تلبيس الكف

تلبيس الكف

أتى إلياس إلى مراكش برفقة صديقين إنجليزيين له، كان اسمهما روني وماكسويل، يعدّان فيلماً وثائقياً عن المغرب. وحالما استقروا في فندق «الكبير»، تركهما لمباشرة عملهما، وأسلم نفسه وكيانه بالكامل لإيقاعات المدينة «المرابطية»، التي لم يكن يعرف عنها، قبل مجيئه إليها، سوى أنها حاضرة مزارات الأولياء وحاضنة مدافن الصلحاء.

«الحجر المتحرك لا ينبت عليه العشب» رددها إلياس في خاطره، ثم راح يمشي خبط عشواء، بوعي معصوب، وبسهو متعمد عن اللغة المتوجب أن يفهم بها ما يقال حوله، بين الدروب والأزقة، مخترقا مثل فلك جانح لا وجهة له ما وقعت عليه الخطى من أسواق وساحات.

كان يقوده فحسب فضول جامح من دون دليل صوب مأوى الأصوات، التي تعالت هنا واختلطت هناك، وانسابت إلى داخله كصنبور ماء ظل يسيل، منسيا، آناء الليل وأطراف النهار.

يالفتنة تلك الأصوات وغموض نبراتها، وكم كان في مسيس الحاجة لأن يسبح في لغطها ووشوشاتها، علها تضمد فتقا رهيبا من الصمت مافتئ يتسع في روحه منذ أن فر بجلده من أفران الغاز النازية، وأقام في عاصمة الضباب. كان إلياس يبارح فندق «الكبير» قبل أن تصير الشمس صفيحة قصدير حامية، ويمضي كأنه حصاة في نهر هادر، مفعما بالأصداء، بالألوان، بالروائح، بالخلق، وبالبهائم. يخيط بأقدامه أماكن لا يود أن يعرف أسماءها، ويحس وهي تطوف به بأنه أضحى حراً عند تخوم الحياة، وعارياً خارج الزمن كما لو أنه ساعة عتيقة توقفت عقاربها منذ سنين طويلة.

وفي واحدة من خرجاته، وكان يوم ثلاثاء بالضبط، خلال فترة الصباح، بعد زيارته «سوق الجمال»، أمام سور «باب الخميس»، تلمس طريقا مختصرة عبر إحدى بويبات المدينة القديمة، وفي نيته الرجوع سريعا إلى الفندق ليدون مشاهداته في «دفتر الرحلة»، عندما استحثه، عند مفرق حارة، صوت هو أنين بشري كتيم، يتسلل على استحياء من موضع ما.

تلك «الآآآآآه» المعفرة بلوعة المضيوم، والمتكررة في مدرج الحلق كموال لا يصبر على الوصول إلى خاتمة المقام، حرضت إلياس على الاقتراب أكثر ليستقصي الأمر.

فألفى نفسه في قلب باحة مكشوفة، تتوسطها شجرة عرعار قصيرة، تتخافق على غصونها الخرق ومزق الأثواب، ووقف مبهوتا أمام حشد هائل من الناس، أغلبهم شحاذون وحاملو عاهات ونسوة امتطاهن الشيطان، كانوا يتقدمون، تباعا، برءوس منكسة،إلى ثغرة عميقة بجدار طيني يقع بمواجهة الشجرة، ثم يمدون أياديهم بقطع نقدية إلى داخل الجحر.

بكل انتباه، ظل إلياس يترصد الفقر النبيل الذي يتنفس على ملامحهم المهدودة، وكذا انتظارهم المترقب في مهب المسافة الفاصلة بين «الآآآآآه» وخروج القطعة النقدية، بعد حين من الظلمة، مبلولة بالريق. ولمح انفراج أساريرهم لحظة تسلمهم إياها، وتوجه كل واحد منهم، عقب ذلك، ناحية القضبان الحديدية لنافذة لصق الجدار، لربط قفل صغير وإيقاد شمعة.

فهم إلياس أن الشمعة نذر، واستوعب أنهم يقيدون أحزانهم وقروح أيامهم هنالك، ومتى حلت «البركة» وجاء «الفرج»، عادوا ليطلقوا سراحها. وتصور بأن الكائن الخفي، المحتجب داخل ثغرة الجدار، هو على الأرجح واحد من «السادات»، مجذوب بلسانه علة عطلت عنده آلة الكلام، أو ربما عراف يتعمد تهديج أنينه كي يضفي على دروشته هالة من الغموض والرهبة.

وفي لحظة، وهو يتحسس قطعة نقدية بجيبه، جاء على باله أن يجرب بدوره هذه اللعبة المسلية، بيد أنه سرعان ما أحجم عن الفكرة. لكن، لم يدر كيف أمسك الأنين بتلابيبه. تسكع في رأسه. استولى عليه. غدا نداء قويا وساحرا. استحال قوة جاذبة نبعت من قرارة أعماقه، ليجد نفسه كالمأخوذ في غفلة منه، يمرق من وسط الناس، ويبسط يده كل البسط في اتجاه فوهة الجحر.

بخلاف ما توقع إلياس لم تخرج القطعة النقدية المبلولة، وطال وقوفه حتى طفح صبره ونشفت شفتاه كأنهما الحشف اليابس. فأقدم حينئذ على حشر يده في عمق الجحر، لكنه عندما فعل ذلك سقط شيء في باطن كفه اليمنى ولسعه كالنار الكاوية.

سرت في بدن إلياس قشعريرة مؤلمة، ولما انتبه، كانت كفه تلبس وشما غريبا له ثمانية أضلاع. فاندفع من وقع المباغتة ورائحة اللحم المحترق التي فغمت خياشيمه، ثم اقتحم الجحر، غير أنه اصطدم بالخواء.

في تلك الأثناء، أمسى إلياس في حالة غير طبيعية كمن يهدد عقله بالجنون ويعود أدراجه. لم يتذكر سوى أضغاث عيون كثيرة من حوله كانت تحدجه مثلما لو كان حشرة ضارة سقطت في ماء نقي، كما لم يعلم كيف ولا متى صار في غرفته داخل الفندق. طوال الوقت وبهوس شديد أغرقه في الاضطراب والقلق، كان يرنو إلى الوشم، ويحاول أن يهتدي لفك طلاسمه وأسراره المنيعة. لم يفهم شيئا من حروفه وخربشاته والأسماء المستعصية المقيدة على رأس زوايا أضلاعه. وحينما أعيته الاحتمالات، ذهب للبحث عن الجحر، لكن الجهات أنكرته، وأمحلت في عينيه البوابة والحارة والباحة والشجرة والنافذة، ولم يظهر للجحر في ذاكرته أي أثر.

وبعد أن قضى إلياس عدة أيام على هذه الحال، شرع يستأثر بخياله هاجس الفراغ المؤلم، الذي بدأ يستشعره في كفه كما لو أن الوشم سلبها حاسة اللمس، وأضحى بدلا منها هو من يتحرك، من يدب، من يخفق، من يئن، ويجعل النوم يطير من جفنيه.

ما عاد إلياس يطيق الخروج كما اعتاد. فترت همته وخبا حماسه للمدينة. ولوقف «الآآآآآه» التي فتكت بأعصابه، اهتدى لوضع يده في قفاز، ثم تفادى نهائيا استخدامها في المصافحة أو الاغتسال أو الأكل أو الكتابة.

القفاز كان أحمر، وهو لون اختاره بمحض المصادفة، لكن إلياس اكتشف بأن له مفعولا مهدئا على الوشم، الذي كان يخرس ويستكين مثل كلب شرس هده التعب ونام.

توجب على إلياس أن يرحل من مراكش منذ أسبوع، خصوصاً بعد سفر رفيقيه روني وماكسويل، لكن ثقلا ما، سلسلة عقدت بروحه، حالت دون ذلك. وبغاية التسرية قليلا عن نفسه الغائصة في الكآبة، خرج للقيام بجولة قصيرة، وفي غضون سيره، عاد الأنين ليطرق مسامعه، فتقدم بكامل إرادته في اتجاه مصدر الأنين، ليجد فضوله يتطلع من فوق روس جمع من الخلق كانوا متشابكي الأجساد مثل ورود في مزهرية، ومن وسطهم ناداه باسمه قزم ملثم المحيا لا تظهر منه سوى عينيه التي زحف عليهما بياض العمى.

اقترب منه إلياس بحذر، فمد عندئذ القزم يده وصافحه بحرارة، لينفض عقب ذلك في رمشة عين كل من كان في الدائرة، وذابوا في شتى الاتجاهات.

لحظتها، أحس إلياس بأن رباط السلسة انفك وبأن الوشم انمحى تماما من باطن كفه. غير أنه، مبكرا في صباح النهار الموالي، وهو يركب الطائرة التي أقلته إلى لندن، لم يجرؤ إطلاقا على نزع القفاز الأحمر الذي يكبل يده!

«السند»: تستضيء هذه الحكاية من مذكرات الرحلة إلى مراكش، المعنونة بـ «أصوات مراكش» للكاتب النمساوي إلياس كانيتي ( 1905 - 1994 ). ففي سنة 1953، قام إلياس برفقة أصدقاء إنجليز كانوا يصورون فيلما عن المغرب، بزيارة إلى مراكش. وفي العام 1958، ألف كتابه وسجل بين سطوره عبق تلك الرحلة على شكل فصول وجيزة تستعيد الملاحظات واللقاءات والعواطف والنبرات والتأملات الفلسفية. كما تستفيد حبكة الحكاية من «حل المربوط من تلبيس الكف بالخاتم السليماني» كما جاءت في مؤلف الإمام الغزالي. ولتعميم الإفادة في الإشارتين، انظر بالعربية: إلياس كانيتي، أصوات مراكش، تر: حسونة المصباحي، دار توبقال، ط1، 1988/ وأبو حامد الغزالي، المندل والخاتم السليماني والعلم الروحاني، تحقيق عبدالفتاح السيد الطوخي، المكتبة الثقافية ببيروت (من دون ذكر للتاريخ أو الطبعة).
----------------------------
* قاص من المغرب.

----------------------------------------

شَفى اللَهُ أَكبادَ المُحِبّينَ مِن جَوى
وَكَفَّ لِسانَ الدَمعِ عَنهُم فَكَم وَشى
شَقوا بِالهَوى العذرِيِّ لَو سَعِدوا بِهِ
وَماتوا وَلَو داواهُم الوَصل عَيَّشا
شُغِفتُ بِمَن يحكي الغَزالَ إِذا رَنا
وَيَحكي قَضيبَ الخَيزران إِذا مَشى
شُوَيدنُ أُنسٍ صادَ قَلبي بِلَحظِهِ
وَطاووسُ حُسنٍ في فُؤادي عَشَّشا
شَرَعتُ بِقَلبي الصَبرَ عَن حرِّ وَجهِهِ
فَما هُوَ إِلّا أَن أَراهُ فَأدهَشا
شَديد القُوى وَالصَبر كُنتُ فَهَدَّني
كَفى حزنًا أَن يَصرَعَ الأَسَدُ الرَشا

الحصري القيرواني

 

أنيس الرافعي*