العلاج بالنحاس

من يصدق أن النحاس يستخدم في علاج بعض الأمراض، هذا ما يحدث الآن بالفعل، فقد  عاد الباحثون إلى النحاس لتحديد إمكانات استخدامه في العلاج بعد أن تغافل الإنسان عنه منذ نجاحه في صناعة العقاقير الكيميائية، فهل ستنجح هذه المحاولات؟

وما حكاية العلاج بالنحاس..؟

في مجلة أوربية رصينة يطالعنا إعلان غلاف داخلي يقول "علاج ابن سينا للجميع، لالتهاب مفاصل الأصابع، والتهاب أعصابها الطرفية". وتحت الإعلان تبتسم حسناء متعافية تبسط راحتها مبدية للعيان كرتين من نحاس براق.

وفي كثير من صيدليات أوربا نرى خلف زجاج الواجهات نماذج لأقراص رقيقة  وأساور من نحاس تظاهرها إرشادات طبية مطبوعة وموثقة. وفي الشوارع نلمح رجالا ونساء تلتف حول معاصمهم أساور النحاس. للنساء أساور منقوشة وللرجال بلا نقوش. وشيئا فشيئا نتعرف على جهات صنعها: فالمضفورة - كالسلاسل - بإحكام وأبهة، أمريكية الصنع. والرشيقة الخفيفة أوربية غربية. أما الموسومة بزخارف أيقونية الطابع وعليها ختم أسعارها فهي روسية.

وفي الدليل الدوائي الفرنسي للطبابة المثلية - Ho moeapathy نستطيع أن نحصي عشرين نوعا من العلاج جوهرها النحاس.

ولا يقف المرء عند تلك الصور التي قد تبدو للبعض عامية الطابع، فقد صار للعلاج بالنحاس أركانه المكينة في معامل البحث العلمي. ففي إحدى الجامعات الكبرى بأوربا الشرقية تأسس مع بداية الثمانينيات قسم كامل لدراسة إمكانات المعالجة بالمعادن وعلى رأسها النحاس. وهنا وهناك نتعرف على أسماء لعلماء مثل "يايمان" و "رايتسيس" و "ايونينا" و "روماشوف" و "فيلكوفر"، يدرسون في غرب أوربا وشرقها مواضيع مثل كهربية الجسم، والمستقبلات العصبية الإضافية للجلد، وغير ذلك تما يثيره موضوع النحاس، وبالتحديد: استخدام شرائح النحاس الأحمر للعلاج على الجلد.. بالتدليك أو الملامسة أو الوخز أو التثبيت إلى غير ذلك من الطرق.

فما الحكاية؟

طب آخر نحتاج إليه

الحكاية أننا نحن الجنوبيين (سياسيا) في وادٍ، والشمال (الذى تتهاوى الآن الأسوار بين شرقه وغربه) في وادٍ آخر. ومن الطريف أننا في وادينا الجنوبي مازلنا نتمترس وراء صراعات الشمال التي يعفو عليها الزمن وتدق حولها نواقيس الخطر أو - على الأقل - الحذر. فمع الأيام صارت تتبدى بجلاء الآثار الجانبية الضارة للحماس المبالغ فيه للتكنولوجيا.. على بيئة الأرض وعلى حياة الإنسان فوق هذه الأرض بشقيها الروحي والجسدي.

وفي مجال الطب الشائع - الطب الغربي - طب ما يسمى بالحضارة الصناعية صار مرصودا بأسى: خطأ الوقوف عند العقاقير الكيميائية كتوجه ولا للتعامل مع المرض، فمن فقد الفعالية أمام الميكروبات، إلى تثبيط الجهاز المناعي، وحتى القول بأنها مجرد مواد قامعة للأعراض تفيد في المدى القريب وتضر على المدى الأبعد، دون أن تقتلع المرض من جذوره. وإذا أضفنا إلى العقاقير أدوات التكنولوجيا الطبية الباذخة باهظة التكاليف يتجلى أثر جانبي أشد ضررا للولع بهذا الخليط الشمالي كوصفة وحيدة للوصول إلى حالة الصحة، ألا وهو إهمال الجانب الروحي (والنفس ملمح له)، وإهمال الجانب الاقتصادي أيضا. أمام هذا الانكشاف للوجه الآخر لطب "الحضارة الصناعية"، يجري الآن صعود حثيث لطب آخر. طب كلي النظرة يرى الإنسان ككون مصغر Microcosmos يسبح في أكوان أكبر: بيئة الأرض ودنيا الله الواسعة. كون من روح وجسد لا انفصال بينهما في حالتي المرض أو الصحة. ومن ثم لا يكون علاجه صحيحا إلا باحترام هذا العلاج لبيئة هذا الكون المصغر (روحا وجسدا)، واحترام بيئة الكون الأكبر من حوله، وفي هذا السياق يبرز تفضيل العلاج بالطرق (الطبيعية) واستخدام مواد (الطبيعة).. وهنا يأتي الطب الآخر.. الطب الذي يسمونه في الغرب بديلا Alternative أو مكملا Complementry أو موازيا، أو غير ذلك من تسميات تشير إلى نوع من الطب يستخدم مواد الطبيعة البكر (كالنباتات، والمعادن، والمياه) ويستنفر الكامن من طاقات الإنسان بوسائل طبيعية أيضا (كالتنفس، وتركيز الفكر، والاسترقاد، والتريض) كل هذا لرد المرض، أو تحاشيه، في سبيل الوصول إلى حالة الصحة التي هي حالة معافاة للروح وللجسد معا.

وحتى يتم (تقنين) هذا الطب - ذي المراجع الشرقية القديمة على الأغلب - وتقديمه للعقل الغربي فقد ولّفوا له علما هو "علم المناعة النفسي العصبي" Psycho Neuro Imunolgy يدرسون فيه وسائل هذا الطب البديل بمفاهيم الطب المعاصر المتعلقة بالنفس والأعصاب والجهاز المناعي. ويقف النحاس اليوم في طابور المدروسات بإلحاح لدى هذا العلم.

فماذا عن النحاس؟

عودة إلى الزمن القديم

اسمه ذو المنشأ اللاتيني كوبر يرجع إلى اسم جزيرة قبرص التي يزعم أن مولد النحاس كان بها. بينما الحقيقة أبعد من ذلك. لأن استخدام النحاس عرف مبكرا لسهولة حصول الإنسان عليه غير مختلط بسواه، ومن ثم صار يشكل منه أدواته حتى ليقال إن عصر النحاس أزاح العصر الحجرى في تاريخ البشرية. أما طبيا، ففي حضارتي مصر وسورية القديمتين كان يوصى بارتداء أساور النحاس للوقاية من لين العظام ومن الصرع. وفي الطب الصيني القديم كان يُشار إلى استخدام إبرة من "المعدن الأحمر" - أي النحاس - للتنشيط والتحفيز. وكان الفلاسفة اليونانيون، وخاصة الفيلسوف الطبيب "أنبادوقليس" يرتدي صندلا من النحاس لعله هو الذي وقاه من وباء الكوليرا التي كان شائعا معالجتها والوقاية منها بالنحاس. كما أن أرسطو طاليس كان يعمد - بعد يوم عمل شاق - إلى النوم وفي راحته كرة من النحاس تمتص تعبه أو تبثه العافية. وفي القرنين العاشر والحادي عشر كان الطبيب والفيلسوف المسلم "ابن سينا" واضع كتاب "القانون" الذي ظل المرجع الرئيسي لأطباء المسلمين حتى القرن التاسع عشر والذي ظل الغربيون يستعينون به في حضارتهم لأكثر من خمسمائة عام كان ينصح بتناول مسحوق النحاس عند كسور العظام وكان يضع رقائق النحاس على الجروح المتقيحة حتى تبرأ. وهو ما استمر متوارثا في ذاكرة الطب الشعبي خاصة عند العامة الذين يظل اتصالهم بالقديم حيا، بل أكثر حياة، من الاتصال بالحديث الذي تقف بينهم وبينه عوائق التنائي في الأماكن المعزولة أو العوز لوسائل الاتصال أو حتى الفقر المادي في مواجهة الحديث الأكثر تكلفة في الغالب. لهذا ظل القرويون والرعاة في أماكن عديدة من الأرض يعطون برادة النحاس لحيواناتهم المصابة بالكسور وأيضا للحيوانات التي تصاب بالإسهال وحئول لون الفراء وتقصفه، وهو ما يعزى إلى نقص النحاس.

كما أن شعوبا كثيرة في الشرق مازالت تضع (خلاخيل) النحاس وأساوره في أقدام وأيادي الأطفال لتساعدهم عند (التسنين). ويمضي الزمان بالنحاس، ويتقدم، ومع ذلك لا يصدأ نفعه، بل ينجلي، وتعود حقائقه الطبية القديمة لتدهشنا، حتى لنتساءل عن منبع الحكمة القديمة التي رأت ببسيط إمكاناتها ما نعود إلى رؤيته الآن مستخدمين أعقد وسائل التكنولوجيا، فننبهر ونتعجب.

حضور في زماننا

بدأ الاهتمام بدور النحاس في الطب المعاصر في أواخر عشرينيات هذا القرن وبالتحديد عام 1928 عندما ثبت أنه بدون قليل من عنصر النحاس يعجز الجسم عن تكوين كرات الدم الحمراء، حيث يرتبط التمثيل الغذائي للحديد بالتمثيل الغذائي للنحاس. وثبت كذلك أن النحاس هام لتكوين الإنزيمات اللازمة لنمو العظام. كما يعتقد أن النحاس يدخل في تركيب صبغة الميلاتين الملونة للجلد والشعر وكذلك الحامض الريبو نووي، والبروتين الداخل في تركيب كل خلية. هذه الوظائف جميعها، وغيرها مما لم يكتشف بعد، تقوم على قدر ضئيل من النحاس يصل المطلوب منه للإنسان البالغ يوميا ما بين 1.5 - 2 من الملليجرامات ليحافظ على محتوى الجسم من النحاس وقدره 100 - 150 ملليجراما. ويكون التركيز الأقصى للنحاس في المخ والكبد.. أي في مركز الإدارة العليا للجسم، وفي أعظم مصانعه، ولعل هذا يشير إلى خطورة الدور الذي تقوم به هذه الكمية الضئيلة من النحاس في الجسد الإنساني. ولأننا لا نريد هنا أن نتوقف عند اختلالات عنصر النحاس التي يمكن إصلاح بعضها عن طريق إعطاء النحاس منفردا أو مع مركبات أخرى بالفم أو بالحقن وهو ما يدخل في حقل الطب الغربي المعروف. بينما هدفنا الطب الآخر - البديل الذي يعتمد على العلاج بطرق طبيعية - فإننا سنقصر الحديث على دور النحاس عندما يستخدم في العلاج الموضعي.. من الخارج في صورة رقائق معدنية أو أقراص أو كريات أو أساور، إلى غير ذلك من أشكال النحاس الأحمر عند ملامسته للجلد.. فماذا يفعل؟

الاستخدام الموضوعي

لقد عرفنا عبر التفاتتنا إلى الزمن القديم أن استخدام النحاس ليلعب دوراً علاجيا عبر ملامسته للجلد ليس اكتشافاً جديداً. لكن الجديد هنا هو تقنية ذلك القديم، وإعادة بحثه، وتوسيع مجاله، بها صار متوافرا تحت يد الإنسان من معارف وتقنيات جديدة لعلها تكون الوسيلة لإنقاذ التكنولوجيا من نفسها، وإنقاذ عالمنا بالعود المحمود إلى المنابع القديمة لتطهيرها والارتواء منها مجددا. وبهذا المنطق تجري دراسة الاستخدام الموضعي لمعدن النحاس. ولقد ثبتت عدة حقائق أولاها أن مجرد ملاصقة النحاس للجلد يولد تيارا كهربيا دقيقا جدا مثل التيار المتولد في الحد الفاصل عند تلامس وسطين مختلفين موصلين بالكهرباء. ثم تبين أن النحاس على الجلد يعطي شحنة مقوية ومحفزة لأنه يعمل كقطب سالب (كاثود)، بينما الفضة مثلا تعطي شحنة مهدئة لأنها تعمل كقطب موجب (آنود).

ويعزى هذا التأثير في النحاس إلى سهولة حركة ألكتروناته الحرة. وهذا ليس بغريب على المعدن الذي يطلقون عليه لقب "معدن الكهرباء الأعظم" لاتساع رقعة استخدامه في الأجهزة الكهربية والألكترونية. بعد ذلك تلعب شحنة هذا التيار الدقيق المتولد على الجلد دور المثير للمستقبلات العصبية التي تنقل الرسالة الكهربية عبر الأعصاب والحبل الشوكي إلى المراكز العليا في المخ فيتكون الرد على الرسالة ويحدث تفاعل منعكسي Reflex في العضو أو المنطقة المرتبطة بالنقطة المثارة على الجلد، وتنبعث الطاقة الكامنة لرد المرض عن هذا العضو أو هذه المنطقة. تفسير يشبه أحد التفسيرات العلمية الحديثة للوخز بالإبر الصينية حتى لقد سموا العلاج الموضعي بالنحاس "الوخز الجلقاني" أو الوخز باختلاف الجهود الكهربية. هذا التفسير الكهربي والمنعكسي للعلاج بالنحاس أكدته وصاحبته ظاهرة مثيرة هي أنهم عندما كانوا يضعون الأقراص النحاسية على الجلد تحت أربطة تثبتها فوجئوا في بعض الأحيان وبعد نزع الأربطة مع مضي بعض الوقت بأن الأقراص تحركت من مواضعها. ولقد فسر البروفسور "روما شوف" الروسي "هجرة" هذه الأقراص بأنها تتم على حساب تباين التأثير للحقول الكهربية لمختلف مناطق الجسم.

وعادة يتحرك القرص صوب الموضع الأكثر مرضا ليعيد تعمير هذا الموضع بالكهرباء الاستاتيكية، ويمكن في هذه الحالة أن يقع القرص من تلقاء نفسه عن الجلد. وهذا التفسير لكيفية عمل أقراص النحاس ينطبق أيضا على عمل الأساور النحاسية المنتشرة عالميا، أو الرقائق التي يستخدمها الفرنسيون، أو كريات اليابانيين المستخدمة في العلاج المسمى "تسوبو". إضافة لهذا التأثير الكهربي المنعكسي فقد ثبت أخيرا أن الجلد لديه القدرة على امتصاص القليل من النحاس الموضوع عليه خاصة عندما يعرق. فما الذي يعالجه هذا النحاس؟ علاج ومحاذير القائمة طويلة لما يمكن أن يعالجه هذا النحاس الموضعي، وتشمل: إجهاد العضلات وتقلصها، والصداع، والوهن العصبي، وآلام العضلات والأعصاب الطرفية المزمن، والتهاب جذور الأعصاب، والتهاب المفاصل الروماتيزمي، والتهاب بطانة الشرايين. إضافة للدور الوقائي من التهابات الجهازين التنفسي والهضمي، ومع إمكان استخدام النحاس في شكل كريات أو أقراص رقيقة كبديل للوخز بالإبر، في الحالات التي لا تحتمل الوخز، فإن القائمة تطول. ومع استطالة هذه القائمة وإمكان استطالتها أكثر - بالاستخدام العشوائي لوسيلة علاجية سهلة التناول - تتوجب الإشارة إلى المحاذير، لأن النتيجة لن تكون واحدة لكل الناس. فهي إيجابية عندما يكون هناك احتياج لتأثير هذا العنصر، ويمكن معرفة ذلك بإجراء اختبار بسيط تلصق فيه رقيقة من النحاس على الجلد وتترك لمدة 6 - 8 ساعات على الموضع المريض ثم ترفع وينظر إلى الأثر الذي تتركه الرقيقة، فإذا كان بقعة داكنة فهذا يشير إلى إمكان العلاج بالنحاس. وعموما لا ينبغي إلصاق الأقراص أكثر من يومين على الجلد. أما الأساور فننصح بخلعها ليلا حتى لا تسبب الأرق أو التوتر في بعض الحالات. ولا ينصح باستخدام العلاج بالنحاس الموضعي عموما لدى الناس الذين تسميهم أدبيات الطبابة المثلية "ذوي التكوين النحاسي" وهم الذين تنخفض عندهم عتبة الشعور بالألم كثيرا، فيجنحون إلى الأنين والتوجع بسهولة مع اضطراب ظاهر في قدرتهم على التعبير، لأن هؤلاء لن يزيدهم النحاس إلا توترا.

ويبقى أن نشير إلى أن الأشكال المختلفة للنحاس، وكيفية تطهيره، والمواضع التي سيلصق بها على الجلد ينبغي أن يحددها مختص يعرف خريطة ما يسمى بالنقاط الحيوية ومناطق الانعكاس، لإحداث الأثر العلاجي المطلوب، وللمتابعة والتدخل عند الضرورة. كما ينبغي التحذير من عشوائية استخدام النحاس على إطلاقه لأن النحاس العلاجي له شروطه وهو ما ينبغي أن يخضع لرقابة السلطات الصحية. وما دمنا قد وصلنا إلى ذكر السلطات الصحية فإننا نطلق السؤال: هل وصل نبأ النحاس؟ نبأ الطب الآخر الذى نحتاج إليه؟ وهل نحلم بمركز عربي ينهض بشئون البحث العلمي في أموره؟ يحدونا الأمل.