أرقام

مشكلة "العمر الإضافي"!

رغم كل شيء، فقد تحسنت صحة العالم، وخلال أربعين عاما تنحصر بين (1950 - 1990) ارتفع متوسط العمر المتوقع في الكتلة السكانية الأكبر وهي الدول النامية من أربعين عاما إلى 63 عاما. وطبقا لتقرير "التنمية في العالم - 1993" والذي يصدره البنك الدولي "فقد كان ذلك أعلى معدل تحسن في تاريخ البشرية".

التفاصيل أيضا مهمة، فقد زاد متوسط العمر المتوقع في أسوأ المناطق وهي إفريقيا جنوب الصحراء، حدث ذلك بين عامي 1975 و 1990، حيث زاد المتوسط من 48 إلى 52 عاما.. في نفس الفترة، وعلى مستوى العالم كله زاد المتوسط من ستين إلى 65 سنة.. كما زاد المتوسط في أفضل المناطق وهي الدول التي أسماها التقرير ذات اقتصاد مستقر من (73) إلى (76) عاما.

في التفاصيل أيضا نجد تلك الرابطة الوثيقة بين المستوى المعيشي، وسنوات الحياة.

في عام 1990 كان سكان الدول المتقدمة (اقتصاديات السوق المستقرة) (798) مليون نسمة أي نحو 15% من سكان العالم.. و.. كان متوسط نصيب الفرد من الناتج القومي يقترب من عشرين ألف دولار في السنة، وهو ما يوفر - بطبيعة الحال - مستوى معيشيا وصحيا مرتفعا ساعد على بلوغ ذلك المتوسط الذي نتحدث عنه: 76 عاما كعمر متوقع لإنسان العالم المتقدم.

في المرتبة التالية أتت الدول الاشتراكية السابقة بمتوسط في الناتج (2850) دولارا للفرد .. ومتوسط عمر يبلغ 72 عاما. ولكن، وعلى النقيض، تأتي الهند - والتي يقترب عدد سكانها من سكان دول السوق المستقرة - لتسجل أن متوسط نصيب الفرد من الناتج (360) دولارا في السنة.. أي دولارا واحدا في اليوم.. أما متوسط العمر فلم يزد على 58 عاما.

عبقرية الحلول جاءت من الصين التي تقترب أيضا من خمس تعداد العالم، فقد استطاعت بدخل لا يتجاوز (360) دولارا للفرد في السنة.. أن تحقق متوسط عمر يبلغ 69 عاما.

خارج دائرة الاقتصاد

ولكن، ليس بالاقتصاد وحده يحيا الإنسان، فسنوات العمر لا ترتبط بالدخل ومقدار ما يوفره من مستوى معيشي وصحي فقط، لكن هذه السنوات ترتبط بعوامل أخرى بعضها لم يعرفه الإنسان إلا في السنوات الأخيرة. توقعات البنك الدولي تورد ثلاث حالات تضاعف حالات الوفاة، وإن لم تتصل مباشرة بالظروف الاقتصادية.

الحالة الأولى: انتشار نقص المناعة "الإيدز"، ومن المتوقع أن يرتفع عدد الوفيات إلى (1.8) مليون شخص عام (2000) بسبب هذه المشكلة.

الحالة الثانية: آثار بعض العادات السيئة مثل التدخين.. فإذا استمر الحال بنفس النمط حتى الربع الثاني من القرن الواحد والعشرين فإن التوقع أن يؤدي ذلك إلى 12 مليون حالة وفاة في العام.. وذلك في الدول النامية فقط.. و.. على مستوى العالم فإنه من المتوقع أن تتضاعف أمراض القلب والسرطان المقترنة بالتدخين.. وبحلول العقد الأول من القرن المقبل تصبح حالات الوفاة بهذا السبب: مليوني شخص سنويا.

أما الحالة الثالثة فهي مقاومة بعض الطفيليات لما أنتج لمواجهتها من عقاقير.. مثال ذلك طفيل الملاريا والذي يؤدي - إذا لم تأت اكتشافات جديدة - إلى وفاة مليوني فرد سنويا خلال عقد من الزمان. و.. هكذا، فإن هذه الملايين من حالات الوفاة والتي تأتي من خارج حلبة الاقتصاد في معظم الأحيان تضيف للصورة التي نتحدث عنها، صورة التقدم الاقتصادي والذي تصحبه رعاية صحية أكثر، فعمر أطول. الصورة هنا مختلفة، والأسباب اجتماعية ونفسية وأخلاقية وهو ما يفسر تلك الحملات الواسعة ضد العادات والسلوكيات الإنسانية الضارة.

لقد أصبح متاحا للإنسان أن يعيش أكثر، لكن السؤال: هل أصبح متاحا له أن يجد ما يفعله خلال هذا العمر "الإضافي"؟

الإنسان يجب أن يعيش، ويسعى لذلك.. ولكن عندما يطول به العمر يسأل: ماذا أفعل بهذه الحياة؟.. هل أنتج؟.. وهل أستطيع؟.. هل تكون سنوات من الفراغ والمتعة؟ أم سنوات من الفراغ وأمراض الشيخوخة؟ والمعادلة صعبة فالإنسان لا يعيش أكثر لكي يواجه سنوات من الشقاء والوحدة وصراع المرض. وبطبيعة الحال فإنه كلما تقدم متوسط العمر في دولة أو منطقة زاد السؤال إلحاحا.. و.. بالتالي فإن الذين يشهدون متوسط عمر يزيد على السبعين أو الخامسة والسبعين يطرحون السؤال بشكل أكبر.. والعكس لهؤلاء الذين مازالوا في متوسطات "الخمسينيات" من سنوات العمر. "العمر الأطول" يعني مجموعة من التداعيات بدأت بالاهتمام بإعاشة وصحة الكبار والترفيه عنهم.. و.. بالتالي انتشرت دور إيواء المسنين في الكثير من الدول، كما انتشرت نظم الرعاية الصحية واتسعت دائرة السياحة والبرامج التي تملأ فراغ المسنين. ولكن، ولأن الأعداد تتزايد فلا بد من بحث أثر "عمر أطول" على ساحة العمل. إن زيادة عشر سنوات من العمر - على سبيل المثـال - تعني زيادة القدرة على العمل بما يعادل (25) بالمائة تقريبا من السنوات المفترضة للعمل والتي تمتد على الأرجح فيما بين العشرين والستين من العمر.. و.. معنى ذلك الاحتياج إلى فرص عمل إضافية بنفس النسبة، في وقت ينتشر فيه الركود وتزيد فيه البطالة.

ثورة جديدة في الصناعة

في العالم الصناعي كانت هناك محاولات للخروج من الأزمة، وفي أحد التحليلات التي قدمها أستاذ الاقتصاد المرحوم الدكتور فؤاد مرسي لاحظ أن هناك آلية جديدة لتحريك الركود وخلق استثمارات جديدة تمتص يدا عاملة في الدول الرأسمالية، هذه الآلية تتلخص في افتعال التضخم بدلا من محاربته، فعندما تزيد قيمة الأشياء، قد تزيد الفوائض وبما يدفع بالمليارات في شرايين الاقتصاد.

بطبيعة الحال، وبخلاف هذه الآلية كانت هناك وسائل اقتصادية ونقدية عديدة لدفع النشاط الاقتصادي في العالم الصناعي. على سبيل المثال، زاد خلال سنوات الركود الأخيرة الاهتمام بقضية البيئة.. وكان ذلك يعني التخلص من صناعات وتكنولوجيات قديمة ملوثة، وتقديم صناعات وتكنولوجيات جديدة نظيفة، إنها ثورة جديدة في الصناعة بما تتيحه من جذب للاستثمارات وفتح لفرص العمل. ولكن، وعلى النقيض يأتي التطور التكنولوجي بشكل عام ليقول إننا في عصر المعلومات.. عصر الإدارة بالعقول الآلية والحاسبات التي توفر اليد العاملة.. و.. من هنا يصبح مطلوبا حل المعضلة معضلة اليد العاملة التي تبحث عن فرص للرزق، وهي معضلة تتزايد حدتها بسبب الظاهرة التي نتحدث عنها، ظاهرة تقدم العمر وتمتع الإنسان بحياة أطول.

المعضلة تواجه البشرية الآن، فإذا كان الزحف يتم لسن السبعين والثمانين فإن على العلماء والساسة ورجال الاقتصاد والاجتماع أن يجدوا تصورا لهذا العمر الإضافي. هل يكون الحل في تبني تكنولوجيا أقل تقدما وأكثر استيعابا لليد العاملة؟

ربما يكون ذلك. وربما يكون بفتح نشاطات جديدة كتلك التي فعلها رجال البيئة. و.. في المجال الأخير - البيئة - يتحدثون عن العودة إلى الطبيعة كملاذ للإنسان، وربما تكون مواجهة "العمر الأطول " بشيء اسمه "العودة للأصل"، بل ربما أيضا: "العودة للطبيعة".. فالأرض تنوء بساكنيها رغم كل محاولات تنظيم السكان والسيطرة على أعدادهم.

حياة أطول تتطلب تصورا جديدا، وعاجلا.

 

محمود المراغي