المفكرة الثقافية

 المفكرة الثقافية

  • عمارة: مساجدنا الجميلة

«كنت ومازلت في أيام الشتاء أوقف سيارتي في الساحة الترابية الشرقية لمسجد الساير في منطقة جبلة (قبلة)، لأصلي العصر جماعة في ذلك المسجد العتيق الذي ولدت بالقرب منه في بيت طيني صغير، بعد أن انتقل أبي من جزيرة فيلكا في أوائل الستينيات، وكنت بعد صلاة الجماعة أجلس بهدوء في المسجد، متأملاً أعمدته البيضاء وسقفه المتواضع وشبابيكه الخشبية ومحرابه المزخرف، لقد كان يسكنني الخشوع في هذا المسجد، هذا الذي أفتقده في بقية المساجد الحديثة التي عرفت - مع الأسف - تطاول البنيان والأشكال الغريبة وزخرفة العمارة على غير هدى أو بصيرة..».

بهذه المقدمة يستهل علي حسين الجاسم كتابه «مساجدنا الجميلة» لندرك أننا أمام فنان ذي عين خبيرة حساسة تتوق للأصالة وتفتش عنها في مساجد الكويت القديمة، فيبحر بنا بريشته وقلمه ما بين المباركية، وشرق، والقبلة، والأحمدي، وحولي والمرقاب، وسائر مناطق الكويت ذات المساجد التراثية.

يستعرض أولاً نشأة أول مسجد على يد رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ثم يصحبنا في رحلة تطور المساجد عبر عصور الخلافة الإسلامية، ملقيًا الضوء على أهم ملامحها المعمارية، ثم يعرج على الكويت ليخصها بدراسته الشائقة، المتميزة، بلوحاته الجميلة التي أبدعها بريشته المتقنة، مستخدمًا الألوان المائية بتمكن وحساسية عالية.

«كان يتم بناء تلك المساجد في الماضي من الطين والصخر وتسقف بالجندل والباسجيل والبواري، وهي نوع من الحصر السميكة، وكان البناء يتم بأيدٍ كويتية - في أكثر الأحيان - بلا أجر سعيًا وراء المثوبة من الله تعالى، فقد كان أهل الكويت قبل إنشاء دائرة الأوقاف حريصين على بناء المساجد..».

ومن خلال الكثير من اللوحات الرائعة الملونة تتبدى ملامح المساجد التراثية في الكويت، حيث نرى مناراتها ذات الشرفة الواحدة في الغالب وإن تعددت الطرز والأشكال، فنرى منارة مسجد الشرهان بزخارفها الرائعة وشرفتها ذات البرامق (ص37)، ومسجد السوق الكبير بشرفة مئذنته المربعة الشكل، والكثير من التفاصيل الجميلة في عمارته خارجيًا وداخليًا (ص41). وكما برع الجاسم في تصوير المآذن - برشاقتها وعلاقتها ككتلة بما حولها من فراغ، ثم معالجة الظل والنور والزخارف المتنوعة مع الفتحات والشرفات، حتى إنه أبدع فيها لوحة خاصة (ص28) - نجده يبدع في تفاصيل المسجد الداخلية والخارجية، فريشته تعبر بمهارة عن الخامات المختلفة (جبس، خشب..) كما تعبر عن المستويات المتباينة وكذلك القريب والبعيد والداخل والخارج بما لهما من درجات إضاءة مختلفة تظهر في تدريجات لونية متقنة، كما يبدو في مسجد الخليفة (ص31) وغيره، حيث المهارة في التعبير عن البارز والغائر في الزخارف الجبسية كما في مسجد السوق الكبير ومسجد الصانع (ص72).

هي دعوة مفتوحة لمشاهدة مساجدنا الجميلة.

الكويت: حسام القاضي

  • مهرجان: ثقافة الهوية التونسية: عنقاء تبعث من الرماد

لا تكاد تتعرف عليها هذه المرة، تبددت الصورة القديمة وسقط القناع السميك الذي وضعه النظام السابق على وجهها، وساعده في ذلك أيضا أنظمة أخرى - خاصة في الغرب - كان يهمها أن يبقى، ربما إلى الأبد.

إنها تونس الخضراء الوادعة البسيطة المسالمة المسلمة.. وهي تناضل بحثًا عن هويتها الحقيقية تكافح من أجل ترسيخها،لعلها متوعكة قليلاً وربما أصابها «الرمد الربيعي» لبعض الوقت.. لكنها الآثار الجانبية «للربيع العربي»، والربيع العربي دائمًا عاصف، متقلب تصحبه بعض الاضطرابات، لكن دائمًا يأتي بعد ذلك كله اخضرار وازدهار ونمو نرجو ألا يتأخر عن تونس ومصر وليبيا، وما يستجد بعد أن سقطت الأقنعة التي وضعها الطغاة وكرس لها حلفاؤهم من كل حدب وصوب، غربًا وشرقًا، بيضًا وصفرًا لا فرق بينهم في لغة الطمع التي يدللونها ويطلقون عليها لغة المصالح.

لن تجد الآن صخب مهرجانات كبرى تخفي وراءها الحقيقة، ولا تريك من تونس إلا شارع «الحبيب بورقيبة» والضاحية الشمالية الفخمة وفنادق الخمسة نجوم، وربما «ياسمين الحمامات» ومنطقة «القنطاوي» الفاخرة في سوسة.. لكنك ستعرف «سيدي بوزيد» و«المتلوي» و«الرديف» وسائر «الحوض المنجمي».., سترى «جزيرة جربة» بسيطة وساحرة بعد أن كان يفرض عليك المنطقة السياحية بكل بهرجها وزيفها.

جاء «رمضان» المعظم ومضى وعرفت المدينة «مهرجانًا للمدينة» كان يقام فيما مضى كل عام، لكنه هذه المرة أكثر بساطة وصدقًا وتواضعًا، لكنه كان حقيقيًا أكثر فحتى الفرق التي استضافها من بلدان أخرى كانت أكثر قربًا من طبيعة الشهر الفضيل، الذي شهد نهاره مقاهي ومطاعم الغالبية الساحقة فيها مغلقة رغم اعتراض البعض.. أما السهرات فكانت دائما ما تبدأ بعد «صلاة التراويح»، التي ملأت سماء تونس بتراتيل من آيات الذكر الحكيم. ثم يأتي الإنشاد الديني التونسي مع «السولامية» أو «صوفية» مصر وتنورتهم.. وإيران ودراويشها.. لكن تونس في رحلة البحث عن نفسها لم تنس أن تحاول إحياء مقاهٍ ثقافية ملأت جنبات الثقافة العربية بالحيوية والازدهار.. ومازالت في ذاكرة التونسيين والعرب مقاه ثقافية عريقة كانت تنشر عبير الثقافة على جميع الصعد، مثل «مقهى الجمعية» ومقهى «الأدباء» والمقهى الخاص بجماعة «تحت السور» ومنهم - على سبيل المثال لا الحصر- علي الدوعاجي وبيرم التونسي ومصطفى خريف.., وأيضًا قهوة «شمنططو»، التي كانت مركزًا لنشر الموسيقى الشرقية، وقهوة «خميس ترنان» في «بنزرت»، التي كانت ملكًا لشيخ الموسيقى والصوفي الكبير، وليس انتهاء بمقهى «باريس» في وسط العاصمة الذي ارتاده أكابر الثقافة التونسية والعربية، مثل علي بن عياد ومحمود المسعدي وزين العابدين السنوسي وعز الدين المدني من تونس أو عبدالرحمن الأبنودي وجابر عصفور ومحمود درويش وسميح القاسم، والقائمة تطول.., كل هذه المقاهي الثقافية فقدت بريقها القديم أو كادت عبر ما يربو على عقدين من الزمان كان النظام فيها يتحسس «مسدسه» كلما سمع كلمة ثقافة غير مدجنة وقام بخنق كل منتدى ثقافي حر أو رسمي، اللهم إلا الذي يخرج من عباءته وتحت رقابته.. في الوقت الذي كان التونسيون تواقين لمثل هذه المنتديات التي ملأت الأقطار الشقيقة خاصة في مصر ولبنان وحتى فلسطين المحتلة.

ومع تزايد عدد الأحزاب إلى حد مذهل ومريب «تعدت الـ 100 حزب».. «113» حتى تاريخه، في بلد تعداد سكانه بين عشرة واثني عشر مليونا، وكذلك الجمعيات والنقابات..إلخ. بدأ الوسط الثقافي في التحرك على استحياء مؤسسًا جمعياته، مثل «المرصد التونسي للثقافة والمواطنة» الذي وقف وراءه مؤسسه د.محمد المديوني، كما أعادت جمعيات ذات طابع ثقافي واجتماعي تعنى بالطفولة اكتشاف نفسها وتصحيح مسارها بعيدًا عن قيود النظام السابق كجمعية «صدى الطفل» التي أقامت أمسيات ثقافية وفنية تشجيعًا لأطفال منطقة «دوار هيشر» الشعبية والصناعية بولاية «منوبة»،..كذلك خرجت إلى النور جريدة «الأسبوع الثقافي» التي يترأس تحريرها الأديب والمفكر الكبير عز الدين المدني، وأيضًا ظهرت جمعية «دار الذكرى» للحفاظ على التراث اليهودي في تونس والتي يترأسها جاكوب لولوش، كل هذا شجع أحد شعراء العامية وهو أيضًا فنان تشكيلي يدعى هشام اللاملومي على إحياء فكرة المقاهي الثقافية في تونس لتلحق بنظرائها في مصر والشام وسائر الأقطار العربية.. فقام بإنشاء مقهى «زخارف المدينة الثقافي»، الذي احتضن عدة ندوات أدبية وشعرية ومعرضًا للفنون التشكيلية، واحتفالية بتأسيس إحدى الجرائد الإلكترونية، وحفل توقيع رواية «رجولة خارج الوصايا».. حرص فيها على تكريس مفهوم انتماء تونس للحضارة العربية الإسلامية من خلال المشاركين في فعاليات أمسيات المقهى، وأيضًا من خلال مكتبة المطالعة التي وضعها في صدر المقهى إلى جوار الصحف والمجلات اليومية والأسبوعية.. تحف بها زخارف تعبر عن شخصية المدينة خلطت ما بين الزخارف العربية والأمازيغية.. سكنت وسطها معلقات شعرية لمختارات اعتبرها صاحب المكان من الأهمية، بحيث تحتل جزءًا من جدرانه.

وفي المركز الثقافي «العاشورية» في قلب المدينة العتيقة بتونس أشرفت الأديبة التونسية فاطمة الشريف على إقامة أمسية احتفالية «بالمعلقة الخضراء»، وهي عمل شعري شارك ويشارك فيه الشعراء العرب والمسلمون من كل أنحاء العالم الإسلامي بقصائد في مدح الرسول الكريم [ كرد حضاري على الإساءات التي وجهت لذاته الشريفة [ وللإسلام، وهي كما أعلن مؤسسوها مفتوحة للمساهمة فيها إلى يوم الدين، وقد بدأت الفكرة في الجزائر الشقيقة ثم امتدت إلى الأردن وتونس ومصر وسائر البلدان الإسلامية.

وكانت الأمسية التي أقيمت «للمعلقة الخضراء» في «العاشورية» بمنزلة تدشين رسمي للمشاركة التونسية فيها، حضرها وشارك فيها شعراء من تونس وليبيا، منهم علالة القنوني ومعز العكايشي والشاذلي القرواشي من تونس. وقد شارك أحد الكتّاب الليبيين نيابة عن الشاعر الليبي يوسف عفط وبحضور مصري على رأسه المستشارة الإعلامية لسفارة مصر عزة فؤاد وكاتب السطور، ورافقهم عدد من وجوه الإعلام التونسي، على رأسهم الإعلامية سعيدة الزغبي سليمان.

تبحث تونس عن نفسها أو بالأحرى تعيد اكتشاف نفسها ترسيخًا لهويتها وسط ربيع عربي عاصف تواق لغد أفضل لم يكن لينفصل عن واقعه الحضاري والعرقي والجغرافي.. موغل في القدم منذ حضارات «قفصة والأمازيغ وقرطاجنة» عبر حقبة «رومانية» وثنية مسيحية، وأبعاد متوسطية وأندلسية انصهرت كلها في بوتقة الحضارة العربية الإسلامية من خلال رداء تونس الذي يحتويها عند التعاطي مع الآخر والانفتاح عليه، يؤنسها ويدفئها صوت الآذان الذي يصدح الآن في جميع أرجائها يلفك رجع صداه حتى من مئذنة جامع «قرطاج» الذي قيل إنه أقيم أساسًا بهدف التنقيب عن الآثار المدفونة تحته.. لكن العنقاء تأبى إلا أن تبعث من الرماد عصية على الموت والقهر.. عنقاء تتعرف إليها شعوبنا العربية من جديد تلك هي إرادة الشعوب التي هي من إرادة الله.

تونس: خالد سليمان

  • معرض: تجريديات فاروق حسني في الكويت

يذهب «جيوفاني كاراندينتي» رئيس بينالي فينسيا الدولي بقوله: «فاروق حسني في مقدمة أولئك الفنانين, الذين يجمعون إلى جانب منابتهم الشرقية الأصلية ثقافة عربية عميقة, تضيف إلى جذور السلف المتأصلة، والنابعة من الإسلام، شجرة الحضارة الغربية اليانعة في فن التصوير.... وفن فاروق حسني في التصوير على ما ينطوي عليه في بعض الأحيان من سحر القمر في الصحراء, ووميض النار كأوقات الغروب فوق النيل, أو رموز الخط الكوفي المبهمة والعسيرة القراءة، أو التعاريج المنسابة بسمو في ثنايا الخط العربي... والتجريد عنده أسلوب إضافي للبقاء داخل الأطر الإسلامية.

وهذه في اعتقادي نظرة غريبة؛ إذ إنها إلى جانب انطلاقها من فكرة الإكزوتيكية الشرقية، وتأكيدها العجيب على صحراوية مصر تصر على ربط تجريديات «فاروق حسني» بمنطلقات التجريد الإسلامي الزخرفي والخطي، برغم الفارق الجذري الذي يفصل مقولات التجريد الإسلامي التنزيهية التي تستبطن فكرة المقدس، عن الاحتفالية البصرية والدفق الانفعالي، اللذين يتضمنهما جوهر «التعبيرية التجريدية» AbstractExpressionism، التي تُصَنّف أعمال فاروق حسني ضمن إطارها العام، وكأن اختيار حسني للتجريد منهجًا؛ لا يتجاوز من وجهة نظرهم قرارًا منه بتحاشي تصوير المتجسِّد، بناءً على قناعاتٍ تمثِّل امتدادًا لفكرة كراهة تصوير المُشَخَّص!، وهو تصور تعوزه المصداقية جملة وتفصيلًا؛ فالمتابع لتجربة «فاروق» من بدايتها حتى الآن لن يخطئه يقين الشعور بلفحة الحياة المُزَغرِدة في جنبات لوحاته، فهو وإن كان اختار التجريد طريقًا ومنهاجًا، إلا أنه اختيار تستشعر من فرط تدفق صاحبه؛ أنه نتج عن فرط حيرة في اكتشاف طريقة للاستحواذ على طاقة الحياة، لكن يبدو أن هذه النظرة التي تحلل أعمال فاروق حسني، في إطار مرجعية إسلامية وشرقية، بل وخطيّة كتابية أيضًا، لا تجد إجماعًا في صفوف النقاد الغربيين أنفسهم، فها هو «نوريدزاني» يُعارض هذا الرأي في مقال «الفيجارو» نفسه، ذاهبًا إلى نتيجة عكسية تمامًا بقوله: «دعوني أعبر عن امتناني لفاروق حسني؛ إزاء عدم تأسيسه فنه التجريدي على مرجعية نَصّيّة عربية (حروفية)، كما سبق أن فعل عدد كبير من فناني منطقته العربية...». ثم يُعَرِّج من جديد على فكرة التصنيف الإقليمي للفنانين، مفنِّدًا إياها بقوله: «لدى نقاد الفن ومؤرخيه عادة مزعجة، لكنها لا تتطلب جهدًا؛ تتمثل في عدم النظر إلى الفنانين وفق مصطلحات المدارس والحركات الفنية فقط، وإنما أيضًا وفق أصولهم الوطنية».

أما الظرف الثالث الذي يكتنف سياق إبداع «فاروق حسني»؛ فهو دوران ذلك الإبداع في فلك «التجريد/ الفن التجريدي» Abstraction/ Abstract Art، الذي ما زالت الذائقة العربية في عمومها متخبطة في حسم موقف نهائي منه، ومترددة في التعاطي معه وفق أشراطه الجمالية الخاصة، بالرغم من الادعاءات المتواصلة التي تحاول الإيحاء بعكس ذلك، وبالرغم من كون قطاع كبير من المنتمين لهذه الذائقة؛ ممن يسري عليهم حكم الانخراط في فئة المثقفين، وبالرغم من مضي ما يزيد على ثلاثة أرباع قرن على حلوله ضمن الفضاء التشكيلي العربي. وقد بلور «مختار العطار» (1922- 2006) هذه الإشكالية، عندما وصف أثر افتتاح المعرض الأول لفاروق حسني بالقاهرة، عقب عودته من روما قائلًا: «كان حدثًا غير عادي حين عرض الرسام الملوِّن فاروق حسني لوحاته اللاشكلية لأول مرة في قاعة السلام منذ بضعة أعوام كانت شيئًا يختلف عن السياق الإبداعي الذي يغمر معارضنا منذ بدأت حركة التحديث علي يد السيرياليين في منتصف الثلاثينيات... كنا نعلم أن التلوين اللاشكلي ظهر في أوربا في أعقاب الحرب العالمية الثانية (1939 1945) وشاهدنا نماذجه في المراجع والقواميس, لكننا لم نكن عايناه بين رسامينا الملونين أصحاب الاتجاه التجريدي. كانت لوحات فاروق حسني كالطيور الغريبة بين أعمالهم, إلا أنها اتسمت بالغموض والجاذبية والتأثير الطاغي الذي يثير الخواطر ويستنفر الخيال ويوحي بما لم يخطر على بال».

ومنذ العام 2000، أضحت أعماله كسِمة عامة - مفارِقة لمرجعية الطبيعة، على نحو لا يمكن معه المخاطرة بإحالة رموزه البصرية إلى مفردات واقعية بعينها، إلا على سبيل التأويل الفلسفي، أو على سبيل المقارَبة النقدية التي تتوسل بالتشبيه الوصفي. والمتأمل في أعماله خلال فترة السنوات العشر الأخيرة، لا يلبث إلا أن يستشعر أن ثمة هالة من البُشرى تنداح في عوالم لوحاته، تعِد بخلاص روحي مرتقَب؛ وتتذرع بإيقاع مُلغِز، تتمترس خلفه من عوادي الزمن، كما يستشعر جموحًا نحو فكرة الجمال كجوهر منشود لذاته. واستهداءً بالصورة في عماء المكبوت، وتراكُمًا مُزَمَّنًا للذاكرة، من حيث هي حدس يطمح لمقاومة هاجس الموت. إنه انهيار الحواجز بين الصورة بوصفها مسرَّةً بصرية، والرؤية بوصفها إيعازًا بالميتافيزيقي.

وعلى المستوى التقني؛ تأكدت تنويعات الشفافية والإعتام في العجينة اللونية بأعماله، بداية من منتصف تلك الفترة وخصوصًا أعماله المُنجَزة خلال 2006 - 2007، حيث ظهرت بوضوح توليفات اشتقاقاته لثخانات متفاوتة من اللون، ونثرِه لمساحات وعروق لونية غليظة القوام في مواضع محسوبة، ولجوئِه أحيانًا لمراكمة الطبقات الطلائية بعضها فوق بعض، بل واستخدامه كذلك في بعض المواضع فرشاة غير مشبَّعة باللون، سرعان ما تُخَربِش السطح ببقايا ما علق بها من لون محتضر، مما أضفى على اللون خصيصة الإيحاء بالكشف عن أضواء تتوق للانفلات، وخلع على الأعمال رونقًا إشراقيًّا صادحًا ، وهي إحدى السمات الفردانية التي طبعت أعمال «فاروق حسني» خلال الفترة المذكورة؛ مميِّزةً إياها عن كثير من تجارب التجريد الراهنة، التي تمتثل لوصفات جمالية سابقة التجهيز.

ونحا فاروق حسني في الأعوام الأربعة الأخيرة نحو الإعلاء من حضور بعض الأشكال والعلامات المُميِّزة لأعماله، مراوِحًا بين بعضها بعضًا، وهو ما ظهر على سبيل المثال في تأكيده حضور الأشكال المستطيلة والمثلثة، في تجربته التي عرضها عام 2006، وفي تنويعاته على مفردة الشكل الهلالي الأبيض، الذي بزغ كحضور ساطع في تكوينات كثير من أعمال معرضه المقام عام 2007، والذي تفنن في تنويعه ليستطيل أحيانًا وليكتنز أحيانًا أخرى، معتنيًا بتشبيعه بأقصى دسامة ممكنة من نَسْغ العجينة اللونية، حتى ليكاد يخطف العين خطفًا، لمتابعة فيض لحظي لحركة شهاب ثاقب.

ويكشف تأمل أعماله المُنجزة خلال عامي 2008 و2009؛ عن كسره حدة الألوان الأساسية بتنويعات من «الأوكر»، والبنفسجي، والأخضر بدرجاته واشتقاقاته، مما قلّص من تأثير المباشرة لألوانه الأساسية وعلى رأسها الأزرق والأحمر التي تسيدت مناطق مفصلية رئيسة من مسطحاته التصويرية، مع بداية بزوغ الكتلة من رحم الفراغ. كما يكشف عن توَجُّهه البنائي المشفوع بإعلاءٍ واضح من شأن العلاقات الهندسية، وهو ما تبلور كُليّةً في معرضه الحالي 2011، الذي أعتبره نتاجًا شرعيًا لاختصاراته الشكلية الحادة والبليغة، التي ميزت أعماله المعروضة في العام الماضي 2010، والتي أتت في معظمها مدموغة بطابع ذهني هادئ، لتكون بمنزلة بلورة بصرية لما اختمر على مر السنين في مرجل لا وعيه العارم، محققًا فيها قدْرًا معتبرًا من التعادلية الديناميكية بين العاطفية والعقلنة. كذلك فقد مالت أشكال كثيرًا في الفترة نفسها خصوصًا تلك التي عرضها عامي 2009 و2010 - نحو نهج «الحواف الحادة» Hard-edge Painting؛ غير أنها حافظت على حيوية حركية، افتقدتها كثرة من أعمال أساتذة «الحواف الحادة»، حيث ظلت الحركة لدى حسني محركًا إيعازيًا لفضاء التصميم الكلي للوحة، وهيمنت الخطوط المائلة على مجمل التكوين، موحية بالاسترسال والاندفاع صوب الخارج، ومنتصرة للذهني على حساب الجمالي المنفلت، وهو نفسه نهج كثير من أعمال معرضه الراهن.

القاهرة: د. ياسر منجي