مراجعات نقدية

مراجعات نقدية

  • لا يلتفت حموده تحت وطأة العمل تحت مظلة بيرمان إلى أن الهدف من محاولته هو مختلف عن محاولة بيرمان، فالأخير يدرس الاستقبال الأمريكي ويقتصر على المشهد الأمريكي
  • ما قام به حموده بالفعل هو أنه اعتمد على كتاب «آرت بيرمان» من النقد الجديد إلى التفكيك الصادر عن مطبعة إلينوي سنة 1980 وهو دراسة عن استقبال البنيوية وما بعد البنيوية في الولايات المتحدة الأمريكية

يكتب عبد العزيز حمودة، رحمة الله عليه، في كتابه «المرايا المحدبة» عن «تأثير المذاهب الفلسفية الغربية على اللغة والأدب، والعلاقة العضوية والحتمية بين تصورات الفكر الفلسفي الغربي منذ القرن التاسع عشر من ناحية، والدراسات اللغوية والأدبية من ناحية أخرى» (ص61 ). هذا الهدف الضخم لم يتحقق في الفصل، وما كان يمكن أن يتحقق، لأن معنى التحقق - في هذه الحالة - مناقشة فلسفات وتيارات ونظريات تشمل أفكار القارة الأوربية كلها على وجه التقريب، جنبا إلى جنب الولايات المتحدة (وكندا بالمجاورة) معًا، إذ تربطهما بأفكار القارة علاقات متبادلة وثيقة. ولو فعل حمودة ما وعد به حقا ما ترك خمس ثغرات مهمة على الأقل:

1- ما تفرع عن الفلسفة الماركسية من تيارين كبيرين يمثلان ما انطوت عليه كتابات كارل ماركس (1818-1883) نفسها من نزوع هيجلي, تفرع منه تيار أساسي في الماركسية ( لوكاش، جولدمان، فردريك يمسون.. إلخ ) ونزوع علمي كان انقطاعا عن الهيجلية، وأصلا لتيار( ألتوسير، بيير ماشيري، تيري إيجلتون .. إلخ).

2- نظرية دي سوسير(1857-1913) في علم اللغة، سواء من حيث أصولها النظرية أو تأثيرها المذهل - في أعقاب الحرب العالمية الثانية - على العلوم الإنسانية والاجتماعية بواسطة البنيوية، تلك التي يمكن تعريفها بأنها استخدام النموذج المنهجي لعلم اللغة عند دي سوسير سعيا وراء منهجية علمية منضبطة في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

3- فلسفة الظواهر وما ارتبطت به من رد فعل فلسفي على مأزق الرأسمالية العالمية الذي انتهى بكوارث الحرب العالمية الأولى، وما أفضت إليه (بواسطة كتاب هوسيرل 1859-1938، وهيدجر 1889-1976) من ازدهار علم التأويل (الهرمنيوطيقا) عبر كتابات هانز ورج جادامر (1900-2002) المعاصر من ناحية، ونظرية الاستقبال التي قدمتها مدرسة كونستانس (فولفجانج إيزر 1926، وهانز روبرت ياوس 1921) من ناحية ثانية، و«مدرسة نيف» أو «نقاد الوعي» ( موريس بلانشو، ور بوليه، ان ستاروبنسكي، ج . هيلز ميللر... إلخ ) الذين تحول بعضهم (ج.هيلز ميللر) إلى التفكيك من ناحية أخيرة .

4- الوجودية وما ارتبطت به من مفاهيم تصل بين حرية الفرد والمسئولية الاجتماعية، وما أفضت إليه من نقد يبدأ بكتابات سارتر في فرنسا وينتهي بكتابات إيهاب حسن في الولايات المتحدة.

5- فلسفة شوبنهور ( 1788-1860) ونيتشه (1844-1900) التي تجاوبت وفلسفة الظواهر في وعي ديريدا على النحو الذي أفضى إلى فلسفة التفكيك بكل لوازمها الفكرية التي تبدأ من نقض مركزية العلة وقانون السببية وتنتهي بتدمير الذات الديكارتية تدميرا كاملاً.

حمودة وبيرمان

إن ما قام به حمودة بالفعل هو أنه اعتمد أكبر الاعتماد على كتاب آرت بيرمان « من النقد الجديد إلى التفكيك» الصادر عن مطبعة جامعة إلينوي سنة 1980. وهو دراسة عن « استقبال البنيوية وما بعد البنيوية « في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك بمعالجة تبدأ بذكر الأساس الفلسفي للنقد الجديد في الولايات المتحدة (النزعة التجريبية: هوبز، لوك، بيركلي، هيوم .. إلخ )، وتثني بذكر المبادئ الأساسية لهذا النقد، وتثلث بالمؤثرات الثقافية الجديدة في النقد الأمريكي (العلم والتكنولويا، الوجودية، النزعة السلوكية وبدائلها). ويعقب ذلك الحديث عن خطوات التحول إلى الستينيات، ومنها مفاهيم فلسفة العلم الحديث عند كون، والنقد العلمي عند فراي، والسياق السياسي جنبا إلى جنب موضع نوام تشومسكي في الخارطة الثقافية الأمريكية. وبعد ذلك يأتي الحديث عن البنيوية ثم ما بعد البنيوية والتفكيك. وقد اتبع حمودة الخطة التي مضى عليها بيرمان حذو النعل بالنعل، مركزا على محاورها الأساسية، ومختصرًا الكثير من تفصيلاتها التي لم ير لها لزوما في كتابه. ولذلك سرعان ما نسى الذي وعد به ( ص 64) في استهلاله الذي ينزلق على الفور إلى الحديث عن الاستقبال الأمريكي للبنيوية وما بعد البنيوية بالإشارة إلى ما يسمى «التركيبة الثقافية للعقل الأمريكي» (ص87). وهي التركيبة التي تقود حمودة إلى الحديث عن الفكر الفلسفي نفسه الذى تحدث عنه بيرمان، ولكن تحت عنوان «الفكر العلمي الفلسفي الغربى والحداثة». ولا يكتفي حمودة بذلك، بل يأخذ الثنائية التي ألح عليها بيرمان ويجعل منها ثنائيته الخاصة دون إشارة إلى الأصل ( الأمر الذي سوف نعود إليه في ما بعد ) مؤكدا أفكار بيرمان ببعض النقول التي تضيف إليها وتبرز دلالاتها التي تبناها حمودة، محاولا رتق الفتوق بنوع من النقول الموازية.

عوائق تحقيق الخطة

ولا يلتفت حمودة تحت وطأة العمل تحت مظلة بيرمان إلى أن الهدف من محاولته هو مختلف عن محاولة بيرمان، فالأخير يدرس «الاستقبال الأمريكي للبنيوية وما بعد البنيوية، ومن ثم يقتصر على المشهد الأمريكي»، وحمودة يهدف إلى إثبات قضية أخرى، هي «تأثير المذاهب الفلسفية الغربية كلها على الدراسات اللغوية والأدبية». والهدف النهائى إثبات أنها مذاهب نابعة من تربتها وليست مذاهب مستجلبة. ولكن الاعتماد على النقل انتهى بالفصل كله إلى معالجة محدودة، وتقلص بالمنظور بما جعل من أفكار آرت بيرمان نقطة الارتكاز الدائم، ومن ثم نقطة البدء والمعاد.

والذي يدل على هذه المطابقة في الأفكار ما نجده من فقرات منقولة بأكملها عن بيرمان دون إشارة إلى الصفحة، اعتمادا، ربما، على كثرة الإشارات إلى بيرمان في هذا الفصل، وتلخيصا لصفحات وصفحات من كتابه سواء في تمهيد الفصل أو الحديث عن الفكر العلمي الفلسفي الغربي، كما يحدث فن كل الكلام عن لوك إلى نيتشه، وثنائية الخارج والداخل، والنقد الجديد والعودة إلى الداخل.. إلخ.

وأطرف مظاهر هذا الاتباع هو المغالاة فيما لم يغال فيه بيرمان نفسه، خذ مثلا الكلام الذي يفتتح به بيرمان الفصل التاسع من كتابه عن «التفكيك في أمريكا». والفصل كله يدور حول نقاد «ييل» الأربعة: ج. هيلز ميلر وبول دي مان وجيفري هارتمان وهارولد بلوم. ويستهل بيرمان الفصل بقوله: «كل واحد من هؤلاء النقاد الأربعة أنتج قدرا لا يستهان به من النقد الأدبي قبل أن يدمج تأثير ديريدا في ممارسته». فالتفكيك في أمريكا، في الحقيقة، ليس ما بعد بنيوية فرنسية، وإنما هو استخدام ما بعد بنيوية تواصل حركة بدأها النقد الجديد في النقد الأمريكي، مع تعديلات مهمة لا يمكن إنكارها، كان العديد منها استجابات أكثر اتساعا من النقد الأدبي. يضاف إلى ذلك، أنه من الخطأ فهم هؤلاء النقاد الأربعة كما لو كانوا قد تحولوا عن مواقفهم السابقة، ورفضوها بسبب دريدا الذين أصبحوا أتباعا له في التبشير بما بعد البنيوية الفرنسية، فهناك نوع من الاتصال في أفكار كل واحد من هؤلاء، ولم يخدم ديريدا إلا في التقدم بنقدهم السابق إلى منطقة نقدية جديدة، لكن ليست أجنبية، وذلك بالطريقة التي يدفع بها المستوطنون الحدود على هامش المنطقة الجغرافية التي يسكنون فيها ( ص 223-224).

مبالغة وتضخيم

هذا الكلام يمكن مناقشة بيرمان فيه، وفهمه على أنه نتيجة الحدية التي يمكن أن تنتهي به نزعة الأمركة المعهودة. لكن يبقى فيه ما يمكن الموافقة عليه من أن الفكر النقدي الوافد لا يمكن أن يدخل إلى أرض جديدة إلا بعد عملية إعادة إنتاج، ومن ثم عملية تفاعل تؤدي إلى تغير كلا الطرفين على السواء: الوافد والمستوطن. الطريف أن حمودة يمضي مع حدية نزعة الأمركة إلى مداها الأقصى، ويمضي حتى بعد بيرمان فيقول (ص 64): « إن دراسة التفكيكيين الأمريكيين الأربعة: هارتمان وميللر ودي مان وبلوم، الذين يمثلون مدرسة ييل للتفكيك، ترجع التفكيكية الأمريكية إلى أقطاب النقد الجديد مثل إليوت وبروكس وتيت، وليس إلى دريدا التفكيكي، الذي جاء إلى أمريكا بأفكار فرنسية اعتبرها أقطاب التفكيك الأمريكي أفكارا أجنبية أو مستوردة، وهذه حقيقة يؤكدها آرت بيرمان Art Berman في بداية فصل مشوق عن «التفكيك في أمريكا». ولنلاحظ أولا- أن بيرمان لم يقل هذا الكلام، ولم يجعل الأمور بسيطة سطحية إلى هذا الحد، فأقطاب مدرسة «ييل» للتفكيك لم ينظروا، قط، إلى تفكيك ديريدا على أنه «أفكار أجنبية أو مستوردة»، ولا دراسة بيرمان لهؤلاء «ترجع التفكيكية الأمريكية إلى أقطاب النقد الجديد مثل إليوت وبروكس وتيت، وليس إلى ديريدا التفكيكي». فهذا كلام لا علاقة له ببيرمان، ولا علاقة له بالواقع الفعلي، ولا يدخل إلا في باب التضخيم الساذج لأفكار بيرمان بما ينتهي بهذه الأفكار إلى البعد الكامل عن صاحبها وعن النقد التفكيكي في أمريكا على السواء.

الأطرف من ذلك أن الجملة التي يستهل بها حمودة كلامه الذي اقتبسه «إن دراسة التفكيكيين الأمريكيين الأربعة» توهم أن التفكيك في أمريكا يقتصر على هؤلاء الأربعة من أبناء جامعة «ييل». وفي هذا الإيهام وجهان للاستطراف: الوجه الأول أن الأربعة المشار إليهم كان يشار إليهم على أنهم جماعة «ييل» عندما كانوا يعملون معا في هذه الجامعة، لكنهم منذ سنة 1988 على الأقل لم يعودوا كذلك، وتفرقت بهم الجامعات، ومن ثم لم تعد التسمية تصلح إلا على مرحلة بعينها من مراحل ممارساتهم النقدية، وهي المرحلة التي حاول فيها ج. هيلز ميللر أن يكشف عن العلاقات الواصلة بين جماعته في دراسة له سنة 1976 موضحا أوجه التشابه بين الأربعة الذين هو واحد منهم. أما الوجه الثاني فيتصل بتطورات أو تجليات التفكيك في أمريكا بعد ذلك، وهي التجليات التي يلمح إليها بيرمان في الفصل التالي مباشرة، وهو الفصل الذي يسقطه حمودة من حسابه، ولعله لم يقرأه، فيكتب جملته التي توهم أن التفكيك الأمريكي يقتصر على هؤلاء الأربعة، مع أنه أوسع منهم بكثير، ويتشعب إلى الدرجة التي يتزاوج فيها مع النقد النسائى في الولايات المتحدة (بربارا جونسون، وجاياتري سبيفاك) من ناحية، ومع تنويعات جذرية من النقد اليساري في أمريكا نفسها (جون برنكمان الذي كتب عن «التفكيك والنص الاجتماعى» سنة 1979، ومايكل رايان الذي كتب عن «الماركسية والتفكيك» سنة 1982) من ناحية ثانية.

مزالق المرايا

هذه الاتباعية التي تميزت بها علاقة حمودة بأطروحة بيرمان التي لم يصبر عليها الصبر الذي يعينه على التمثل الكامل لها من ناحية، ووضعها موضع المساءلة من ناحية ثانية، أقول هذه الاتباعية أدّت إلى مجموعة من المزالق المنهجية في كتاب حمودة. وأول هذه المزالق بالطبع أن حمودة نسي الوعد الذي وعد به في أول الفصل، وانتقل من العام الذي هو تأثير المذاهب الفلسفية الغربية في مجملها على الدراسات اللغوية والأدبية إلى الخاص الذي يدور حول النقد الأمريكي بالدرجة الأولى، ومن خلال منظور بيرمان بالدرجة الثانية. ويبدو أن حمودة انتبه إلى بعض هذا القصور في الفصل، فأضاف إليه ما يصلح بعض العوار من هذه الزاوية، لكن ما أضافه تسبب في خلل جديد أضيف إلى الخلل القديم.

وأول ما يلفت الانتباه في هذا الصدد هو عدم الاتساق المنطقي المتدرج في الفصل، بمعنى أننا لا نبدأ من الأقدم إلى الأحدث، ومن الأسباب إلى النتائج، ومن المؤثرات الفلسفية إلى المظاهر النقدية، وإنما نبدأ من تمهيد يفضي إلى دراسة التفكيك في أمريكا، الأمر الذي يجر إلى البنيوية والتقبل الأمريكي لها. ويرجع حمودة الانتشار البنيوي إلى تاريخ يبدأ بالموجات الأولى من المهاجرين إلى أمريكا، فراراً من سيطرة المذهب البروتستانتي الذي أراد قهر البيوريتانيين (المتطهرين)، وينتقل حمودة من ذلك إلى محاولات الجمع بين نظام للقيم الإنسانية جنبا إلى جنب التكنولويا العلمية، وذلك هو أصل الثنائية المتعارضة في العقل الأمريكي من منظور حمودة - بيرمان. وبعد ذلك نعود إلى البداية مرة أخرى ولكنها البداية الأبعد هذه المرة، وندخل في التحولات المعرفية التي ترجع إلى القرن السابع عشر، ونعود إلى مدخل كتاب بيرمان لتلخيص أفكاره، عن النزعة الإمبريقية وهوبز لوك وهيوم ... إلخ، ونترك بيرمان قليلا لنعتمد على بعض ما ذكره في كتابه «الشكلية الروسية» (120-132) لكن دون أن ننسى بيرمان الذي نعود إليه في المحطة الثانية (133-142) لنمضي مع النقد الجديد، لكن إلى البنيوية ومنها إلى ما بعدها.

وكما لا يوجد اتساق منطقي متدرج في صعوده أو مترابط في علاقاته السببية، على مستوى الفصل كله لا يوجد هذا الاتساق أو الترابط في أقسام الفصول، الأمر الذي يؤدي إلى التناقض في غير حالة، ومن ذلك، مثلا، التمسك بالنظرة الرافضة للبنيوية وما بعدها، ومع ذلك الاستعانة بما قاله فوكو- نقلاً عن غيره - عن الانقطاعات المعرفية (على نحو ما نجد ص 89) والاستعانة بفكرته الأساسية عن تواصل الفكر الأوربي لتفسير تحولات هذا الفكر (ص114- وما بعدها).

عن إيهاب حسن

وطبعًا، يمكن أن نضيف إلى ذلك مناقشة قضايا لا لزوم لها في خطة الفصل وكل النقاش حول مدرسة « ييل» وهل التفكيك الذي أنتجته فرنسي أم أمريكي لا لزوم له في فصل يتحدث عن تأثير المذاهب الفلسفية الغربية في مجملها على الدراسات اللغوية والأدبية بوجه عام، ولكن لأن ذلك موضوع كتاب بيرمان الذي هو دراسة في «الاستقبال»، ولأن التعويل على كتاب بيرمان بالدرجة الأساسية، فلا بد من اتباعه حتى لو أدّى الأمر إلى الخروج على اتساق العلاقة المنطقية بين أقسام الفصل.

وقس على ذلك حشر نقاد أمريكيين في غير موضعهم، ونسبتهم إلى التفكيك، لا لشيء إلا بوهم إكمال ما أغفله بيرمان. ومثال إيهاب حسن مثال فاقع على ذلك. خصوصًا، حين يغامر حمودة بالحديث عن التيار الرئيسي لما بعد البنيوية الأمريكية، وهو التيار الذي يضم مدرسة ييل بنقادها الأربعة، والذي يتسع أحيانًا ليحتوي نقادًا من خارج تلك المدرسة مثل جوزيف ريدل .Joseph Riddel ويضيف إلى ذلك ما نصه: «لكن هناك نقادًا آخرين لا ينضمون إلى هذا التيار، ولم يتمردوا تمامًا على النسخة الفرنسية في بعض تفصيلاتها الأساسية وأبرز مثال لذلك هو إيهاب حسن الذي يقدم نموذجًا أمريكيًا متميزا في إيمانه بالميتالغة واستخدامه لها باعتبارها لغة أدبية بالدرجة الأولى، تلفت النظر إلى نفسها وتستخدم انحرافات اللغة الأدبية».

أما أن إيهاب حسن المولود في مصر يقدم نموذجا أمريكيا متميزا في إيمانه بالميتالغة، واستخدامه لها باعتبارها لغة أدبية فكلام فيه نظر، والأدق أن نقول إن الرجل يهتم بإبراز لغته الشارحة وإظهار تقنياتها الفنية بما يوازي تحليل وتفسير النصوص التي تتناولها هذه اللغة الشارحة. أما أنه لم يتمرد تماما على النسخه الفرنسية من التفكيك مثل نقاد «ييل» الأربعة فكلام لابد من تصويبه. ولعل أول ما يلفت الانتباه إلى ضرورة هذا التصويب أن بيرمان لم يذكر إيهاب حسن في كتابه لا من قريب ولا من بعيد، لسبب بسيط هو أنه لا ينتسب إلى التفكيك انتساب هارتمان أو بلوم أو بول دي مان، وقد فعل ذلك من سبقوا بيرمان من أمثال كرستوفر نوريس في كتابه « التفكيك: النظرية والممارسة» (1982) وجوناثان كوللر في كتابه «عن التفكيك» (1983). ويمكن أن نقول الأمر نفسه على من جاءوا بعد بيرمان. ويمكن أن نوضح الأمر بالعودة إلى كتاب فنسنت ليتش عن «النقد الأدبي الأمريكي من الثلاثينيات إلى الثمانينيات» وهو الكتاب الذي صدر سنة 1988 عن جامعة كولومبيا، حيث نعرف منه أن إيهاب حسن كان واحدا من أكثر النقاد الوجوديين إنتاجا وإثارة، بما نشره من العديد من المقالات والكتب التي حظيت بالاستحسان في دوائر واسعة من حيث تمثيلها للاتجاه الفلسفي للوجودية، خصوصا كتابه «البراءة الجذرية: دراسات في الرواية الأمريكية المعاصرة» (1961) و«الأدب والصمت: هنرى ميلر وصمويل بيكيت» (1967) و«تمزيق أورفيوس: نحو أدب ما بعد حداثي» (1971). ولقد ظلت الأعمال اللاحقة لإيهاب حسن وجودية المنزع في جوهرها، وإن أضافت إلى ذلك نوعا من اليوتوبيا الثقافية المهيمنة على نحو متزايد، وأسلوبا متشظيا يجاوز المشروع الوجودي بمعناه الضيق. وظهر هذا التغير الذى حدث حوالى سنة 1970 للمرة الأولى بصورة كاملة في مجموعة دراسات «البارا نقد: سبعة تأملات في الأزمنة» سنة 1975. وطبعا، لم يتوقف إيهاب حسن عند هذا الكتاب الذي يشير إليه ليتش، فقد مضى في طريقه ما بعد الحداثي الذي يعد رائدا فيه على مستوى النقد الأدبي، ولذلك لا يذكر في تاريخ النقد الأدبي الأمريكي المعاصر إلا بوصفه واحدا من رواد ما بعد الحداثة، وقد أصدر تحت مظلتها العديد من الكتب التي تجسد توجهه الفكري، الذي جعل من إيهاب حسن النقيض الفكري لإدوارد سعيد، فإدوار سعيد ينتسب إلى تيار نقدي يتسم بنزوعه الذي وصفه باسم «النقد المديني». وهو نقد أدبي حقا، لكنه ملتزم بالدفاع عن الحرية والوقوف ضد كل أشكال الظلم والقمع في كل مكان. ولذلك ينطوي إدوارد سعيد إلى الخطاب اليساري في النقد الأمريكي إلى وفاته ومنذ أن انطلق من أفق ميشيل فوكو، معاديا أفق ديريدا، صانعا إنجازاته النقدية الفريدة التي كانت توسيعا وتأسيسا للخطاب المناقض لخطاب الاستعمار في كل تجلياته النقدية، وهو ينظر إليه بوصفه اليسار النقدي لنقد إيهاب حسن المحسوب على اليمين النقدي والسياسي معا.

والأطرف من ذلك كله أن الاتباعية الكاملة التي تميز بها حمودة في علاقته ببعض فصول كتاب بيرمان هي التي أدّت به إلى كتابة اسم الناقد فيكتور شكلوفسكي Viktor Shklovskii أبرز أعلام «الشكلية الروسية» على نحو ما كتبه بيرمان، أي شلوفسكي Shklovsky، من غير أن يلحظ أن المرجع الذى ترجم عنه ما نقله عن نصوص الشكلية الروسية، وهو كتاب بيتر ستينر عن «الشكلية الروسية» (1984) يكتب الاسم على هذا النحو Shklovskiy شأنه في ذلك شأن فيكتور إيرليك في كتابه «الشكلية الروسية» (الطبعة الثانية 1965)، وكذلك إيوا طومسون Ewa A.Thompson في كتابها «الشكلية الروسية والنقد الأنجلو أمريكي الجديد» (1971). وذلك هو الهجاء الذي اعتمدته موسوعة النظرية الأدبية المعاصرة الصادرة عن جامعة تورنتو سنة 1944، في مختارات الشكلية الروسية التي صدرت سنة 1975 بعنوان «النقد الأدبى الروسى في القرن العشرين» وكذلك مختارات لاديسلاف ماتيكا وكريستينا بوموروسكا التي صدرت ترجمته الإنجليزية سنة (1971) بعنوان «قراءات في الشعرية الروسية». وأضف إلى ذلك كله ترجمة بنامين شير Benjamin Sher لكتاب شكلوفسكى الشهير: «نظرية النثر» التي صدرت ترجمته الإنجليزية سنة 1990 في الولايات المتحدة عن دار نشر Oalkey Archive Press حيث يكتب الاسم «Shklovsky» حسب الهجاء الشائع في اللغة الإنجليزية. وهي الكتابة التي اعتمدتها موسوعة «ماريان وبستر للأدب» الصادرة سنة 1995 والتي تكتب أسماء الأعلام كتابة صوتية، كي تعين الباحثين على نطقها نطقا أقرب إلى أصلها في لغتها. ولو راجع حمودة ما أخذه عن بيرمان من كتابة الاسم في ضوء كل هذه المراجع لصوّب الأمر. رحمه الله رحمة واسعة، فقد اجتهد على كل حال، وله ثواب الاجتهاد.

 

جابر عصفور