جنوب إفريقيا: ماذا يدور في رأس العواصف؟ محمد المخزنجي تصوير: طالب الحسيني

جنوب إفريقيا: ماذا يدور في رأس العواصف؟

وقفنا عنـد قمة رأس الرجـاء الصالح فاجتاحتنا رعدة. كان المحيط الأطلنطي. عن يميننا والمحيط الهندي عن شمالنا، ومن تمازج زرقة المحيطين الممتدة حتى الأفق تلوح أطياف خمسـة قرون مضت منـذ دار البرتغالي "بارتليميو دياز " دورته- الصدفة- عام 1448 حول المكان. أرعبه عويل الريح فأسمى المكان " رأس العواصف ". لكن مليكه الحالم بالوصول إلى الهند عبر المحيط وقطع طريق التوابل والبهار على التجار المسلمين أدرك خطورة الكشف فأعاد تسمية المكان تيمنا " رأس الرجاء الصالح ". ومع فاسكو ديجاما- البرتغالي أيضا- وطأت أوربا أرض إفريقيا عند أقصى جنوبها فتحولت الأرض البكر للرعاة البدائيين إلى مأزق مستمر. منذ القرن الخامس عشر حتى يومنا ورأس الرجاء لا يمتلك قوة الإقناع بأنه صالح للجميع. مازال رأس العواصف لان لاحت محاولة أخيرة لإصلاحه، وعلى مشارف هذه المحاولة وقفنا، فماذا يدور هناك؟

طبق أوربي بتـوابل آسيـويـة ولحم إفـريقي، سجلت انطباعي الأول ونحن نعبر باب الفندق في أول جولة استطلاعية بشوارع جوهانسبرج، المدينة التي شيـدها الذهب وارتبطت نشأتها باكتشافه عام 1886.بدت لنا لأول وهلة كمدينة متناقضات، فهـي أكبر مـدن جنوب إفريقيـا، يسكنهـا قـرابة المليونين، ومع ذلك ليست العاصمة رغم تعدد عواصم هذا البلد، فالعاصمة الإدارية "بريتوريا "، والعاصمة التشـريعية " كيب تـاون "، والعـاصمة القانونية بلويمفوتين.

كنا مستكشفين أبرياء عندما أخذنا نبتعد عن المركز البراق حيث فنادق " الكارلتـون " و " صن " وبسرعة أخـذ شيء ما يتبدل في طبيعـة الشوارع دون أن ندركـه بوضـوح. كـانت الشوارع تتحول إلى شوارع أكثر سوادا مع كـل خطوة حتى لم نعد نرى شخصا أبيض واحدا رغم أن المدينة لم تزل أوربية كـما عند مركـزهـا. لم يكن على الأرصفة غير بائعي الفواكه والخردوات السود. وعند أحد المحال قرأت لافتة " صيـدلية الزولو " ، وبعد نظرة إلى الواجهة وإطلالة على جوف المحل قررنا الدخول. فقد كانت الصيـدليـة ملمحـا آخر للتناقض في هذه المدينة، فإضافة إلى الأعشاب الهندية كانت هناك مراهم دهن التمساح ونسائر لحم الخرتيت المجففة وتلك الدروع المميزة لقبائل الزولو التي يصنعونها من قطعـة جلد حيوان تأخذ شكـلا بيضاويا يخترمه صفان من الفتحات وينفذ في أركانها رمحان متقاطعان. دروع بأحجـام مختلفة تبدأ من مساحـة كف طفل وتكـبر حتى تصير بمساحة صدر رجل. وعرفنا أنها لا تصد سهاما ولا حـرابا، بل تحول دون هجمات الأرواح الشريرة.

وبينما كان الحديث يمضي بنا ونحن نطوف مع البائع الهندي بأركـان هذه الصيدلية العجيبة، إذ بالبـائع ينتفض بهلع وتعاطف، هتف قائلا: " ينبغي أن تنصرفـوا الآن وبأقصى سرعـة قبل الغروب فأنتم في منطقة بشعة".

قلت له: لكنك هنا رغم بشاعتها، ومحلك مفتوح. ولم يجب إذ رفع قميصه لنجد مسدسا ضخما يلتصق ببطنه مغمودا بين جلده والحزام.

وأسرعنا نهرول في شوارع جوهانسبرج باتجاه المركز بينما زميلي المصور يقبض على آلة التصوير بكلتا يديه ويضمها إلى صـدره وأنا أتبعـه قـابضا على السلاح الوحيـد الذي أمتلكه: قلم مفتوح، في جيبي، للـدفاع عن النفس !.

الجميع في حالة تأهب

كاد اليأس يطبق على أعناقنا في ذلك اليوم الأول من أيام استطلاعنا، فالسـود العاطلون عن العمل بين ستة ملايين عاطل في هذا البلد الباذخ الثراء كانوا عند كل منعطف وعلى كل رصيف، والبوليس كـان شحيحا إلى درجة الندرة التي قيل لنا فيما بعد إنها متعمدة لأسباب سياسية. وعندما فكـرنا في الاستعانة بمسلمي المدينة كـدنا نتعرض للضرب بسبب آلة التصوير، في أحـد مساجد المسلمين الهنود، رغم أننا أدينا معهم صلاة الجمعة.

الكل في حالة تأهب وريبة، أما الحكـومة في بريتوريا فأكدت على ما سمعناه عن غرور هيئاتها البيضاء.

اتصلت بـالسيـدة " سـاجي فـوري " المستشارة بـوزارة الخارجية وقـد كانت على علم مسبق- عبر رسائلنا إلى مكتب لندن- بمهمتنا الاستطلاعية، ولم نلمح في صـوتها الرقيق العـذب إلا نصلا مرهفا كحد الموسى يقطع: " أهلا بكم لكننا لن نقدم لكم أي معاونة ".

وقررنا أن نحمل مهمتنا على كاهلنا منفردين، وكان ذلك يعني أن نؤجل مواضع الخطر حتى نتأهل لها بقدر كاف من المعرفة والتدبير.

بتنا على رعب في جوهانسـبرج، فهل نصبح على خير في كيب تاون؟

في البدء كانت " الكاب "

من الجو وقبل أن تهبط الطائرة في مطار مالان بمدينة "الكـاب " كانت تدور دورة واسعـة فتميل بجناحها القريب من مقاعدنا، وعبر نافذة الطائرة بدت لنا هذه الناحيـة من المدينة التي تطل على المحيط الهنـدي، رأينا ذيل إفريقيا الأخضر يوغل في زرقة المحيط، سلسلة من الجبال تشرئب بذراها الشهيرة وتنتثر عند سفوحها أبنية المدينة كحقول بألوان الكريم والقرميد والخضرة، لمحنا قمة "رأس الأسد " التي تشبه رأس أبي الهول، وقمـة "جبل المائدة " التي لا استـواء لقمـة مثلهـا، وقمـة "العلامة " التي كان يسترشـد بها البحارة القدامى وهم في عرض المحيط، أما نقطة الكاب ورأس الرجاء فقد كـانتـا بعيدتين من هذه الناحية، تبدوان مثل طيف دخـاني بعيد يطفو فـوق زرقـة المحيط ويلامس سماء الصيف الرائقة، فقد كان الوقت بين الربيع والصيف رغم أننـا في ديسمبر، فـالكاب تقع في نصـف الكرة الجنوبي، ومن ثم فإن لها فصولا عكسية، ذروة صيفها في يناير وأبرد شهورها في يـوليو. وفي إذاعة الطائرة قبيل الهبوط وبينما أحزمة المقـاعد مشـدودة بدأت أول الالتباسات تلقى على مسامعنا كحقائق مسلم بها. راح صوت المضيفة المذيعة يعلمنا بأننا صرنا في رحـاب مدينة الكاب، مدينة الرأس "كابستاد " بالإفريكانية و " كيب تاون " بالإنجليزية، وهي العاصمة التشريعية للبلاد، بها البرلمان، وبالـبرلمان بيت للرئيس يقيم به ستة شهور في السنة، بينما الشهور الستة الأخرى يقضيها في بريتوريا العاصمة الإدارية. وكيب تاون هي المدينة الأم لجنوب إفريقيا، إحدى أقـدم المدن في العالم الجديـد، حيث أسميت شبه جزيرتها براس الرجاء الصـالح منذ أكثر من خمسمائة سنة، أي قبل اكتشـاف أمريكـا، فقد اكتشف خليج المائدة الـذي تطل عليه في عام 1503، وأنشئت المدينة حـول هـذا الخليج عام 1652، فهي أقدم من نيويورك بسنة واحدة، وأقدم من سيدني بمائة وثلاثين عاما، و.. "

" آه يا إلهي "

تنهد جـاري فطغى صوت تنهده على صوت المذيعة المضيفة وقـد كـان رجلا أسود ممن عاشوا في المنـافي سنوات ولم يعـد إلا أخيرا بعد إعلان حكومـة الرئيس "ديكليرك " عن إلغاء قـوانين " الأبارتايد " أو التفرقة العنصرية منذ سنة ونصف.

كان جاري أستاذا لعلم الاجتماع في إحدى الجامعات البريطانية، والتقطت في صوت تنهده نبرة احتجاج على ما كانت تقوله المذيعة، فسألته: - هل سمعنا أخطاء كثيرة؟ قال: بل خطأ واحـدا كبيرا، فهؤلاء (وكان يقصد البيض بـالطبع وربما يشير إلى الأوربيين بشكل عـام) يعتقدون أن الله لم يخلق العالم الجديد إلا يوم اكتشافهم له.

حفل أوربي بطبول إفريقية

في الطريق من المطار إلى قلب مدينة الكاب لن يمكنك التفكير في أبعد مما تراه عيناك، السحب البيضاء التي تغيب فيها قمم الجبال الشهيرة، الهواء الشفاف، خضرة التلال، التاريخ الكامن في الصخـور. وعلى طـول الجهة الشرقيـة من جبل المائدة ستجد صرح روديس بأسود الإمبراطورية البريطانية الآفلة وهي تنظر نحو الشـمال راسمة بعيونها البرونزية العمياء طريق " القاهرة- الكاب " الـذي كان يحلم به البريطانيون كطريق يربط بين أطراف الإمبراطورية البريطانية الإفريقية. سترى حديقة الشاي بين جذوع الأشجار، وبناية " جروت كـوتستانتينا " ذات الواجهة البيضاء الناصعة والمدخل المزخرف والعلية التي يمتد خلفها السقف الجـمالـوني كـذكـرى من بواكير الاستيطـان الهولندي. سترى أبسطة هائلـة من زهور البروتيا الأسطورية تملأ السهول بألوانها المائة وأشكالها المئات. وسترى إلى جـوار كل تلك الرومانسية حوض. ستيروك لإصلاح وبناء السفن وهو أعظم حوض من هذا النوع جنوب خط الاستواء. أما في الجهة الغربية فلن يسمح لك بالاقتراب من الميناء البحري العسكري حيث تربض قطع أحـد الأساطيل الكبرى ولعلها الأكبر في إفريقيا كجزء من جيش لا يدخله إلا البيض وليس الجيش وحده- بالمناسبة- هو المقتصر على البيض فالقضاء أيضا مقتصرعليهم.

وفي ضاحية " مالاي " أو " بوكاب " ستصل إلى سمعك كلمات من القـرآن وتقرأ عبارات مـالاوية بحـروف عربية. فهنا يعيش جل مسلمي الكـاب في بيوت بنيت على منحـدر يفضي إلى مركز المدينة. بيوت منمنمة وشوارع ملتفة ومساجـد دقيقة خفيضـة المنائر وكأن منائرها خليط من المآذن والقباب.

إن دورة واحدة في " كيب تاون " كفيلة بأن تقنعك بالسحر الجميل و " بالكوزمو بوليتانية " التي لا تخبئ نفسها.

مدينة ساحـرة. أردنا أن نستريح قليلا من فرط سحرها فقادنا مرشدنا الفرنسي الأصل فيليب إلى شاطئ يسمى"جبهة الماء". وهو شاطئ على ساحل المحيط الهندي تقوم بعض مقاهيه على أساسات عائمة. وفي السوق الأوربي الباذخ المبني مـن عوارض بيضاء وسقف زجـاجي كان محل جديد يعلن عن افتتاحه. وكان الافتتاح تعبيرا عن هذا الخليط الثقافي. فالمحل الأوربي (أو الأبيض) افتتح أبوابه بحفل أحيته فرقـة رقص وغناء سوداء. وفي لحظة تفجـر السوق الأوربي الأنيق بإيقاعات الطبول الإفريقية وصدح "اكسيلفون " غاب البامبو وطقطقات الحروف في أغـاني "الاكسهوسا" الجميلة.. واشتعل رقص صبايا إفريقيا اللائي يمتلئن بدفء شموس الـبراري ولدونة مخلوقات الغابات البكر.

فرح أوربي بإيقاعات إفريقية وجمهور متعدد الألوان. من أين أتى هذا الخليط البشري؟

لم يكن الرأس الجميل خاليا

انطلقنا في الصباح الباكر على الطريق الساحلي الغربي ما بين مياه الأطلنطي وأقدام جبال " كيب تاون ". وبعد ثمانين كيلو مترا دخلنا في الطريق الذي يشق شبه جزيرة الكاب.

وطأت أقدامنا قمة رأس الرجاء الصالح.. محيطان لا نهائيا الزرقة على الجانبين، وثبج أبيض فـوار، وزبد يغسل صخور التاريخ، وفنار يمتد ضوؤه في البعيد، ورؤية تنجلي حتى مائتي كيلو متر في عرض البحـر، وطيور غريبة تحلق فوق المياه السحيقة، ودلافين تقفز لامعة وتختفي. كل ذلك كـان موجودا، لكن الوجود الأكثر حياة كان للغائب الحاضر بقوة.. تاريخ هذا المكان.

كانت الكاب خضراء رائعة منذ القدم مما حدا بالسير "فرانسيس دريك " الذي دار حوالا مبكـرا أن يقول: إنها أجمل رأس في محيط الكرة الأرضية ". فهل يعقل أن ذلك الرأس الجميل كان مهجـورا من البشر قبل مجيء الأوربيين؟.

تقول " مونيكا ويلسون " عالمة التاريخ المتخصصة في تاريخ جنوب إفريقيا: " لقد كانت قطعان الماشية ورعاتها من " الكهوى كهوى " أو " الهوتنتـوت " موجودين قبـل مجيء الأوربيين إلى الكاب. والصور البديعة للماشية والرعاة المرسومة على جدران الكهوف الساحلية تشهد بذلك ".

ويقول " سنجـر واينر " عالم الانثروبولوجي: " إن دراسات فصائل الدم قـادتنـا إلى نتيجة مفادها أن الهوتنتوت أساسا وقطعـا هم زنوج إفـريقيون مروا بتاريخ طويل من التمايز العرقي في جنوب إفريقيا منذ أربعة آلاف عام على الأقل ".

إذن كان الأفارقة هناك قبل مجيء الأوربيين بثلاثة آلاف وخمسمائة سنـة على الأقل. فلم تكن الأرض بغير ناس ولا كان الناس بغير أرض كـما يزعم الكولنياليون دائما ليلفقـوا تـبريرا لاستعمارهم الاستيطـاني لأرض البشر، وليختلقوا سببا للمن بأنهم أنشأوا حضارة العالم (الجديد) من العدم.

أحضرهم الأسقربوط وآزرهم الجدري

عندما تضعضعت قوة البرتغال وطفت هولندا على السطح، وجدت الشركـة الهولندية لشرق الهند والتي تأسست عام 1602 للتجارة مع الشرق أنها في حـاجة إلى إنشاء محطـة تموين بحرية في الكاب لزراعة الخضر للتغلب على مرض الإسقربوط الذي كـان يصيب البحـارة من جراء السفر الطويل عبر المحيط وعـدم الاغتذاء بشيء طازج من الفاكهة والخضرة.

من مـرضى الإسقربوط والمزارعين الهولنديين تكونت أول مـوجة من موجات الاستيطان الأوربي في الكـاب، ولأن أوربا جاءت بخيرها وبشرها. فإنها لم تحرم مـواطنيهـا " البويـر " (ومعناهـا " المزارعون الهولنديون ") من بعض الشر. فبدأت الشركة الهولندية تضيق على "البوير " حتى تشتري مزروعاتهم بسعر أرخص. بل عمدت الشركـة إلى استيراد العبيد من " غرب إفريقيا " ومن مسلمي " الملايو " الخاضعة لهولندا ليعملوا في الزراعة ولتحتكـر الشركة ناتج عملهم. هكذا ولد الرق على هذه الأرض. ولأنه لم يبدأ عنيفا فقد اختلط العبيد بالسكـان الأصليين من " الكهوى كهوى " وبالبحارة البيض. ومن هذا الخليط تكـون شعب الكاب الملون. أما " البوير " الذين كانوا غلاة في نفورهم من ضغوط الشركة الهولنـديـة للهند الشرقية وكانوا متعصبين يتأففون من الاختلاط بالعبيـد و " الهوتنتوت " فقد قرروا النزوح مبتعدين عـن الكاب، متوغلين في البراري، وهجـروا الزراعـة إلى الـرعي وباتوا في عزلة عن أوربا حتى تحورت لغتهم الهولندية وباتت أبسط وأفقر لتصير نواة اللغة " الأفريكانية".

لقد بدأ البوير نزوحهـم نحـو منطقـة براري "الكاروو". وهي منطقة صعبة طبعتهم بطابع الشدة والبأس. ولأنهم صاروا رعاة فقد اصطدموا بالرعاة من الهوتنتوت. وليس بالبنادق والخيول وحـدها كتب لهم النصر. فقد كان معهم مرض الجدري الذي لا حصانة " للهوتنتوت" ضده. فحصدهم حصدا ليتسيد البوير وحدهم براري " الكاروو ".

ضريح عند قمة العالم

كنا ندور حول جبل المائدة ساعـين إلى قمتـه التي ترتفع ألفا وثمانية وستين مترا فوق سطح البحر. ومع كل دورة نصعـد درجـة فتهبط المدينة ويبتعد البحـر. نـوغل في عـالم كـالحلم، مروج وغابات صنوبر وفراشات. وعندما بدا السحاب يقابلنا على الطريق أوقفنا السيارة وترجلنا مكملين الطريق مشيا إلى القمة القريبة.

واصلنا الصعود مخترقين السحب العابرة على الطريق بصدورنا ورءوسنا. كان ذلك حلما حقيقيا تجاوزناه حتى صرنا فوق السحـاب ماشين على الأقدام. كنا على قمة جبل المائدة.. غابة وديعة لا وحشيـة فيهـا ولا ضوضاء. وفي ظلال شجـرة وارفة لفت نظرنا بناء صغير أبيض ناصع البياض.

كان الهدوء يلـد نغمات من صفاء خـالص.. شقشقة عصفور. رفة جناح. رفيف فراشة. هسهسة أوراق شجر تلاعبها النسـائم.. ثم.. سمعنا أصواتا صغيرة تقرأ قرآنا.

هنا؟!

نعم هنا.. في تلك البقعة التي تسمى " قمة العالم". في هذا المكان كان الضريح أبيض، بياضا لا أنصع منه، يقوم وسط مرج من الزهور وترمي عليه الأغصان ظلالها. وكانت في الساحة الصغيرة أمام الضريح سيارة انزلق سائقها ناعسا وقد ركن رأسه على ذراعه المتكئ على نافذة السيارة، لكن ما أن خطونا في اتجاه الضريح حتى استيقظ مناديا إيانا ومشيرا بعدم الدخول.

"هيه.. أنتم.. الدخـول ممنوع.. هناك نساء". أومأنا للرجل مبينين له أننـا لن ندخل ودرنا حول الضريح من الخارج نتـأمله متأثـرين بهذا الاختيـار الصافي لقمة السكينـة موقعا لرقـدة هذا المسلم.

ومن تجاذب الحديث مع الرجل الذي كـان ينتظر امرأتـه وأطفالـه عرفنا أن المكـان يعتبر مـزارا للتبرك به ومدرسة صغيرة لتحفيظ القرآن. وعرفنا أن عشرات الأضرحة المماثلة تتناثر فوق قمم جبال الكاب. أقامها مسلمو المدينة فوق قبور الرعيل الأول من المسلمين الماليزيين الذين جلبهم الهولنديون قسرا في بداية القرن 17 ليعملوا في مزرعة الشركـة الهولندية كعبيد أو كسجناء منفيين. لقد وصف الدستور العنصري القديم الإسلام "كعقيدة منحرفة يجرم الداعي إليها". ويكاد الإسلام أن يكون مقتصرا على الآسيويين سواء من جيء بهم من شبـه القارة الهندية على يد الإنجليز لزراعة القصب في " دربـان " عـام 1820 أو من جـاء بهم الهولنديون مـن ماليزيا لزراعة الخضراوات في الكاب في القرن 17. ويختلف المسلمون في دربان عنهم في الكاب. إذ يبـدو الأخيرون أقل توترا نتيجـة لمناخ التسـامـح النسبي في الكاب، وأفقـر لأن الفصل العنصري يقسم الناس إلى مراتب تبـدأ بالبيض، ثم الهنـود، ثم الملـونين " ومنهـم الماليزيـون "، وأخـيرا السـود. ثمة تقديرات تشير إلى أن عـدد المسلمين في جنوب إفريقيا 000 ,800 وإن كان مرافقنا قـد أشار إلى رقم مليون ونصف كتعداد حقيقي للمسلمين في هذا البلد.

وعنـدمـا تحدثت مع مجمـوعـة من المسلمين في الصحن الصغير لجامع " الأزهـر " في كيب تاون، أحسست بحذرهم من الخوض في مسائل السياسة، وعرفت أن ما يهم كثيرا من المسلمين الآن هو مشروع ميثاق ديني يسمى "المشاركة الدينية " يوفر للمسلمين ولغير المسلمين حرية التدين واحترام دور العبادة.

وعما يتمناه مسلمو جنوب إفريقيا من العالم العربي فهو الإحساس بهم والتواصل معهم، روحيا، فهم في غنى عن المسـاعـدات الماديـة، وعـبر كثيرون عن تمنيهم أن ينشأ خط طـيران مباشر ييسر على الحجـاج مشاق الرحلة المقدسة التي ترهق كبار السن خاصة لكن هذه الأمنية يعارضها مسلمون آخرون ذوو رؤية سياسية مفادها أن هـذا الخط المباشر يعني خرقا لمقـاطعة النظام العنصري الذي لم يكمل بعد شروط تخليـه الحقيقي عن العنصريـة. وجدل المقاطعة هـذا ليس منطقة خـلافيـة بين المسلمين وحـدهم. فبين الملونين والسـود يدور جدل مماثل بين فـريقين. فريق يـرى ضرورة رفع المقـاطعـة لأنها تزيـد الأزمـة الاقتصادية في البلاد وتزيد عدد المتعطلين عن العمل وهذه البطالة تضر غير البيض أولا وأخيرا. وفريق يـرى أن تستمر المقاطعـة للتضييق على النظام حتى يتخلى حقيقة عن آخر ملامحه العنصرية. أما الأزمة الاقتصادية والبطالة فهي لن تقتل الملونين والسـود لأن هؤلاء يعيشون في مجتمعـات ذات روابط دينية أو قبلية تحول دون ضياع الأفراد على عكس ما يمكن أن يحدث في مجتمع البيض الأوربي المفكك أسريا.

طيران في اتجاه التاريخ

تركنا مـدينـة الكاب متجهين نحـو الشمال الشرقي قاصدين العاصمة " الإدارية " " بريتوريا ".

وفي أعلى مكان يطل على المدينة البديعة وسط منطقة تسمى " وينن " ومعناها باللغة الافريكانية "البكاء "، يقوم نصب تذكاري ضخم يسمى " نصب النازحين ". وعلى امتداد جدران النصب الداخلية تحكي اللوحات المحفورة في الجرانيت قصـة " النزوح العظيم " وهي ملحمة هذه البلاد الممهورة بالدم.. لكنـه دم جميع الألوان لا دم البيض " البوير " وحدهم.

نمـر على الجدران الهائلـة في صمت.. فيحكي لنـا الجرانيت: هرب الهولنديون " البوير" من طغيان الشركة الهولنديـة في الكاب تركوا الزراعـة وعملوا بالرعي في براري الكاب فاصطدمـوا بالهوتنتوت من قبائل السكان الأصليين وقهروهم لكن رعاة آخرين كانوا في البراري العالية. اسمهم " الاكسهوسـا " أي قبيلة ذوي الملامح الحمراء (وينحدر من سـلالتهم نيلسون مانديلا). كانوا رعاة وأقـوياء ومنظمين فهادنهم " فان بلتنبرج " "حـاكـم البوير " ورسم معهـم حـدودا للرعي. لكن الماشية من الجانبين كانـت تتوق إلى العشب ولا تعرف الحدود. وأشعلت الماشيـة أول نـار كبيرة بين البيض والسود عام 1778. وتوالت النيران.. أعلنت جماعات "البوير " قيام جمهورياتها الصغيرة عام 1795، وهي جمهوريات جابهت في أول الأمر سكان البلاد الأصليين ولم تجد ما يصلب عـودهـا في هذه المجابهة غير روح العداوة. وفي القرن التاسع عشر دخل الإنجليز الذين كانوا قد احتلوا مقاطعة الكاب في سبتمبر 1795 على خط العداء مع "البوير ". ولعبت بريطانيا الاستعمارية آنذاك ألعابها السياسية الشهيرة: فرق تسد، والانتصار المبالغ فيه لأحد الأطراف حتى تؤجج النار بين الجميع. أعلنت إنجلترا اللغـة الإنجليزية كلغـة رسميـة واستقدمت المزيد من الناطقين بها ليستقروا في منطقة الحدود المضطربة. واتسعـت نيران القتال بين السـود والبوير في حروب كان البوير يسمونها حروب الكفار لاعتقادهم بوثنية السود. وكـان السود يسمونها حروب الأرواح الشريرة القادمة من البحر.

كـانت حروبا دامية، ولم يجد البوير أمامهم غـير مواصلـة النزوح شمالا سأما من الإنجليز ومكائدهم. وانخرط البوير فيما أسمي " بالنزوح الكبير " مخترقين نهر أورانج ومجتازين جبال دراكسنبرج. كانـت هجرة كبيرة ومريرة. ومن جديد راح البوير يصطدمون بأهل البلاد من السود في مسيرة نزوحهم المتكرر. ومن قصص النزوح الداميـة المريرة قصة ملـك الزولـو مع البوير. عندما ذهبوا لمفاوضته تاركين أطفالهم ونساءهم في معسكر قريب. لكن ملك الزولو أرسل عشرة آلاف من أتباعه ذبحوا كل من كـانوا في المعسكر حتى الرضع وفي مكان هذه المذبحة التي أسميت "وينن " أو البكاء أقيم نصب النازحين، الذي كنـا نتابع التاريخ عبر لوحاته الجدارية المحفورة في الجرانيت.

استـدعى الدم مـزيدا من الدم. وفي 16 ديسمبر 1838 قام قائد البوير " برتيوريوس " (الذي سميت بريتوربا باسمه) بإدارة معركة مع ملك الزولو انهزم فيها الزولو وبلـغ عدد القتلى منهم في يـوم واحد ثلاثة آلاف إنسان. وصار تاريخ هذه المذبحة عيدا وطنيا للبوير.

فتحت هذه المعركـة قلب جنوب إفريقيا النازف للبوير. لكن بريطانيا كانت هناك وراحت تضم إلى سلطانها الأرض التي يشغلها البوير قطعة وراء قطعة حتى طال سلطانهم ما وراء نهر فال أو الترانسفال فثار الافريكان " البوير "، وأوقعـوا بالبريطانيين هزيمة نكراء في ماجوبا عام 1880.

وكانت تلك أول شرارة لإشعال النار بين "البوير" و"البريتون " "الـبريطانيين ". وأجج من اشتعـال النـار اكتشـاف الـذهب قـرب جـوهانسبرج عام 1886 وقـد كـانت كـما هي اليوم عاصمة للترانسفال تابعة للأفريكان.

أطلت القسوة برأسها من جديد على أرض جنوب إفريقيا في حرب " البويـر " التي انتهت بانتصار الإنجليز والتوحيد القسري لمقاطعات " الكـاب " و" الناتال " و " الترانسفال " و " الأورانج ".

ما لم يقله الحجر

كانت آخر الصور في صرح " النازحين " تحكي عن ميلاد اتحاد جنوب إفريقيا بمقاطعاته الأربع. لكن هذا الاتحاد كان جسدا افريكانيا بثياب بريطانية. وسرعان ما تمرد الجسـد على تلك الثياب. وراحت القـومية الافريكانية تعبر عن نفسها. فولد الحزب الوطني- وهو الحزب الحاكم حتى الآن- منـاوئا لـبريطانيا إلا أنها اضطرت للاعتراف به عام 1926 وكـان يقوم على سياسة التفرقـة العنصرية " الأبارتيد " بفصل البيض عن السود والأجنـاس الأخرى. واستعباد السـود في المناجم مقابل عشر مرتب البيض. وحرمان غير البيض من حق الانتخاب، والزيجات المختلطـة. وتقييد حرية الحركة لغير البيض إلا بإذن مرور. وفي عام 1952 قام المؤتمر الوطني الأفريقي بحركـة عصيان تحولت إلى صدامات دامية.

ومضى النظام العنصري يعمق سياسة " الأبـارتيـد " بإنشاء معـازل للسـود تحت ستـار. مستوطنات مستقلة. وفرضـت اللغة الأفريكـانية على السود. وتزايدت أعمال العنف فأعلنت الطوارئ عام 1985. مما جعل دولا غربيـة كثيرة تتخـذ قرارات بالمقاطعة الاقتصادية لجنوب إفريقيا منها الـولايات المتحدة والمجموعة الأوربية. من جانب آخـر تزايدت المقاومة المسلحة للمؤتمر الوطني الأفريقي الذي كان قـائده مانديلا في السجن. وفي دائرة العزلة والعنف بدأت أصوات عاقلة، أو مناورة، تطالب بتخفيف " الأبارتيد ". وكـان الرئيس " بوتا " أول من طالب بذلك فرفع مطلب الإصلاح السياسي في جنوب إفريقيا والانفتاح على المجموعات السكـانية غير البيضاء على الرغم من مقاومة أجنحة اليمن المتعصب بين البيض. ونتيجة لمرض "بوتا " تنازل عن السلطة ليخلفه الرئيس الحالي "ديكليرك " الذي فـاز حزبه- الوطني- بأغلبية مطلقة في سبتمبر 1989 ، ليعمق سياسة سلفـه ويفرج عن نيلسـون مانـديلا ويطلق حـريـة العمل السيـاسي ويعلن في مـارس 1992: " لقـد طـوينـا صفحـة الأبارتيد ".

فهل طويت حقا هذه الصفحة؟.

النمر في قفص المآزق

من بريتوريا عدنا بالطريق البري إلى جوهانسبرج التي تقع على مسافة 60 كيلومترا.

وفي ليالي فنادق جوهانسبرج العامـرة المغلقة (إذ إن الشوارع المفتوحة للسود الضائعين تكون خطرا داهما في مثل هذا الوقت)..

في هذه الليالي التي تتصدر موائدها شرائح من لحم النعام المشوي وأطباق الاستاكـوزا الحمراء. يموج السهر بألوان ولغـات وملامح شتى. مستثمرون أجانب من كل أرجاء الدنيا. وقليل من العرب معظمهم لبنانيون مقيمون في دول إفريقية مجاورة ؛ وصحفيـون وكتـاب مختلفـو اللغـات ؛ وعسكـريون أفـارقة جـاءوا للتدريب أو للتعاقـد على شراء أسلحة ؛ وسياح من كل صوب وحدب. في هـذا الليل المغلق والـذي يبـدأ مبكـرا (بعـد السادسـة) ثمة ضرورة للتقارب دفعا للسأم. ومن وسائل دفع السأم أن تطرح ما تشتهي مـن أسئلـة جادة، فيدور البحث عن إجابات لها بجدية أيضا وإن بـدون توتر. وكـان السـؤال الكبير: " هل جنوب إفريقيا في مأزق؟. وبطرح آخر تكتنفه الدهشة: هل هذا البلد الذي يقف على رأس طريق البترول الرئيسي إلى الغـرب (رغم وجـود قنـاة السـويس التي لا تستوعـب كثيرا من ناقلات النفط العملاقـة). هذا البلد الذي يجنـي من تجارة السلاح السرية- مع كل الأطراف- الكثير. والـذي يمتلك 40% من نـاتج الصناعـة الإفريقية كلهـا، و 25 % من الناتج الإجمالي للقارة، و 64% من كل الكهرباء، و 54% من إنتاج المعادن، و 40 % من إنتـاج الذرة (في غير سنوات الجفـاف النسبي)، و 66% من إنتـاج الصلب، وبه تدور عجلات 64% من سيارات إفريقيا، وتستخدم 36% من تليفوناتها. هذا كله منسوب إلى القارة التي لا تأخذ منها جنوب إفريقيا غير 5% من عدد السكان وهي إضافة إلى ذلك صاحبة الاحتياطي الأكـبر من الذهب والبلاتينيوم والكـروم والمنجنيز والفاتديون إضـافـة للكثير من الماس والفحم واليـورانيـوم والاسبستوس. فناتج الذهب وحـده يبلغ 600 طن سنويا أي ما يوازي نصف إنتاج العالم الغربي، وهي المنتج الأول للماس من نـوع " جم" ومجموعة معادن البلاتينيوم. واحتيـاطي المنجنيـز المهم في صنـاعة الصلب يصل إلى 80% من الاحتيـاطي العـالمي ورغم أن النادر الوحيد هو النفـط إلا أن توليد الطاقة والـوقود الصناعي من الفحم الموجود بوفرة يغطي 75 % من احتياجات الطـاقة. نـاهيك عن الصناعـة النـووية المتقدمة دون إعـلان. إضافة إلى تقدم صناعات الإلكترونيات والسيارات والمواد الكيميائية والأدوية والملابس.

هذا البلد الذي يصدر- إضافة إلى كل ما سبق- 60 % من منتجاته الغذائية ويعتبر من بين ستة بلاد مصدرة للغذاء في العالم.

هل هذا البلد في مأزق؟ تشير محاولات الإجابة إلى أن الأمر في جنوب إفريقيا يأتي من الماضي ويصب في الحاضر متجها نحو المستقبل فمن الماضي مازال شبح الصراع الإثني (العرقي) يحيا في شكل تربص في حـالة هدنة ليس إلا. وفي الحاضر صار تراكـم الثروة في جـانب واحد على هذا النحو يهدد بكفها عن الدوران ناهيك عن إمكـان تفجـر قنبلـة الأغلبيـة السـوداء الفقيرة والتي يمكـن أن تطيح بكل شيء أو على الأقل تستهلك الكثير من الثروة المتراكمة عبر الاضطرابات الدموية التي ستطال البيض مهما استهلك السـود أنفسهم في الصراع الأسود / الأسـود الذي نراه الآن بين أنصـار بوتاليزي زعيم الزولو وأنصار مانديلا من المؤتمر الإفريقي.

أما العنصر الخارجي فقد أصبح ضاغطا عبر المقاطعة فهذا النمر الإفريقي- الذي لا يقل عن أي من نمور شرق آسيا- في حاجة إلى ساحـة لركضه الاقتصادي. في حاجة إلى سوق عالمية عموما وسوق إفـريقية متعطشة على حدوده. بل إن هناك من يعتقد بأن المقاطعة في حد ذاتها هي وسيلة لحبس هذا النمر في قفصه حتى لا يهدد النفوذ الغربي في السوق الإفـريقيـة، فـالمسألة ليست لأجل عيون السود المضطهدين في أرضهـم ولا لخاطر أنهار دمائهم التي تراق منذ قرن من الـزمـان. إنها صراعات الشمال مع الشمال وإن على أرض الجنوب.

ومع ذلك تتردد من كل الأطـراف كلمة سحـرية واحدة هي " الديمقراطية " في جنوب إفريقيا يقول بها الشمال: أوربا وأمريكا- ويقول بها الجنوب- في إفريقيا وآسيا. ولقـد سمعتها في تلك الليلة عبر بـرنامج تليفزيـوني سريع الإيقاع اسمه " الصـدى " يـذيع بالإنجليزية ضمن أربع قنوات إحداها بالافريكـانية واثنتان بالبانتو ( لغة السـود). من الثلاثي الجنـوب إفـريقي الأهم: الـرئيس ديكليرك.

وزعيم المؤتمر الإفريقي مانديلا وزعيم الزولو " بوتاليزي ".

قنبلة سويتو الموقوتة

ريح " أوبا " السائق الـدليل ينطلق بنا في الطريق السريع إلى سويتو. وسويتو هي اختصار لتعبير مـدينة الجنوب الغربي. وهـي تأخـذ موقعها منسوبا إلى جوهانسبرج.

قـال لنـا أوبا النحيف الأسود وهـو يقود بسرعـة ومهارة ملتفتا إلينا حـين يتكلم: " عنـدما يكـون هناك أربعة ملايين إنسان أسود يعيشون في مساحة مائة كيلو متر مـربع فتوقعـوا أن تروا الجميل والقبيح. الجيـد والسيئ".

وفي واقع الأمـر لم نستطع أن نـرى غير الألم، بعـد تذكـارات أبسطة الزهور في كيب تاون وأفراح أعياد جبهة الماء على شواطئها وناطحـات السحاب الزجاجية الـبراقـة وسط جـوهـانسبرج وشـوارع الجاكـارنـدا البنفسجية في بريتوريا.

كـانت سويتو لطمة مفاجئـة بعد طيران ناعم على طرق سريعة وجسـور تأخـذ مكانها بين تلال خضراء تتناثر فيها فيلات البيض الناصعة المسقوفة بالقرميد والمحاطة بخضرة الحدائق.

وحتى نهبط إلى قلب سويتو صعـدنا جسرا للمشاة. جسر الآلام وظلال بشرية متهافتة. كـان رجل عجوز يدفع بعربة يد محملة برقع كـرتون يتوقف ليسـد بالكرتون الفجوات بين قضبان حـديد سور الكوبري. لقد كان يبني بيتا، فهذا الجزء من رصيف الكوبري هو مأواه. أمـا "أنجلينا" التي تبيع نـوعا من الحلوى الرخيصة فهي تحتل زاوية عند رافد الكوبري. هنا محل رزقها البائس ومسكنها الذي ظللته بالخرق والكرتون. لقد فقدت زوجها وأبناءها في إحـدى مذابح سويتو وتقول: لقد رأيت الكثـيرين يموتون أيضا على هذا الجسر. الموت حتف الأنف. والموت بلا سبب كـما يبدو للعابر العجـول. لكن لحظة تأمل واحدة تكفي لإدراك الوجود القوي لكل حراس الموت: الفقر. البطالة. التخلف. وعندما يكون كل هؤلاء موجودين في بقعة من بلد متقـدم وغني مثل جنوب إفريقيا فإن المتهم الأول يكون نظام التفرقة العنصرية.

لاحظنا أن أكثر من نصف البيوت- الأكواخ ليس بها دورات مياه، لكن أوبا لفت نظـرنا إلى مفارقـة مدهشة هي أن كل البيوت- الأكواخ بها تليفونات، فالتليفون مهم للاطمئنان على الأهل: من مات، ومن لم يمت بعد.

شيء ما، لعله الجميل الوحيد الذي لاح لنا عبر جولة البؤس تلك، فقد كانت أرواح الناس مرحة، بل طروب، وراقصة أحيانا.

ومكثنا نصعد في سويتو حتى ارتقينا تلة مرتفعة حيث أشار الدليل إلى بيت نيلسـون مانـديلا الجديد. كـان البيت المحـاط بسور عال من الجرانيت الـوردي والطوبي مهجورا فلـم يكن هناك مانديلا إضافة إلى أن ويني التي صارت مطلقتـه ذهبـت لتقيم عنـد أهلها. أسطورة حب انتهت نهايـة مكـررة لزيجات وقصص حب مناضلين وزوجاتهم. ويبدو أن الـواحد منهم بعد خروجـه من سجن طويل- مثل سجن مانديلا الذي استمر سبعة وعشرين عاما- يرى الحلم الذي لازمه طوال فتر سجنه وقد تعرى عري الحقيقة وافتقد سحر الحلم. ويولد السأم ؛ فالشقاق ؛ فالطلاق.

عندما كنا نودع سويتو مررنا بنزل جماعي لسكنى الفئات الأكثر فقرا فيها. كان شيئا أشبه بحظيرة للبشر، انطبعت صورتها المريرة على خلفية لم تبرح البـال بتأثر. الأطفال. أطفال السود خفاف الظل. أطفال في أكواخ الصفيح. وفي الحارات الترابية. أطفال عند كـل زاوية ووراء كل حجر. تلك إذن هي القنبلة السكانية الموقوتة التي قرأت عنها وتقول إن نصف عدد السكان السود في عمر الطفولة. وأن أوائل القرن القادم ستشهد تفجر هذه القنبلة إذ يتوقع أن تصير النسبـة 1 : 10، فمقابل كل أبيض واحد سيكون هناك عشرة من السود.

ويالها من دانات بشرية.. في هيئة أطفال!

عبور بوابة إلكترونية لملامسة ذراع مانديلا

عثرت عبر المتابعة اللاهثة لما يدور في جنوب إفريقيا اليوم على اسم " محمد فالي " وعرفت أن هذا الشاب الوسيم المسلم هو ساعد مانديلا الأيمن في المفاوضات مع حكومة دكليرك، فهو كبير مفاوضي المؤتمر الوطني الإفـريقي. وبعـد محاولات تشبـه حل لغز بـوليسي استطعت محادثة محمد فالي تليفونيا وأخذت موعدا معه عصر يوم حار في صيف ديسمبر الوهاج، في مقر حزب المؤتمر الوطني الإفريقي. في رقم 51 شارع بلين بقلب جوهانسبرج.

عبرنا بوابة إلكترونية أكدت أننا لا نحمل أسلحة وأعطتنا أرقاما على كـروت ممغنطـة وضعناها على صدورنا وصعدنا إلى مكتب المفاوض الأول.

كنت ساعيا إلى اللقاء وفي رأسي تتلاطم أمواج لرؤى وهواجسن تنبع من كل أنحاء هذه البلاد وقت زيارتنا، فعلى مبعـدة عشرات قليلة من الكيلو مترات وقعت مذبحة راح فيها عشرات الضحايا من أنصـار المؤتمر الوطني الإفريقي- حزب مانديلا- على يد مـؤيدي حركة انكاثا من الزولو الذين يتزعمهم بوتاليزي. وفي الـوقت نفسه كـان المتعصبون البوير من الحزب شبه النازي يهددون بـإيقاظ مناخ الإرهاب على يد أعضاء حـزبهم العشرة آلاف إن سمحت خطـوات ديكلـيرك بمجيء حكومة سوداء إلى السلطة. أي كان السود ضد السـود والبيض ضد البيض، إضافـة للشك التاريخي للسود في نـوايا البيض، فثمة من يـرى بين السـود أن إعلانات ديكليرك الديمقراطية مجرد مناورة لكسر طوق المقاطعة الدولية حتى يخرج الاقتصـاد من أزمته التي اشتدت بعد انخفاض أسعار الذهب العـالمية وانكماش الاستثمارات من الـداخـل والخارج بسبب الاضطرابات، وبعد مرور عامين من الجفاف أدى لأن تستورد جنوب إفريقيا الحبوب (الذرة تحديدا) لأول مرة في تاريخها. وثمة من كان يؤكد أن ديكليرك صادق في نـوايـاه الديمقراطيـة لإنجـاز حكومة ممثلـة لجميع الأجناس من السكان لأنه ابن الجيل الجديد من البوير الـذين تعلموا جيـدا وتشبعوا بروح ديمقراطي عبر الثقافة ولبعدهم عن سنوات الحروب من أجل البقاء.

حكى لي محمد فالي عن المفاوضات التي بدأت منذ عـام 1990 حتى 1991 مركـزة على الإفـراج عن المسجـونين السياسيين، وانتقال المفاوضـة في ديسمبر 1991 إلى موضوع دستور للمستقبل ناقشه 19 حـزبا وليس المؤتمر الإفـريقي وحـده. ثـم بدأ وضع تصور لجنوب إفريقيا جديدة وديمقراطيـة. وهو ما يرمز له بحروف تضمهـا كلمة "كـوديسا". وفي 26 سبتمبر 92 عقد لقاء دكليرك ومانـديلا الذي قدم مذكرة تفاهم تطـالب بمنع حمل الأسلحـة الخطرة وأن تعمل قوى الأمن على منع العنف وأن يفرج عـن كل المعتقلين السياسيين حتى 15 نوفمبر ليعود المؤتمر الوطني إلى المفاوضات في 15 ديسمبر. وعن العنف قال فـالي إنه من صنع النظـام العنصري، فالجيش يـدرب أفرادا يقودون عمليات العنف من حركـة انكاثا. وما الصراع الذي يبدو أنه صراع بين السود والسود إلا مـن تدبير قوى الأمن الحكـومية التي تقف خلـف الستار ولا تمنع العنف. أما العنف في الشوارع فهو ظاهرة إجرامية وليست سياسيـة والبوليس يدعمها بإضعاف العملية السياسية وبالتواطؤ مع المجرمين فصار الناس يخافون المجرمين والبوليس على السـواء. أمام ذلك كله فإن الحل الـديمقـراطي هو الحل الـوحيد لأنـه سيمنع استغلال السلطة من قبل الجميع ويحترم حقوق كل فرد وكل فئة سياسيا وثقافيا ودينيا، فحكومة وحدة وطنية تضم كل الأحزاب ستعطي للناس شعورا بالثقة ليس فقط في حكومـة مركزية قوية وإنما في حكومات محلية قوية أيضا حيث تكـون البلاد مقسمـة إلى عشر مناطق ومن ثم تكون كل المجموعات الإثنية (العرقية) ممثلة في العملية الديمقراطية، فبدون ديمقراطيـة لن يكون هناك نمو اقتصادي في جنوب إفريقيا لأن المستثمرين سيهربون من بلد مستقبله السياسي غامض.

هل تصـدق حقا أن البيض يمكن أن يتخلوا عن السلطـة للأغلبيـة؟ وثمة حـديث عن أن هذا سيكون انتحارا سياسيا لهم؟

سألت محمـد فالي فعاد يؤكد أن الديمقراطية هي الحل الوحيد للخـروج بجنوب إفـريقيا من أزمتهـا.. وثمة بوادر تـوحي بأن انفراجا سياسيـا يتقـدم على الطريق، فقد تم الإعلان عن لقاء قمة بين مانديلا وبوتاليزي (والأخير ليس كما تـوحي به صورة زعيم تقليدي للزولو فهو عصري للغاية وحاصل على درجة الدكتوراه ويضع في عروة بذلته الإفرنجية الأنيقة وردة يانعة ويتحدث عن كونفدراليات تعبر عن الاستقلال الذاتي لكل فئة وتتعاون في إطار مركزي).إضافة لذلك اقترح الرئيس ديكليرك جـدولا زمنيا مدته 16 شهرا لإجراء أول انتخابات برلمانية يشارك فيها السود ثم تشكيل حكومة مؤقتة متعددة الأجناس في مارس 1994. والخلاف البادي بين كل الأطراف حاليا هو خلاف على الوقت.

فهل هذا ممكن؟

لم يجب محمـد فـالي بـلا أو نعـم، لكنـه كـرر أن الديمقراطية هي الحل الوحيد.

وبينما كنت أعبر البوابة الإلكترونية خارجا إلى شوارع جوهانسبرج المتوترة تذكرت رأيا متشائما يقول إن مانديلا لن يحصل على الأغلبية فتعداد السكـان الإجمالي يتراوح بين 37 إلى أربعين مليونا به 5,5 مليون أبيض والملونون 3,5 مليون لن يعطوا لمانديلا وكذلك المليون آسيوي وهندي، وإذا أضفنا لهؤلاء 9 ملايين. من الزولو التابعين لانكـاثا المتهمة بالتبعية لسلطة البيض. وإذا قـدر أن الملايين العشرة من سـاكني المستوطنات لن يعطوا جميعا لمانديلا. فماذا يتبقى له من السـود الذيـن يكشف التركيب العمري لهم أن 50 % منهم يقل عن 18 عاما. أي دون سن الانتخاب.

فهل هي لعبة بيضاء جهنمية؟

أخيرا.. السير على حافة الذهب

على مبعـدة خمسـة عشر كيلومترا من قلب جوهانسبرج تقع مدينة " حـافة الذهب " التي يصفونها بأنها تحتفظ بـالماضي من أجل الحاضر.

ولقـد كان انطباعنا عندما عبرنا بوابتها أننا نعود إلى القرن التاسع عشر، إلى زمن اكتشاف الذهب في هذه البقعة التي شيدها خروج المعـدن الأصفر من مكامنه فأحـدث النقلـة الكـبرى في تاريخ الصراع والاقتصاد على هذه الأرض.

كانت في زيارة المدينة رحلة مدرسية لتلاميذ صغار وتلميذات من حي الهنود، وفي قاعة صب الذهب التي تشبه مسرحا أضاء وهج الذهب المنصهر مشهدا يدعو إلى التأمل.

كـانت بوتقة الذهب المصهور تأتي عبر باب ينفتح بتوقيت معين محمولة على عربة صغيرة يدفعها عامل أسود في ملابس زرقاء بينما يشرف على عمليـة الصب رجل أوربي ضخم يرتدي ملابس الكولونياليين.

ولأن المقاعـد كانت مشغـولة كلها بالسياح فقـد أقعـدوا تلاميـذ المدرسة الصغار على الأرض حـول مسرح صب الذهب، وعندما رفع العامل الأسود بـوتقة الذهب المتوقدة وراح يصب الوهج المتألق في قالب السبائك لمعت عيون الصغار السود وتصـاعدت صيحـات إنشادهم: " هووه.. ذهب ". " هـووه.. ذهب "، كأنهم يهتفون إنه الذهب حقا. الذهب الذي أظهر بريقه مدى نحافتهم ومدى تبقع بشراتهم بعلائم سوء التغـذيـة ومـدى رقة حال ملابسهم المدرسية المصنوعة من التيل المنقوش بمربعات بيضاء وزرقاء متداخلة تشبه مرايل الخدم في بيوت المستعمرين.

نعم.. إنه الذهب عند حافة الذهب. الذهب الذي تستخرج منه جنوب إفريقيا أكثر من خمسمائة طن سنويا ويمثل إنتاجها نصف إنتاج العالم الغربي كله ويقدر ما دخل خزائنها منه بأكثر من أربعمائة ألف طن، نصف مليار طن من الذهب!!.

نعم.. إنه الذهب، الذي كشف بريقه المتوهج بؤسا مقيما في أرض الذهب. وهو الذهب الذي يبدو أن لا خلاص هناك- من إرث الدم وتوابعه- إلا يوم يضيء بريقه وجوها نضرة لكل أطفال هذه الأرض، بيضا.. وسودا.. وملونين.

 

محمد المخزنجي





صورة الغلاف





جنوب إفريقيا ماذا يدور في رأس العواصف؟





المدينة التي شيدها الذهب





علم جمهورية اتحاد جنوب إفريقيا وموقعها في أقصى جنوب القارة بين المحيطين الهندي والأطلنطي والمدن التي شملها الاستطلاع





مدينة كيب تاون في سفح جبل المائدة





السحب على الطريق نحو قمة الجبل





الفنار عند قمة راس الرجاء الصالح





الألوان التي تعبر عن حروف حب لدى بنات قبائل الزولو





مباهج الحياة في الضواحي البيضاء من كيب تاون





مباهج الحياة في الضواحي البيضاء من كيب تاون





أحد الأضرحة المتناثرة على قمم جبال كيب تاون ذكرى القهر العنصري





جوهانسبرج في الليل إحدى المدن الأوربية التي أقامها البيض في جنوب إفريقيا





صرح النازحين الذي تروي لوحاته الجدارية قصة النزوح الكبير للبوير





العاصمة بريتوريا مدينة عصرية تتلون شوارعها بلون زهور الجاكاندرا





جدارية محفورة في الجرانيت ضمن سلسلة تروى تاريخ البلاد من وجهة نظر البيض في صرح النازحين





تاريخ البلاد من وجهة نظر البيض في صرح النازحين





مقعد الرئيس كروجر الذي قاد الأفريكانيين (البيض من أصل هولندي) في حرب البوير ضد الإنجليز والكتاب المقدس عن يمينه





المحرر مع محمد فالي موسى- مسلم من أصل هندي- ساعد مانديلا الأيمن في المفاوضات مع حكومة ديكليرك





تماثيل منحوتة على خشب الأشجار





سويتو مدينة السود حياة الأغلبية السوداء على الأرصفة





الأغلبية السوداء فوق الجسور





الأغلبية السوداء فوق الجسور





الأغلبية السوداء فوق الجسور





يحتمون داخل جدران من صفيح





وجوه وأيدي عاملة سوداء





وجوه وأيدي عاملة سوداء





يحتمون بجدران من الكرتون





حيثما ذهبت ستلفت نظرك كثرة الأطفال الذين يمثلون قنبلة سكنية موقوته يخشاها البيض





ملابس ورقصات القرن التاسع عشر





مدينة حافة الذهب التي شيدت على أول منجم للذهب- أكبر منتجع للذهب في العالم





بيوت وعربات القرن التاسع العشر





رقص عمال المناجم السود هو رقص القبائل الإفريقية





دهنت وجهها بسائل أبيض يحمي من الشمس فهي تعيش مع طفلها على أحد أرصفة سويتو