقصاها، ونهايتها البشعة، حين يدعو الغرابيْن اللذيْن ينتجيان باسم عفراء بين أطلال الدار حتى يذهبا بلحمه إلى وكريْهما ليهضماه ويزدرداه دون أن يُبقيا منه شيئًا لبقية الطير، وحتى لا يعلم الناس بأمر موته وكيف كانت نهايته:

ألا يا غرابيْ دمنة الدار، بَيِّنا
أبالهجر من عفراء تنتجيانِ؟
فإن كان حقًّا ما تقولانِ، فاذهبا
بلحمي إلى وكريْكما فكُلاني
كُلانيَ أكلاً لم ير الناسُ مثله
ولا تهضما جنبيَّ وازدرداني
ولا يعلمنّ الناسُ ما كان ميتتي
ولا يأكلنَّ الطيرُ ما تذرانِ

وفي مثل هذه القصة من قصص العشق المأساوية، ينفتح المجال ويتسع لأحاديث الوشاية والنميمة، ونقل الكلام من طرف إلى طرف ومن مكان إلى مكان، هذا هو الذي يملأ فضاء البادية ويُخفّف من صمتها ويشغل الناس فيها صباح مساء.

وعروة يعلم ما يردّده الوشاةُ الحاسدون والحاقدون من أقاويل ومن أحاديث مفتراة فيقول:

ألا لعن الله الوشاةَ، وقولهم
فلانةُ أضحتْ خُلّةً لفلانِ
إذا ما جلسْنا مجلسًا نستلذّهُ
تواشوا بنا حتى أملَّ مكاني
تكفّلني الواشون من كلِّ جانب
ولو كان واشٍ واحدٌ لكفاني
ولو كان واشٍ باليمامة أرضهُ
أُحاذرهُ من شُؤمه لأتاني

لكنّ قلب عروة مازال ينزف من غدر عمّه به وقسوته عليه حين طلب منه أن يكون مهر عفراء ثمانين ناقة، وهو لا يملك غير ثمانٍ، وتراوحه ذكريات رحلته من أجل أن يجمع هذا المهر ومعه صاحبه الذي يُسْليه ويسرِّي عنه، وهو يقول:

يكلّفني عمي ثمانين ناقةً
وما ليّ يا عفراءُ غيرُ ثمانِ
فوالله ما حدَّثتُ سرَّكِ صاحبًا
أخًا لي، ولا فاهت به الشفتانِ
سوى أنني قد قلت يومًا لصاحبي
ضحًى، وقلُوصانا بنا تَخدانِ
ألا حبّذا من حبِّ عفراءَ واديا
نعامٍ وبرْكٍ حيث يلتقيانِ
ضَحينا ومسَّتْنا جَنوبٌ ضعيفةٌ
نسيمٌ لريّاها بنا خفقانِ
تحمّلْتُ زفراتِ الضحى فأطقْتُها
وما لي بزفراتِ العشيِّ يدانِ

ويبدو أنه لم يشْف غليله تمامًا من خيانة عمه وسوء فَعْلته به، فهو يعود ثانية - قرب ختام قصيدته - إلى الدعاء عليه ألا يُنعم عليه بالسُّقيا من ذي قرابة، وأن يظلَّ ظامئًا يشكو الحرمان من الماء، مؤكدًا له أنه لولا حبه لعفراء ما عرف طريقه إلى بيت هذا العم، ويستدعي حديث العم ذكر المعشوقة التي لن ينساها، تلك التي شغلته عن حديث كل محدّث، والتي جعلت قلبه جناح غرابٍ دائمَ الخفقان:

فيا عمّ لا سُقّيت من ذي قرابةٍ
بلالاً، فقد زلّت بك القدمانِ
ومنَّيْتني عفراءَ، حتى رجوْتُها
وشاع الذي مُنّيتُ كلَّ مكانِ
فوالله لولا حُبُّ عفراء ما التقى
عليَّ رواقا بيتك الخَلَقانِ
رواقانِ خفّاقانِ لا خير فيهما
إذا هبـّت الأرواحُ يصطفقانِ
ولم أتبع الأظعان في رونق الضحى
ورحْلي على نَهّاضة الخدَيان

(نهاضة الخديان: الناقة السريعة الجري)

أعفراءُ كم من زفرةٍ قد أذقْتني
وحزنٍ أذابَ العيْن بالهملانِ
كأنَّ وشاحيْها إذا ما ارتدتهُما
وقامت، عنانا مُهرةٍ سلسانِ
فويلي على عفراء ويْلاً، كأنه
على الكِبْد والأحشاءِ حدُّ سِنانِ
أُحبُّ ابنة العذريِّ حُبًّا، وإن نأَتْ
ودانيتُ منها غيْرَ ما مُتدانِ
وقد تركتْني ما أعي لمحدّثٍ
حديثًا، وإن ناجيْتهُ ونَجاني
وقد تركَتْ عفراءُ قلبي كأنه
جناحُ غرابٍ دائمُ الخفقَان

هذه اللغة الشفيفة، الخالصة الصفاء والنقاء، وهذا الإيقاع المتدفق الرنان، المفعم بالشجن والأسى، وهذا الخيال البدوي الصحراوي الذي يتكئ على معجم من المفردات والتراكيب العامرة بدلالات المكان والزمان، وهذا الحسّ الأصيل المتمثل في استقرار القافية، وامتداد النَّفس الشعري، هي كلُّها بعض تجليات العربية وجمالاتها في هذا النص الشعري البديع لعروة بن حزام. وهو وإن لم يكن معدودًا بين أصحاب القامات الشعرية السامقة من العذريين أمثال كثيِّر وجميل وابن الملوّح، إلا أنه بمثل هذا الشعر استطاع أن يأخذ مكانه في ديوان شعر العذريين وأن يُضرب به المثل، كما جاء في قول القائل:

عوجا على الربع المحيل، لعلّنا
نبكي الديار كما بكى ابن حزامِ

بعد أن أصبحت مأساته في عشقه، وخديعة عمه وغدره به، قصة حزينة يتعزَّى بها كلُّ عاشق، وشعرًا بديعًا يتمثل به كلُّ شاعر من بعده.

 

 

فاروق شوشة