دفاعًا عن الحرية الديمقراطية

دفاعًا عن الحرية الديمقراطية

  • إن معظم الذين يعارضون الليبرالية في البلدان العربية، باسم الهوية والأصول والتقاليد والخصوصية التاريخية يوجهون اعتراضاتهم على الليبرالية المنفلتة، كما يرونها في البلدان الغربية.
  • الشعب المصري حقيقة اجتماعية سياسية سابقة على المسيحيين الأقباط والمسلمين والشعب التونسي حقيقة اجتماعية سياسية لا ترجع أصولها إلى الإسلام، على الرغم من حضوره القوي في ثقافته وتقاليده.

تحركت الجماهير في عدد من الدول العربية قبل عامين من أجل إسقاط أنظمة استبدادية ينخرها الفساد. وكان جيدًا أن ترتفع المطالبة بالحرية الديمقراطية فوق سائر المطالب المحقة التي رفعتها تلك الجماهير ضد الاستبداد والفساد. إلا أنه يبدو من التغييرات التي حصلت حتى الآن، وهي متباينة بحسب البلدان، أن مبدأ الحرية الديمقراطية غير واضح بما فيه الكفاية في تصورات الجماهير وفي أيديولوجيات الأحزاب المتنافسة على الحكم.

فالانتخابات آلية مهمة لتنظيم عملية تداول السلطة وشرعية المعارضة، إلا أنها، على أهميتها، ليست هي بيت القصيد. ولذلك إذا كانت الحرية الديمقراطية ثمرة من ثمار حركة التنوير الأوربية التي أحدثت صدى طيبًا في نهضة الشعوب العربية منذ القرن التاسع عشر، وإذا كانت الشعوب العربية تريد حقًا أن تعيش في فضاء الديمقراطية، فإنه لابد لحركة التنوير العربية من استئناف التفكير في الحرية الديمقراطية في ضوء المستجدات التي تعيشها حركة التغيير في البلدان العربية.

لنبدأ بسؤال بسيط، وليكن السؤال الآتي: من هو طالب الحرية الديمقراطية؟ والجواب، في حصيلة البحث والتحليل، يضعنا أمام حقيقتين أساسيتين: الفرد والشعب، وأمام حقيقة فرعية هي حقيقة الجماعات المتوسطة بين الفرد والشعب، ولها بالنسبة إلى موضوعنا حديث آخر. طالب الحرية الديمقراطية هو إذن في الدرجة الأولى الفرد من جهة والشعب من جهة أخرى. والديمقراطية معروفة منذ القديم بأنها حكم الشعب لنفسه. ولكن الشعب الديمقراطي يقوم على مفهوم للجماعة السياسية يختلف عن المفاهيم التي تحملها مصطلحات متقاربة كالعامة والرعية والدهماء والقطيع. الشعب الديمقراطي يتعرف إلى نفسه من خلال فردية الأفراد الذين يضمهم. فلا ديمقراطية حقيقية من دون شعب لا يلغي أفراده، ولا ديمقراطية صحيحة من دون أفراد يدركون أنفسهم كشعب واحد. الفرد والشعب هما قطبا النظام الديمقراطي والحياة الديمقراطية. كلاهما يطلبان الحرية، ويحاولان ممارستها، الواحد في إحالة إلى الآخر. والصعوبة كل الصعوبة في الديمقراطية تكمن في عملية التوفيق التي لا بد منها بين حرية الفرد، أو بالأحرى حريات الأفراد، وحرية الشعب.

هذه أفكار معروفة في الأدبيات الديمقراطية. ولكن من الضروري التذكير بها، والتفكير في مستلزماتها، لأنها عرضة على الدوام لتفسيرات مشوهة أو مغلوطة أو ناقصة. ولعلنا لا نخطئ إذا قلنا إن التفسيرات الخاطئة للحرية الديمقراطية في المشهد السياسي العربي الراهن تأتي من مصدرين: مصدر ليبرالي هو ما نسميه الليبرالية المنفلتة، ومصدر غير ليبرالي، يمثله ما يسمى الإسلام السياسي. فكيف يدافع طالبا الحرية الديمقراطية عن مطلبهما ضد أطروحات الليبرالية المنفلتة والإسلام السياسي؟

الديمقراطية مسئولية فرد

الفرد في المجتمع الديمقراطي قيمة في حد ذاته، كائن ذو كرامة ومسئولية وقدرة على تدبير شئونه الخاصة، وهو يدرك أنه جزء لا يتجزأ من المجتمع الذي ينتمي إليه. فالحرية التي يطالب بها هي حرية لنفسه وللآخرين، لنفسه مع الآخرين، وللآخرين معه. تلك هي المساواة في الكرامة والحرية. والخطر الذي يتهدده يكمن بالضبط في الظن أنه هو البداية والنهاية، هو الدائرة والمركز، ونسيان أن وجوده مع الآخرين يحدد مدى تعامله مع حريته وكيفيته. هذا النسيان هو في أساس تحول الليبرالية الديمقراطية إلى ليبرالية فردائية، أنانية، نرجسية استهلاكية، منفلتة، وهي ليبرالية حبلى بالأمراض النفسية والسلوكية التي تنتهي إلى تدمير المؤسسات والتقاليد والروابط الاجتماعية والأفراد أنفسهم. فلابد، إذن، من فضحها والتصدي لها، بكل الوسائل التربوية والإعلامية والتشريعية، باسم الحرية نفسها، من جهة، وباسم العدل من جهة أخرى.

قد يقال إن المشهد السياسي في البلدان العربية لا يفسح المجال حاليا لمثل هذه الليبرالية، وهذا قول صحيح إجمالاً، ولكن على مستوى الواجهة فقط. فالنقاش حول الليبرالية في هذا المشهد يتجاوز المسائل المتعلقة بحقوق الأفراد السياسية والمدنية، ويدور على مبادئ الليبرالية وصورتها العامة. ولكن، لما كان الفكر الليبرالي العربي، على الإجمال، لم يتوصل حتى اليوم إلى امتلاك نظرياته الخاصة حول الحرية والليبرالية والأسس الفلسفية، الأنطولوجية والأخلاقية لحياة الحرية، فإن النقاش بين الليبراليين العرب وخصومهم يدور، في معظم الأحيان، حول صورة معينة عن الليبرالية، مستوردة على جسور دعاية البلدان الغربية، وبخاصة دعاية الولايات المتحدة الأمريكية، وهي صورة تعكس الليبرالية المنفلتة أكثر من أي ليبرالية أخرى.

إن معظم الذين يعارضون الليبرالية في البلدان العربية، باسم الهوية والأصول والتقاليد والخصوصية التاريخية يوجهون اعتراضاتهم على الليبرالية المنفلتة، كما يرونها في البلدان الغربية وفي بعض الممارسات في البلدان العربية. وهذا يعطيهم أسبابًا للتحفظ الشديد عنها والحذر منها ورفضها، ويعفيهم من مسئولية الخوض بجدية في حقيقة الحرية ومكانتها في الوجود الإنساني. أما الذين يدافعون عن الليبرالية مكتفين بالصورة المبتذلة عن بعض فضائلها الجذابة في الاقتصاد والسياسة والإعلام، فإنهم يسلكون طريق السهولة ويعفون أنفسهم من التفكير في أصول الحرية الديمقراطية ومستلزماتها، وهي أصول ومستلزمات تقودهم إلى تأسيس الحرية الديمقراطية على الحقيقة الوطنية وعلى أخلاقيات المسئولية والتكافل الاجتماعي، حيث إن الفرد الديمقراطي مواطن، والمواطن لا وجود له إلا في وطن وشعب وطني ودولة وطنية.

الليبرالية وأصول الحرية

إن وصف الليبرالية في تأويلها الفرداني بالمنفلتة يفترض أن الليبرالية في تأويلها الديمقراطي منضبطة داخل حدود معينة، تفرضها اجتماعية الإنسان ومقتضيات الأخلاق.

أجل، ولكننا نعلم أن مسألة الحدود الفاصلة بين الحرية المنفلتة والحرية المنضبطة مسألة صعبة، دقيقة وشائكة، وليس من سبيل لحلها بصورة قاطعة وثابتة. على أن هذه الصعوبة ليست سببا كافيا للتهرب والتخلي عن القضية، إذ إنها قابلة للتذليل بحسب الظروف الاجتماعية المتغيرة بالحوار العقلاني الذي يبدأ باعتراف الجميع بأنه لابد من حدود معينة يلتزم المواطنون باحترامها، وفقا لمقتضيات الميادين التي يعملون فيها (اقتصاد، إعلام، فنون، تربية.. إلخ). ومن هنا، ضرورة استكمال فلسفة الحرية بفلسفة السلطة، لأن حسم النقاش في الشئون العامة يرجع، في التحليل الأخير، إلى قرار تتخذه السلطة السياسية. إلا أننا إذا حصرنا المسألة في ثنائية الحرية والسلطة، فإننا سنقع على الأرجح في تناقض مميت. إذ إن السلطة تنزع إلى العمل ضد الحرية، والحرية تنزع إلى العمل ضد السلطة. فلابد إذن في نهاية المطاف من ربط ثنائية الحرية والسلطة بثنائية أخرى، هي ثنائية العقل والعدل، وذلك لأن الرجوع إلى العقل والعدل يضمن أفضل الشروط لما يمكن أن يكون قرارًا صحيحًا.

ولكن، إذا كانت الليبرالية المنفلتة لا تعطي عن الحرية الديمقراطية سوى صورة سطحية، مختزلة، مشوهة، منحرفة، وخادمة لأغراض سياسية أجنبية أكثر مما هي خادمة لأغراض سياسية وطنية إنسانية، فإن الإسلام السياسي (المتمثل في الأحزاب التي ترفع شعارات إسلامية في عملها الحزبي) لا يعطي صورة أفضل وأشد إثارة لمشاعر الاطمئنان. المسألة ليست بالطبع مسألة تصريحات ظرفية يطلقها هذا أو ذاك من رجال الدين أو رجال السياسة لإرضاء جمهور معين: وليست أيضًا مسألة قرار لتنظيم سياسي، إسلامي الأصول والتوجه، يؤثر أن يحفر أو أن يحشر لفظية الحرية في اسمه. المسألة هي مسألة القاعدة النظرية للإسلام السياسي والسياسة الفعلية للإسلام السياسي في ما يتعلق بالحرية الديمقراطية. ماذا يعني الإسلام السياسي القابض على زمام الحكم في أعقاب ثورات العام الماضي على الاستبداد والفساد بالحرية والديمقراطية؟ وهل يتطابق مفهوم الحرية الديمقراطية في خطاب الإسلام السياسي وممارسته مع المفهوم الفلسفي المتطور للحرية الديمقراطية؟

الإسلام السياسي والديمقراطية

هذا السؤال ليس مطروحًا على ما يسمى بالإسلام السلفي، لأن المذهب السلفي يرفض الديمقراطية أصلاً، فلا نقاش مع السلفية حول الديمقراطية، ولا حول الحرية الديمقراطية. والحق أن الإسلام السلفي يعرف ما يرفض، ولكنه لا يعرف ما يريد، إلا على أساس انقسامه إلى تيار يقول بالسلفية (على إطلاقها) وتيار يقول بالخلافة. ولذلك يسهل على الإسلام السياسي الآخر أن يتميّز عنه بقدر ما هو «معتدل» أو «منفتح» أو «وسطي» أو «توفيقي». وتلك صفات توحي بأن بعض المذاهب في الإسلام السياسي يحاول جادًا أن يتحاور مع الديمقراطية وقيمها. ولكن التجربة لا تدل على أن الإسلام السياسي «المعتدل» واضح القطيعة مع الإسلام السياسي «المتشدد» في المسألتين اللتين تؤكد عليهما الديمقراطية الليبرالية بلا أي مساومة، وهما استقلالية الفرد وعلمانية الدولة والسلطة السياسية.

قرأت الكثير من أدبيات الإسلام السياسي. وفي حدود اطلاعي على تلك الأدبيات، أستطيع أن أقول إن أحدًا لم يقم بنقد نظري صارم لمقولة «أهل السنة والجماعة»، التي تحكم خلفية الذاكرة السياسية للفكر السياسي الإسلامي. ما هي مضامين هذه المقولة؟ كيف تكوّنت؟ وما هي وظائفها؟ وما هي مشكلاتها ونتائجها؟ هذه المقولة، مع منظومة من المقولات المؤطرة لها، تمنع التقدم الذي أنجزه القرآن الكريم على صعيد حقوق الفرد البشري، وبخاصة الرجل، في وجه القبلية وتقاليدها من الانفتاح والتحقق في المفهوم الواسع لاستقلالية الفرد في تدبير شئونه الخاصة، وهو المفهوم الذي تفترضه الحرية الديمقراطية مساوقًا لمفهوم الشعب السيّد على نفسه. ففي ما يخص الحرية الدينية، على سبيل المثال، يفتح القرآن الكريم الباب واسعًا أمام الفرد الراشد لكي يحدد إيمانه بنفسه دون أي اعتبار يفرض عليه فرضًا من المجتمع. الفرد البشري حر أمام الله في تعامله الروحي مع الإيمان، قبولاً وتعهدًا وتغييًرا، وليس لأي إنسان أن يحاسبه عليه، وفقًا للآية الكريمة: فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ . هذا المبدأ اللاهوتي الأساسي نال بعض العناية في اللاهوت الإسلامي الكلاسيكي، وبخاصة على يد المعتزلة، ولكنه لم ينل العناية اللائقة به في اللاهوت الإسلامي المعاصر، ولا في الفقه. والحق أن مفهوم «أهل السنة والجماعة»، بتأويله الجمعاني ووظائفه التاريخية، من المفاهيم الرئيسية التي تقف حاجزًا أمام التنظير الذي يتطلبه الفهم العصري لعدم الإكراه في الدين. فلابد من التحرر من هيمنة هذا المفهوم، بعد تفكيكه وإعادة بناء ما يبقى صالحًا منه، توصلاً إلى استيعاب سليم لمفهوم استقلالية الفرد في ما يخص حرية الإيمان الديني. اللاهوت الجديد للحرية والإيمان في الإسلام لايزال ينتظر أصحابه:

وهكذا دواليك. العالم الحديث لم يكتشف مبدأ الحرية. ولكنه جعله في مرتبة المبادئ التأسيسية في النظر إلى الإنسان وشئونه العملية، إلى جانب مبادئ أخرى كالعقل والمساواة والدولة الوطنية. وعلى كل فكر ديني أن يتكيف مع هذه المبادئ، مثلما فعلت المسيحية الكاثوليكية في المجمع الفاتيكاني الثاني، لأنها مبادئ صحيحة بدلاً من رفضها أو محاولة الالتفاف عليها وتعطيلها.

والأخطر من ذلك، على الصعيد السياسي العام، أن المنطق الضمني لمفهوم «أهل السنة والجماعة» يحول دون الفهم العقلاني الموضوعي لظاهرة الديمقراطية بوصفها نظام حكم الشعب بالشعب ومن أجل الشعب. والحق أنه، مهما يكن من أمر مفهوم الشعب ومكوناته وصفاته والجدال حول تعريفه في العلوم السياسية والاجتماعية وفي فلسفة السياسة والاجتماع، فإنه من الحقائق الراسخة في الفكر السياسي المعاصر. والدساتير في مختلف أقطار المعمورة تكرسه من خلال النص على أن الشعب مصدر السلطة في الدولة. ومن التجليات الأخيرة لقوته ومرجعيته، ما حدث في ميدان التحرير في القاهرة، العام الماضي، تحت شعار «الشعب يريد إسقاط النظام». إن هذا الشعار أهم ما حملته الحركة الثورية التي تجتاح العالم العربي بعد ركود دام عقودًا. ولو اتسع لي المقام، لكتبت فيه بحثًا مطولاً، إلا أني أكتفي الآن بهذه الإشارة للخروج بها إلى القول بأن الإسلام السياسي لا يستطيع بعد اليوم إقناع الجماهير المطالبة بالتغيير والحرية الديمقراطية. فالشعب ليس بالتحديد، جماعة المؤمنين، لا بالإسلام، ولا بأي دين من الأديان السماوية، ولا بأي عقيدة من العقائد. الشعب جماعة أفراد أحرار، عقلاء، يكدحون للبقاء والنمو، ولهم مصالحهم الخاصة ومصالحهم العمومية، على قاعدة أنهم متساوون في الكرامة الإنسانية، وفي الحقوق والواجبات الأساسية وما إليها، ومتساوون أمام القانون، وهم متساوون أصلاً في الانتماء الوطني. الشعب المصري حقيقة اجتماعية سياسية سابقة على المسيحيين الأقباط والمسلمين من أهل السنة والجماعة، والشعب التونسي حقيقة اجتماعية سياسية لا ترجع أصولها إلى الإسلام، على الرغم من حضوره القوي في ثقافته وتقاليده. ولكل واحد منهما هويته التاريخية ومشكلاته التي لا علاقة لها بنمط الصلاة والعبادة. ففي منطق الحرية الديمقراطية، لا سبيل إلى الخلط بين الشعب بمفهومه الاجتماعي الدنيوي التاريخي وبين الشعب بحسب تقسيمات العقائد والمذاهب الدينية. وهنا، كما في مناقشة الليبرالية المنفلتة، نجد أن المرجعية الاجتماعية السياسية للحرية الديمقراطية إنما هي الحقيقة الوطنية التي تنتج مواطنين ودولة وطنية، لا دولة دينية ولا دولة مدنية ذات مرجعية دينية، على ما يرى بعض مفكّري الإسلام السياسي في هذه الأيام.

مدنية أم علمانية؟!

وفي هذا السياق، لا أستطيع إلا التعبير عن دهشتي أمام الرواج الواسع الذي لقيه في السنوات الأخيرة مصطلح الدولة المدنية. فهل ثمة شيء في الحياة السياسية اسمه الدولة المدنية في تميّز كامل عن المدينة - الدولة؟ يبدو لي أن رواج هذا المصطلح عائد إلى تعدد معاني «المدني»: وبالتالي إلى قدرته على توفير الغطاء للتلاعب بالمقاصد والتهرب من الوصف الصحيح للدولة الديمقراطية الوطنية الذي هو العلمانية، وليس الإلحادية. ففي بعض الحالات، يقصد بالمدني ما هو غير عسكري، وبالدولة المدنية الدولة التي يحكمها رجال غير عسكريين. وفي حالات أخرى، يقصد بالمدني ما هو غير ديني، في مضمونه أو في مؤسساته (زواج ديني وزواج مدني) كما يقصد به، في حالات أخرى، ما هو غير سياسي (حقوق سياسية وحقوق مدنية) أو غير أهلي (نظام عائلي ونظام مدني). فما هو المقصود بالدولة المدنية؟ هل هو أساس الدولة أم نظام الحكم فيها؟ في المنظور الديمقراطي، ينحصر المدني في ميادين الإنتاج المادي والثقافي والهيئات الاجتماعية القائمة بأعبائه، ويتحدد أساس الدولة في المجتمع الوطني. فأين الحاجة إلى وصف الدولة بالمدنية؟ أما القول بدولة مدنية ذات مرجعية دينية، فإنه يعني دولة لا يحكمها عسكريون. ولكن أساس الحكم فيها هو الدين. وهذا ليس أكثر من صيغة معدلة، في ظل دلالات مصطلح «المدني»، لفكرة الدولة الدينية. والدولة الدينية في ماهيتها دولة غير ديمقراطية.

لننظر في المسألة بدقة، إذا كان الإسلام رؤية شاملة للدنيا والآخرة، لشئون الإنسان كلها، الوجودية والنظرية والعملية، العامة والخاصة، فما هو مفهومه للدولة؟ وما هو تصوره لنظام الحكم فيها؟ وبالتالي، ما معنى أن توصف الدولة في إطاره بالمدنية؟ أليس المدني جزءًا أو قطاعًا من دائرة الإسلام؟ وفي هذه الحالة، لا يخرج وصف الدولة بالمدنية عن كونها دولة دينية. وإذا كان المقصود بالمرجعية الاعتراف بوجود مجال دنيوي خاص لما هو مدني، ولكن من دون استقلال عن الدين، فالسؤال يتحول حينئذ سؤالاً عن مكونات المدني وعمن يدخل فيه، وعن كيفية وقوع الدولة في نطاقه، وسؤالاً عن أسباب وكيفية ومدى خضوعه للمرجعية الدينية، وسؤالاً عن بنية المرجعية الدينية نفسها؟ وهذا يعني أننا أمام إحدى حالتين: فإما أن تكون المرجعية من طبيعة أخلاقية فقط، وفي هذه الحالة ينبغي البحث عن الأساس الاجتماعي الموضوعي للدولة، وإما أن تكون المرجعية عقائدية وتشريعية، وفي هذه الحالة، لا تخرج الدولة المسماة مدنية عن كونها دولة دينية.

***

إذا صحّ هذا التحليل، فإنه يتيح لنا أن نفهم ما يجري في البلدان العربية حول الحرية الديمقراطية من نقاشات مرتبكة أو خاطئة أو مخادعة. فالمسألة لا تهم أنصار الليبرالية وحدهم، بل تهم جميع الأحزاب والتيارات السياسية والفئات الاجتماعية. ولذلك تحتاج حركة التغيير بجميع أجنحتها إلى نظرية واضحة، متماسكة، وملائمة، حولها. وهنا، تقفز إلى الواجهة مسألة النموذج، وموقفنا منها نقدي صارم كما هو بالنسبة إلى المفاهيم الواردة من التراث القديم ومن مصادر الدعاية الغربية. موقفنا، في اختصار، هو أن البلدان العربية غير مضطرة إلى اعتماد أي نموذج غير النموذج الذي تبنيه بنفسها على أساس المبادئ الإنسانية العامة لفكرة الحرية الديمقراطية. وهذا بالطبع أمر صعب، ولكنه أجدى من كل اقتباس أعمى ومن كل تقليد كسول. وبعد، أليست الحرية الديمقراطية فضاء للمبادرة والإبداع؟

إن كل النماذج المبنية في العالم المعاصر حول الحرية الديمقراطية عبارة عن أنظمة وظّف فيها كل شعب قدرته الخاصة، وأكاد أقول عبقريته الخاصة، في أن يكون شعبًا حرًا مؤلفًا من مواطنين أحرار. تشترك هذه الأنظمة في المبدأ، وتختلف قليلاً أو كثيرًا في التطبيق، نظرًا إلى خصوصيات الشعوب التي أقامتها. ومتى كان المبدأ واضحًا وراسخًا في الأذهان (مواطنون أحرار في شعب حر)، فلا النموذج الفرنسي يفرض نفسه، ولا النموذج التركي.
-------------------------------
* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية.

 

ناصيف نصار*