الطائر والصياد

    أشعلت وسمية النار، فأحسست بدفء غامر كالماء الحار، ينسفح فوق جسدي المقرور.

- رائع هو الدفء يا وسمية. أليس كذلك؟

قذفت بقطعة خشب، إلى بوتقة الوهج:

- أنتم أبناء المدن لا تحتملون البرد، جميع المدرسين الذين قدموا القرية كانوا على شاكلتك.

- على شاكلتي يا وسمية؟

- أنت تشبهنا بعض الشيء، لكنك لا تقاوم طويلا. رأيت سهلي يقترب من بوابة الكوخ، كان يبدو كشجرة تتحرك جاءنا صوته الخشن وهو يرمي حمولته على مقربة من البوابة:

- لم أترك غصنا يابسا في الأشجار القريبة.

خرجت وسمية وسهلي يدخل ويجلس إلى جواري:

- أتوقع لك صيدا حسنا يا أستاذ، فالشمس ستشرق عما قليل وتمتلىء سفوح الجبل بمختلف أنواع الطير، لقد انقضت أيام العاصفة الأخيرة، والطيور ستبحث عما تقتات به.

وقفت وغادرت الكوخ، كانت وسمية تقطع الأغصان، وجهها أحمر كوردة جورية والثلج يحيط بها من كل جانب. بصعوبة أدرت وجهي.. رأيت سهلي يشير إلى قمة الجبل:

- انظر، الأشعة تعانق الجبل.

بؤر صغيرة من الضوء، رصعت القمة البعيدة المكللة بالثلج، فبدت كأنها تشتعل.

قال سهلي:

- سنسبق الشمس إلى السفح، ونختار مكانا تكثر فيه أشجار البطم والعرعر.

أعدت وسمية طعام الفطور، فجلسنا نحتسي الشاي الدافئ، ونلتهم قطع الجبن القروي والزيتون الأسود، ولم يلبث سهلي وزوجه أن انطلقا في الضحك. هالني إحساسي بالغربة إلى جوار الزوجين السعيدين كانا يضحكان كطفلين ويتبادلان اللقيمات، ويتغامزان، ولم أكن بينهما في تلك اللحظة.

انتقى سهلي شجرة بطم كبيرة، واقتعد جذعها الضخم، وبندقيته بين يديه، قال لي:

- اتبع وسمية.

انطلقت برفقة المرأة الجميلة وقد ازداد وجهها توردا وجمالا، قلت ونحن نقترب من صخرة بيضاء:

- وسمية، انظري، ما أجمل تلك الصخرة؟

- إنها لكذلك، لكن الطيور الجائعة لاتقترب منها.

- لا بأس، بودي لو نجلس ونتحدث قليلا. اتجهت نحو الصخرة:

- كما تشاء، وإن كنت أرى ما يخالف رغبتك، فلا حئنا من أجله هو الصيد.

ضحكت وأنا أجلس قبالتها:

- أجل جئت للصيد وحده.

كنا قد ابتعدنا عن شجرة (سهلي) وكان ضوء النهار يزداد سطوعا، ولم نر طيورا منذ تحركنا، تابعت وأنا أتاملها:

- لم تستيقظ طيورنا بعد يا وسمية.

- قالت: لا بأس، فأنتم أبناء المدن تتعبون بسرعة.

- كلا، لم أتعب.

خفق جناحا حمامة حول وجهي، وعيناها ترعيان فوق ملامحي:

- سنتحدث

- لا أدري حول ماذا سنتحدث، في مثل هذا المكان.

- أنت أيضا كفتيات المدن.

غمرت وجهها موجات تساؤل، ونظراتي تحيط بها.

- كيف ذلك؟

- ألم يتملكك الخوف من وجودك وحيدة مع . رجل؟

ضحكت كما لم أرها تضحك من قبل:

- أخاف؟! ما يخيف ليس الوحدة مع رجل، بل أحاسيسنا نحو هذا الرجل.

- ألا تخيفك وحدتك معي؟

- كلا أنا لا أخاف رجلا، باستثناء سهلى.

- سهلي لماذا؟

- لأنى أحبه.

فوجئت. تخاف (سهلى) وتحبه؟ رحت أنظر إليها، انحسر الاحمرار الذي يكسو وجهها قليلا، فبدا أكثر بياضا من الصخرة الرخامية التي نقتعدها:

- أتخافين (سهلي) حقا؟

- أنا لا أخافه، لكنى أخاف الإساءة إليه، سهلي رجل نادر

استحضرت الوجه الأسمر الجاف، اليدين المتشققتين، الثياب العتيقة:

- أنا لا أصدق أن امرأة جميلة مثلك تعشق رجلا.

قاطعتنى وهي تنهض:

- لا تقل شيئا نهضت وأخذت يدها بين يدي:

- لا تغضبي

سحبت يدها وأدارت وجهها إلى الجانب الآخر، لفنا صمت، كانت أشعة الشمس تعانق أعالي الأشجار، وبدا وجه وسمية أكثر نضارة وفتنة، وددت لو أدنو من أديمه وأتلمسه.

مددت يدي مرة أخرى وأخذت يدها، كنت أتحرق إلى الإتيان بفعل ما، لكن اليد المتوترة، ما لبثت أن انقذفت بعيداً عني، وصوت إطلاق نار قادم من جهة (سهلي) يمزق السكون، وجدت وسمية تغادر مكانها، وتسير فوق الطريق الثلجية وصوتها يجذبني نحوها:

- لا تنس أن سهلي صياد ماهر

غصت حقائبنا بالطيور: شمارير وأبي زريق وسمان، وغيرها من طيور الجبال والسفوح، افتقدت بينها طائراً لم أستطع اصطياده.

- لا تحزن يا أستاذ، لا يستطيع صياد مهما بلغت مهارته أن يصيب ذلك الطائر

- لماذا يا سهلي؟

- قالت لي وسمية إنك أضعت اليوم كله وأنت تقتفي آثاره.

- أجل هذا ما حدث

- لا تتعب نفسك فهذا الطائر لا يؤكل

- رغبت في اصطياده لأتأمله عن كثب ولم أفكر في أكله

- حاول كثيرون قتله لكنهم أخفقوا، إنه طائر صعب.

خيل إليَّ أن مزيجا من الإخفاق والخيبة والحزن، لا يضارع أحاسيسي نحو الطائر. كان فريدا في شكله، لم أجد له مثيلا فيما رأيت من صنوف الطير. حسبته في البداية يمامة أو حمامة. قلت ربما كان من طيور الهدهد النادرة، أو أنه بلبل استوطنت أصوله هذه المنطقة الباردة. أطلقت عليه عن بعد وعن قرب، نفد ما أحمله من طلقات، وظل بعيد المنال، سددت عليه وهو يحلق، ولم أوفق.

سمعت صوت وسمية:

- لماذا تفكر فيما لم يستطعه أحد؟

- لم أعرف اليأس مطلقا، وأمامي ساعات سأقضيها في مطاردة الطائر

قال سهلي:

- إنك تتعب نفسك

- لابأس.. هل يفكر أحدكما بمرافقتي؟

قال:

- اذهبي أنت يا.. وسمية

لا أدري لماذا تخيلت وسمية بجناحين، وقد اتخذت صورة الطائر، ووجدتني أطارد الاثنين معا، الطائر يتوقف ريثما أضعه بين الحدقة الشعير، ووسمية تبتسم ولا تلبث أن تنطلق أيدي ضاحكة سعيدة، أشارت وسمية إلى الطائرالجميل، كان يتعلق بأعلى غصن في شجرة عرعر، فاتنا واثقا من نفسه فاتجهت إليه والبندقية تسبقني ويدي على زنادها البارد، وعندما ضغطت الزناد طار، احتضنته الشمس بمجموعة من الألوان، وارتفع باتجاه القمة البعيدة، سمعت صوت المرأة:

- إنه ينتظرك فوق شجرة (سهلي)

رحت أتخبط واتعثر وأنا أجتاز المسافة صعدا، وعندما وصلت فاجأني الطائر. كان رأسه يتجه نحوى، حركه وعيناي تحيطان به، مضت لحظات وأنا أتامله مشدوها بجماله الرائع وهدوئه الفائق، كان صدره أشبه بصدر البلبل، وعيناه كعيني حمامة، ورأسه صغيراً كرأس اليمام، وبين الجناحين لمحت الريش الذي يتوج هامة الهدهد.

اجتاحني شوق فاجع إلى امتلاك هذا الطائر، وبينما كنت أهم بالرمي، خفق بجناحيه وحلق مبتعدا، سمعت صوت وسمية:

- لن تناله أبدا.

ضحكت. توهج وجهها. وخطواتها تقترب مني:

- جاءني (سهلي) بهذا الطائر فتزوجنا فهل تستطيع الإتيان به؟

هذا الطائر فوق أعلى غصن في شجرة عرعر، فوق القمة:

- عندما تأتي به، ستراني هنا، انتظرت سهلي ولم انتظر طويلا.

انطلقت وقعت أكثر من مرة، جرحت يدي ونزفت دما كثيرا من أنفي، ونفدت الطلقات، وظل الطائر حرا طليقا، وبدأ الإرهاق يغزو جسدي ثم تهاويت فوق الأرض المغطاة بالثلج.

عندما استعدت قواي وقفت. رأيت وسمية كالطائر فوق القمة البعيدة التي يمنعني من الوصول إليها نحاطر لاحصر لها: الثلج المتجمد، والصقيع الذي يجمد الأطراف، الطريق المجهولة، الوادي في الجهة الاخرى، والسفوح المنحدرة باتجاه غور سحيق، وكان شال وسمية يخفق، ويبدو الوجه كصباح مشمس نظيف، فرفعت يدي، لوحت لها، لكنها لم تر التلويحة رفعت البندقية الخاوية فوق رأسي، ووجه وسمية يتجه نحو سهلي، بينما الطائر ينطلق محلقا في الفضاء.