إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي

أنا والدكّة!

الدكّة هي صديقتك التي تظلّ معك من أول يوم في السنة الدراسية إلى آخرها، لذا عليك أن تختار دكّتك جيداً في اليوم الأول للدراسة، لأن الرفيق يأتي قبل الطريق، بينما تأتي الدكّة قبل الاثنين!

«الدكّة» هو الاسم الذي كان يطلقه أهالينا على تلك القطعة المكتبية العجيبة التي تتكون من مكان للجلوس ومكان للكتابة ملتصقين ببعضهما بعضاً. في الخليج يسمّيها الطلبة «الدُّرج»، وعندما كانت مدرستي في منطقة العباسية كنا نطلق عليها «البِنش»، أما عندما انتقلت إلى مدرسة في مصر الجديدة فقد تحوّل اسمها إلى «الديسك».

حدّث عن «الدّكك» في مدارسنا ولا حرج، الدّكك لدينا عبارة عن قطع خشبية مُحطَّمة لا رابط بينها. من النادر ألا يكون هناك مسمار يساهم في تمزيق بناطيلك طوال السنة، وحفر وأخاديد في الخشب تساهم في جعل خطك السيئ أصلا أكثر سوءاً.

في الصف الثاني الثانوي، وقع نصيبي مع زميلي عمرو علي في دكة من دون قطعة خشبية للجلوس. ولتخيُّل الأمر فإن الدكة عامة تتكون من هيكل معدني وثلاثة ألواح خشبية: لوح للكتابة عليه وآخر للجلوس وثالث لسند الظهر. كانت دكتنا في ذاك العام من دون لوح الجلوس، وكان علينا أن نجلس على الماسورتين المعدنيتين الرفيعتين المتوازيتين المخصصتين لتثبيت المسامير والفراغ بينهما!

بالطبع لم يكن من الممكن السكوت على هذا الوضع المزري. لم تُجْدِ الطرق الديبلوماسيّة، فلا مشرف الفصل ولا مشرف الدور فَعَلا شيئا، وقد قيل لنا إن علينا أن نتحمّل وأن نحمد الله لأن غيرنا لا يجد الدكّة التي يجلس عليها! كما أننا كبِرْنا ولم يعد من اللائق أن نلجأ إلى أهالينا لحلّ مثل هذه المشاكل. وهكذا كان لابد من اللجوء إلى أساليب أخرى، وأن نعتمد على أنفسنا في الوصول إلى حل.

بالبحث في الأماكن المخفيّة في المدرسة والتي تمتلئ بالكراكيب، استطعنا الحصول على كرسيين خشبيين أحضرناهما ووضعناهما فوق الماسورتين المعدنيتين، وهكذا تسنّى لنا الجلوس، إلا أن الكرسيين أديا إلى ارتفاع مستوى رأسينا عن مستوى رءوس الجالسين في الخلف، وقد أدت الاحتجاجات والشكاوى المتتالية إلى إجبارنا على التخلي عن الكرسيين والعودة للجلوس على الماسورتين.

قررنا اللجوء إلى الأساليب الخبيثة، فقمنا باستبدال في الدكة التالفة بدكة أخرى حصلنا عليها من فصل مجاور. ظننا أننا قمنا بحل المشكلة هكذا. مضت الحصة الأولى بسلام ثم الثانية، وقبل بداية الثالثة رأينا وجهين غاضبين يدخلان الفصل ويفحصان الدكك إلى أن توصلا إلى دكتهما المطلوبة وأخذاها من تحتنا. تعجبت كيف عرفا دكتهما وسط الدكك المتشابهة التي تملأ الفصول، لكن هذا السؤال لم يكن هو مشكلتي الملحّة بينما أحمل الدكة التالفة وأعود بها إلى الفصل!

كان لابد من وقفة كبرى يعتمد فيها الإنسان على نفسه ويتحدى الظروف والعواصف والأعاصير.

استيقظت في ذلك اليوم مبكراً جداً، ووصلت إلى المدرسة قبل وصول الفراشين وصعدت إلى الفصل. حملت الدكة التالفة ووضعتها في آخر فصل في الدور، واستبدلت أماكن كل دكك الفصل مع بعضها، وأخذت دكة سليمة ذهبت بها إلى فصل آخر واستبدلت أماكن الدكك مرة أخرى، ثم أخذت دكة سليمة وكررت الأمر مع فصل آخر، وحصلت على دكة سليمة بحيث يكون صاحب الدكة المأخوذة قد حصل على دكة أفضل منها، حتى لا أعطيه دافعا للبحث عن دكته، وهكذا تاه الموضوع تماماً وأصبح من المستحيل على أي شخص أن يتتبّع الأمر ليصل إلى دكته الأصليّة.

أصبح لديّ الآن دكّة وأصبحت المشكلة في حِجْر شخص آخر، وحتى اليوم لم يتوصل أحد إلى سر الدكة التالفة!.
----------------------------------
* كاتب من مصر.

 

 

 

ميشال حجا