حقيقة العلاقة بين الأديب الإسباني فدريكو غارثيا لوركا والمستشرق إميليو غارثيا غوميث

حقيقة العلاقة بين الأديب الإسباني فدريكو غارثيا لوركا والمستشرق إميليو غارثيا غوميث

  • مما لا شك فيه ان لوركا قد اطلع على كتاب «قصائد عربية أندلسية» للمستشرق غارثيا غوميث، إلا أنه لم يعترف بأثر غارثيا غوميث عليه.
  • اتجاه لوركا المنحاز للعرب، لا يتفق مع دراسات غارثيا غوميث الذي كان يطمح الى الحياد وعدم الانجرار الى التحيز العاطفي نحو العرب.
  • يشير غارثيا غوميث إلى تأثير الأدب العربي في بعض الصور في شعر لوركا، ويضرب لذلك بعض الامثال، منها عادة لقاء الحبيب بالحبيبة ليلاً.
  • رافائيل ألبرتي: قرأتُ للكثير من الفرنسيين والإسبان المهتمين في مجال الدراسات الأندلسية، وأشعر بالمتعة عند الاطلاع على هذه البحوث.

لا تزال مسألة العلاقة بين الأديب الإسباني فدريكو غارثيا لوركا (1898 - 1936) والمستشرق إميليو غارثيا غوميث (1905 - 1995) غامضة لدى الكثيرين، ولكون هذه العلاقة مهمة من نواح عديدة، لعل أهمها ان المستشرق غارثيا غوميث يمثل حلقة وصل بين الشاعر الإسباني والأدب العربي، إذ ترجم العديد من النصوص الشعرية من العربية إلى الإسبانية في حياة لوركا، لكن لوركا على الرغم من انه كان صديقًا شخصيًا لغارثيا غوميث، لم يصرح على الإطلاق بأثر كتابات غارثيا غوميث فيه.

يُعد فدريكو غارثيا لوركا من أبرز أدباء إسبانيا في القرن العشرين، وهو أحد أهم شعراء جيل الـ 27 (مصطلح يطلق على مجموعة الأدباء الذين اجتمعوا في مدينة أشبيلة جنوب إسبانيا عام 1997)، جيل ألبرتي وأليكسندره وداماسو ألونسو. وكان منذ صغره يعتز بمدينته غرناطة، وبالتراث الاندلسي، ويبدي اعتزازًا أشد بأبي عبدالله الصغير آخر ملوك غرناطة. وبعد إكمال دراسته الأولية في غرناطة انتقل عام 1918 للدراسة في مدريد، ثم عاد ليواصل دراسته في جامعة غرناطة، حيث حصل على الليسانس بالحقوق. وفي عام 1929 غادر إلى نيويورك، حيث قضى عاما كاملا هناك، ولشدة اعتزازه بأصله الغرناطي، كان يقول للعائلة التي سكن معها بأنه سليل عائلة عربية، وكان من المعجبين بالأدب العربي وبالشعراء العرب. كتب لوركا الكثير من الدواوين والمسرحيات، وتـُرجمت أعماله إلى العديد من اللغات، ومنها اللغة العربية، لعل أبرز أعماله، قصائد غجرية، وشاعر في نيويورك، وديوان تماريت، والاسكافية العجيبة. وما ان نشبت الحرب الاهلية الإسبانية عام 1936، حتى القي القبض عليه في مدينته غرناطة، ونفذ فيه حكم الإعدام فجر يوم 18 اغسطس (آب)، وهو لايزال في الثامنة والثلاثين من عمره.

أما المستشرق إميليو غارثيا غوميث (1905 ـ1995 ) فهو شيخ المستشرقين الإسبان دون منازع، شغل منصب استاذية اللغة العربية في جامعة غرناطة من عام 1930 حتى عام 1935، ومدير مدرسة الدراسات العربية المعروفة بمدرسة جابيث منذ عام 1932. وفي هذه المدينة، غرناطة، توطدت علاقته مع الاديب فدريكو غارثيا لوركا (1898 - 1936) وأخيه فرانثيسكو غارثيا لوركا (1902 - 1976). وفي عام 1935 انتقل غارثيا غوميث للعمل في الجامعة المركزية بالعاصمة مدريد، وبعدها تسلم عدة مناصب مهمة في الدولة، فعمل سفيرا لبلاده في العراق ولبنان وتركيا، وكتب الكثير من المؤلفات، وترجم إلى اللغة الإسبانية عشرات الكتب حول الأدب والتاريخ العربيين، فدرس وترجم نصوصا لابن زمرك، وابن الزقـّاق، وشعر قصر الحمراء، وترجم كتاب طوق الحمامة لابن حزم، وأزجال ابن قزمان، وترجم أيضا كتاب الايام لطه حسين، وحقق كتبا عديدة منها كتاب رايات المـُبـَرّزين، لابن سعيد (ترجمة وتحقيق)، ونشر مواضيع حول الموشحات والخرجة، لكن كتابه الذي حاز على شهرة كبيرة بين أوساط الأدباء والمثقفين، ومنهم شعراء جيل الـ 27 في إسبانيا، هو «قصائد عربية أندلسية»، وفيه ترجم قصائد لشعراء عديدين من الأندلس، فنال نجاجا منقطع النظير، وطبع مرات عديدة، بسبب أهمية موضوعه وأسلوبه الرشيق الأخاذ.

وعلى الرغم من أن المستشرق غارثيا غوميث طبع كتابه «قصائد عربية أندلسية»، في حياة لوركا، ولكن مما يثير الدهشة والاستغراب هو ان لوركا لم يذكر في مقابلاته أو رسائله أو كتبه اسم هذا الكتاب على الاطلاق، بل لم يشر لوركا إلى علاقته الشخصية مع المستشرق غارثيا غوميث، على الرغم من ان الأخير كان استاذا للعربية في جامعة غرناطة، وهو الموضوع الذي يثير اهتمام لوركا، كما أن غارثيا غوميث كان صديقا لعائلة لوركا، ويزورهم في المنزل، ويلتقي مع لوركا في الكثير من المجالس في غرناطة.

وإذا كان لوركا قد تجنب ذكر علاقته مع المستشرق غارثيا غوميث، فمن حسن الحظ ان الأخير تكلم حول هذه العلاقة.

أول لقاء بين الاثنين

ذكر المستشرق غارثيا غوميث، في مقال نشره في صحيفة (أ. ب. ث.) الإسبانية، عام 1982، انه سمع باسم الشاعر فدريكو غارثيا لوركا لأول مرة عام 1920، ويحدثنا عن هذا فيقول:

«لأول مرة سمعت باسم غارثيا لوركا في حدود عام 1919 أو 1920، في مدرسة سان انتون الرهبانية، (بالعاصمة الإسبانية مدريد) وكنت حينئذ طالبا في المرحلة الثانوية، وذلك عندما ذكر الراهب أتاولفو ويرتاس الذي كان قادما للتو من غرناطة اسم لوركا، وكان معجبا بتلميذه الاندلسي».

أما أول لقاء بين الاثنين فقد جرى بعد ذلك بعشر سنوات. يواصل المستشرق غارثيا غوميث حديثه فيقول:

«لم أتعرّف على لوركا شخصيا إلا بعد عشر سنوات من معرفة اسمه، وكان ذلك في مدريد، وكنت حينها قد تم تعييني استاذًا في غرناطة، أو قبل ذلك بقليل. رأيته عندما كان يحضر مع فرقة (لا بارّاكا) المسرحية، ثم تحدثنا مرات عديدة ، وأحيانا لوحدنا، في مقهى ليون قرب البريد. وفي احد الايام اتفقنا على كتابة (رومانثة موريسكية) ولكن لم يتعد ان يكون ذلك إلا ان يكون مجرد كلام فقط، وفي احدى المرات صادفته عندما كنت في طريقي إلى غرناطة بالقطار ليلا، وكنا في غرفة قاطرة من الدرجة الاولى. كانت صالة القاطرة فارغة تقريبًا... نمنا كما ينام الفئران، لقد كانت أياما سعيدة، حتى اجتزنا مدينة موريدا (القريبة من غرناطة) وبعدها بدأنا نتبادل الحديث بسرعة كي نعوّض الوقت الذي ضاع.

في تلك الفترة كان فدريكو يقضي وقته في غرناطة، ولكن لم أشاهده يتجوّل في المدينة كثيرا ولا نعرف إلى أين يذهب. لم أره أبدا في منزل السيد مانويل دي فايا، لأن علاقتهما كانت آنذاك فاترة».

آخر لقاء بين لوركا وغارثيا غوميث

كما هو معروف فإن لوركا قد ألقي القبض عليه، عند ذهابه إلى غرناطة، في بداية الحرب الأهلية الإسبانية، عام 1936، واقتيد إلى بلدة قريبة من غرناطة، وهناك نفذ فيه حكم الإعدام في اليوم التالي من إلقاء القبض عليه، على الأرجح، ودفن في المكان نفسه، ولا يعرف حتى الآن مكان قبره على الرغم من الدعوات العديدة للبحث عنه، وبالفعل بذلت جهود كبيرة مؤخرا للعثور على جثته، ولكن دون جدوى.

يذكر المستشرق غارثيا غوميث ان اخر لقاء له مع لوركا، قبل شهر من اعدامه، فيقول:

«آخر مرة رأيت فيها غارثيا لوركا في مدريد، لا أتذكّر بالضبط، ولكنه إذا لم يكن يوما قبل 18 يوليو (تموز) عام 1936، فإنه السابق له بيوم أو يومين، قبل سفره إلى غرناطة. كنا مدعوين لتناول الشاي في منزل «آديلايدا» زوجة «أندريس سكوبيا» الاولى، وكانت آنذاك قد انفصلت عن زوجها. امرأة رائعة الجمال متجبرة، ذات شخصية قوية، وتدعى آنذاك من قبل مجموعتها «ذات الجمال الوحشي»، بالنسبة لـ«آديلايدا»، المتوفية قبل فترة قصيرة، ووافاها الأجل عن عمر طويل، فلم أعد التقي بها، أما مع فدريكو، فمع كل الاسف لن التقي به هو الآخر، بعد ذلك، على الاطلاق».

ثم تحدث المستشرق غوميث عن علاقته مع عائلة لوركا، اذ كان صديقا أيضا لأخ لوركا، فرانثيسكو، ويلتقي به وبمجموعته من الاصدقاء في أحد مقاهي غرناطة، يقول:

«كنتُ على علاقة وثيقة مع أخ لوركا، فرانثيسكو، المدعو من قبل الجميع (باكيتو)، انه شخصية رائعة، لكنه متذبذب، فما أن تعتريه حالة جديّة حتى يكرر عبارة من بيت شعر يتكرر بيننا، فيقول: «لنترك منطقة غابينيت ، ونذهب للتدخين»، وهي عبارة متكررة بين تلك المجموعة من الاصدقاء قبل انضمامي اليهم».

هل أثر غارثيا غوميث في غارثيا لوركا؟

كما هو معروف، فإن لوركا كان مهتمًا جدا بالتراث الأندلسي، ومتحمسًا لتاريخ غرناطة العربية، وقال هو نفسه بأنه قرأ قصائد عربية وأعجب بها، في كتاب «قصائد آسيوية» التي ترجمها كوندي دي نورونيا (1760 - 1815) وفي هذا الكتاب ترجم كوندي الكثير من القصائد العربية والفارسية والتركية، عن اللاتينية والإنجليزية، وطبع الكتاب في باريس عام 1833، بعد وفاة مؤلفه يخمسة عشر عاما.

والغريب أن غارثيا غوميث ترجم أيضا قصائد اندلسية، في نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينيات، أي في حياة لوركا، لكن لوركا لم يشر اليها على الاطلاق، وتعمّد تجاهلها، مع انها تخص الشعر الأندلسي، وهو الموضوع الذي يوليه لوركا اهتماما خاصا.

وفي رأي غارثيا غوميث أن لوركا تعرّف على كتاب كوندي دي نورونيا (1760 - 1815) حول الشعر الاسيوي (العربي والفارسي والتركي) من خلال ما كتبه هو عن هذا الموضوع، وكتب يتساءل:

«هل وصل كتاب قصائد آسيوية لكوندي دي نورونيا إلى لوركا مباشرة؟ أظن لا. بل وصل اليه من خلال قراءته لمقدمة كتابي قصائد عربية أندلسية... مما لا شك فيه أن لوركا عرف كتابي قصائد عربية اندلسية، لأن الكل قرأوا هذا الكتاب، فضلا عن هذا فإنه تكلم معي حول كتابي هذا عدة مرات. أما مسألة أن لوركا لا يريد أن يذكر اسم كتابي، ويرى أن من المناسب أن يكتفي بذكر كتاب كوندي دي نورونيا، فهذا شأنه، ثم ان هذا من حقه».

في عام 1984، سألت استاذي المرحوم المستشرق خوسيه ماريا فورنياس (1926 - 2003) ، وكان في حينها يشغل منصب رئيس قسم اللغة العربية في جامعة غرناطة، وهو أحد طلاب غارثيا غوميث، إذ سبق له أن درس على يده عندما كان غارثيا غوميث استاذا في جامعة مدريد المركزية، سألته عن رأي استاذه فيما إذا كان يظن بأن الشاعر لوركا قد تأثر بترجماته للشعر العربي، فقال لي «سألت استاذي غارثيا غوميث السؤال نفسه، فكان جوابه هو انه، أي غارثيا غوميث، تكلم مع لوركا حول هذا الموضوع، وذكر له بأن ترجماته للشعر الاندلسي قد أثـّرت في شعره، اي في شعر لوركا، لكن لوركا أنكر ذلك، وأصرّ على ان ترجمات غارثيا غوميث لم تؤثر في شعره». ما نشره غارثيا غوميث من ترجمات شعرية في حياة لوركا نشر غارثيا غوميث في «مجلة الغرب» الصادرة في مدريد، وهي مجلة نالت اهتمام جيل الـ 27، ومنهم لوركا، عددا من المواضيع التي تخص الادب العربي، وضمّنها ترجمات للشعر العربي، وهي:

1- في عام 1928 نشر موضوعا مطولا بعنوان «قصائد عربية أندلسية» في «مجلة الغرب»، الصادرة في مدريد، عدد 21، واحتوى المقال على الكثير من القصائد العربية مترجمة إلى الإسبانية:

GARCIA GOMEZ, Emilio: «Poemas arabigoandaluces», Revista de Occidente, XXI, (1928), pp. 177-203.

2 - في عام 1930 نشر المقال السابق موسعا في كتاب بالاسم نفسه «قصائد عربية اندلسية»:

Poemas arabigoandaluces, 1ed., 1930.

ويعد من أشهر ترجمات غارثيا غوميث للشعر الاندلسي إلى اللغة الإسبانية.

3- في عام 1933 نشر موضوعا بعنوان «الشاعر ابن خفاجة من جزيرة شقر» في «مجلة الغرب»، المجلد 40، وضمّنه بعض قصائد الشاعرالأندلسي بالإسبانية:

«El poeta Ibn Jafaya de Alcira», Revista de Occidente, XL, (1933), pp. 341-350.

4 - وفي عام 1934، نشر موضوع «طوق الحمامة» وهي مقالة حول كتاب طوق الحمامة لابن حزم وضمّنها عدة قصائد مترجمة للإسبانية:

«Collar de Palomas», Revista de Occidente, Madrid, XLVI, (1934), pp. 152-161.

العلاقة الشخصية بين لوركا وغارثيا غوميث

يبدو ان العلاقة بين لوركا وغارثيا غوميث لم تكن على ما يرام، وإلا لماذا لا يعترف أو حتى لا يذكر ترجمات غارثيا غوميث للشعر العربي، في الوقت الذي يعلن صراحة انه معجب بالشعر العربي، ويهتم به كما هو واضح مثلا عندما أشاد بترجمات كوندي دي نورونيا.

من الممكن ان يكون طبع غارثيا غوميث الحاد له أثر في ذلك، إذ أن لوركا، على الرغم من تحدره من عائلة غنية، لكنه بسيط في تعامله، وهذا ما جعل لوركا لا يميل إلى طبع غارثيا غوميث المعتد بنفسه، وكما هو واضح ان لوركا شديد الاعتزاز بتراث غرناطة والتاريخ الاندلسي، وكان متحمسا جدا لهما، بينما كان غارثيا غوميث مؤرخا ومترجما للتراث العربي في الاندلس، اي ان الاثنين يلتقيان ويفترقان في آن واحد. ولا يعرف عن غارثيا غوميث تحمسه للحضارة العربية، وانما كان يصدر الاحكام كمؤرخ محايد فقط، بينما كان لوركا متحمسًا للتراث الأندلسي، ولكن دون أن يتعمق بالتاريخ العربي. ومن الممكن ان غارثيا غوميث، المتخصص بالتاريخ والأدب العربيين، كان يريد من لوركا نظرة محايدة وغير متحيزة نحو هذا التراث، وفي المقابل كان لوركا الذي وصل في بعض الاحيان إلى الادعاء بأنه سليل عائلة عربية في غرناطة، وكان يصرح علنا بحبه للملك ابي عبدالله الصغير ملك غرناطة، كان يريد من غارثيا غوميث ان يكون متحمسا للتراث العربي والتاريخ الاندلسي.

من هنا فإن عدم اشارة غارثيا لوركا إلى كتاب (قصائد عربية أندلسية) الذي نشره غارثيا غوميث يدل على ان هناك شيئا مخفيا بين الاثنين، وعلى الرغم من ان المستشرق غارثيا غوميث كان يزور عائلة لوركا، وله علاقة جيدة مع أخ لوركا ، فرانثيسكو، ولكن باعتراف غارثيا غوميث فإن لوركا كان يسير على هواه، ولم يلتق به كثيرا.

ومن الطريف ان اخت لوركا (ايزابيل) كانت طالية لدى غارثيا غوميث ودرست على يده اللغة العربية بجامعة غرناطة، وهي الاخرى لا تبدي أي حماس نحو غارثيا غوميث، على الرغم من ان غارثيا غوميث شخصية معروفة جدا في الاوساط الثقافية، وكان مدرسا لها في درس اللغة العربية في جامعة غرناطة، وعلى الرغم من انه كان يزورهم في المنزل. تقول ايزابيل غارثيا لوركا في مذكراتها المعروفة باسم «ذكرياتي»:

« كان غارثيا غوميث صديق أخي باكو، وكان يزورنا في المنزل، في الأحيان التي يعود فيها أخي أيام العطل، ومن الممكن انه كان يريد ان يقيم علاقة معي ولكني كنت أتوارى عنه».

غوميث يكتب عن قصة ديوان تماريت للوركا

في عام 1934 كتب لوركا ديوانا باسم «ديوان تماريت»، وذلك تكريما للشعراء العرب، بعد اطلاعه على أشعارهم من خلال كتاب قصائد آسيوية لكوندي دي نورونيا، وكانت جامعة غرناطة قد قررت طبع هذا الديوان، مع مقدمة للمستشرق غارثيا غوميث، لكن الاحداث المضطربة التي مرت بها إسبانيا والتي ادت بعد ذلك إلى الحرب الاهلية (1936 - 1939) وأودت بحياة لوركا عام 1936، أدت إلى تعطـّل المشروع. وفي عام 1940 طبع الكتاب في الارجنتين.

كتب غارثيا غوميث في كتابه «الكرسي العربي» مقالا، وقد ألحق هذا المقال ايضا في ديوان تماريت للوركا كي يكون مقدمة لهذا الديوان. وفي هذه المقدمة كتب غوميث قصة هذا الديوان وسبب تاليفه، وفيه ذكر انه كان مجتمعا في احدى المرات، مع عدد من الاصدقاء في غرناطة، ومنهم لوركا، ودار الحديث التالي:

«في الصالون الرومانسي في نادي دي لوس تيروس ومطعم لوس مانويليس، ذي الستائر البيضاء، كان فدريكو غارثيا لوركا قد قرأ على مجموعة من اصدقائه، تراجيديته الجديدة «يرما», وبعدها اجتمعنا للعشاء في أحد المطاعم الشعبية...

ومع التغير المستمر للتخطيطات الأدبية، أبديت للوركا، في احدى المرات، نيـّتي في ان أكتب كتابا عن شخصية عربية لامعة وهو الشاعر ابن زمرك الذي كُتبت قصائدة على أوسع لوحة معروفة في العالم، في قصر الحمراء، حيث تغطي قصائدة جدران القصر وتزين القاعات وتحيط بصحن السباع الواثبة.

كان لوركا قد اخبرنا في حينها بأنه قد ألف مجموعة من القصائد والشعر الغزلي، ويقصد بذلك «ديوان» (ديوان تماريت) وان هذا هو اسم لاحدى حدائق عائلته، وفي هذه الحديقة كتب الكثير من قصائد هذا الديوان، وسوف يطلق عليه اسم «تماريت» احياء لذكرى شعراء غرناطة القدامى».

غارثيا غوميث كتب عن الحوار الذي جرى في تلك الجلسة، حول ديوان تماريت، حيث ابدى الجميع استعدادهم للتعاون مع لوركا من أجل طبعه. يقول المستشرق غارثيا غوميث:

«لقد طلب انتونيو غاييغو بورين، باعتباره عميد كلية الآداب، من لوركا المخطوط، وما كان من لوركا إلا ان يقبل هذه المبادرة بكل سرور. وعرض فرانثيسكو برييتو على لوركا ان يقوم بتصميم غلاف الديوان، أما أنا فقد أبديت استعدادي لان أكتب هذه السطور (المقدمة)».

راي المستشرق غارثيا غوميث حول أثر الشعر العربي في ديوان تماريت لغارثيا لوركا يشير غارثيا غوميث إلى تأثير الادب العربي في بعض الصور في شعر لوركا، ويضرب لذلك بعض الامثال، منها عادة لقاء الحبيب بالحبيبة ليلا، يقول غارثيا غوميث:

«في مجال الزيارة الليلية نلحظ المثال الاتي عند لوركا:

الليل لا يريد ان يأتي
كي لا تزوريني انتِ
ولا أنا أذهب اليك.

أو في استعمال بعض الاستعارات المبالغ بها، حيث كتب لوركا:

الظل الخفيف القادم بخطوات فيل
وهو يدفع الأغصان والجذوع.

من جهة اخرى أشار غارثيا غوميث إلى احتمال تأثير الادب الفارسي أيضا، يقول:

وفي احيان اخرى تتلآلآ الأشعار بألوان صور ايرانية متعددة، كما هوالحال عندما يكتب لوركا:

ألف جواد فارسي كانوا نياما
في الساحة مع قمر جبهتك.

ولهجة حب تـُذكّرنا بالحب العفيف الناعم البدوي، كما هو في قوله:

اتركني في اشتياق لكواكب مظلمة
ولكن لا تـّظهري لي خصرك.

بين ألبرتي ولوركا وغارثيا غوميث:

كان الشاعر رافائيل ألبرتي صديقا لفدريكو غارثيا لوركا وللمستشرق إميليو غارثيا غوميث، وهو يرى ان الأخير كان له أثر عليه وعلى شعر لوركا، ، وقد جاء في مقابلة معه قوله: «قرأتُ للكثير من الفرنسيين والإسبان المهتمين في مجال الدراسات الاندلسية، وأشعر بالمتعة عند الاطلاع على هذه البحوث، وربما كان غارثيا غوميث أكثرهم غزارة، انـّه صديقي وأعرفه جيدا.

في عام 1928 أو عام 1929، نشر للمرة الاولى كتابا باسم قصائد عربية أندلسية، وللكتاب تأثير كبير على لوركا، وعليّ قبل كل شيء. لوركا لم يصرّح بذلك، لكني أعرف ذلك منه مباشرة. ويمكن للمرء أن يلاحظ أيضا وبسهولة، تأثيرا واضحا لترجمة تلك القصائد العربية على شعري».

علاقة لوركا مع المستعرب نابارّو

من بين العلاقات الغريبة التي لم يعرها مؤرخو الادب اهتماما كبيرا، علاقة لوركا مع المستعرب خوسيه نابارّو برادو (1893 - 1971). ونابارّو هذا كان استاذا للغة العربية في جامعة غرناطة من 1920 حتى عام 1930، ثم انتقل للعمل بعد ذلك في مدرسة الدراسات العربية، المعروفة بأسم مدرسة جابيث، في غرناطة، وكان هو الآخر صديقا لغارثيا غوميث، وتعاون مع لوركا في اصدار مجلة «غايو»، وحضر العديد من الاجتماعات الثقافية التي كانت تعقد في غرناطة مع لوركا، وشارك فيها مع صديقه مشاركة فعالة.

ومن الغريب ان الباحثين لم يتطرقوا إلى أثر هذا المستعرب في لوركا، مع انه كان صديقا مقربا له، كما ان الشاعر الغرناطي كان يكن له احتراما بالغا. وقد انتبه إلى هذه العلاقة الباحث فرناندو أغريدا بورييو عام 2003، عندما نشر في مجلة المعهد المصري الصادرة في مدريد، موضوعا مهما نبـّه فيه إلى ضرورة بحث العلاقة بين الاثنين، نابارّو ولوركا. ولا يُعرف الكثير عن هذه العلاقة، خاصة أن نابارّو قد تأثـّر كثيرا لاعدام صديقه، ولهذا كان يرفض استعادة ذكريات قديمة مع صديق حميم له مثل لوركا. وكان يرفض بشكل قاطع اجراء مقابلات للحديث عن لوركا، وفضل السكوت. من جهة اخرى فقد كان نابارّو احد أبرز المعجبين بأدب لوركا، ومما كتبه حول مسرحية لوركا في الثلاثينيات «ماريانا بينيدا»:

«ان مسرحية ماريانا بينيدا، التي كتبها لوركا مسرحية رائعة، تلك المسرحية التي احيتها بشكل أخّاذ الممثلة مارغاريتا خورغي... إن من حق غرناطة ان تفخر بشاعر أصيل مثل لوركا، بكل معنى الكلمة، وبشكل تام».

وحسب الباحث الايرلندي، الإسباني الجنسية، ايان جيبسون المتخصص في غارثيا لوركا فانه «من الصعب تقييم العلاقة بين (لوركا) و (نابارّو برادو)، فبعد الحرب الاهلية، أخذ (نابارّو) يتجه شيئا فشيئا إلى الانعزال، بل في سنوات الستينيات بدأ يمتنع عن الكلام مع الباحثين حول (لوركا). واذا ما افترضنا بانه كان لدى (نابارّو) رسائل من لوركا، وهو احتمال كبير، فإنه لم يقم بنشرها. ويمكننا التعرّف على مدى الصداقة القوية التي كانت تربطهما حينما قام (لوركا) باهداء واحدة من قصائده المؤثرة في ديوانه (قصائد غجرية) ، وهي قصيدة (صخرة سوداء)، إلى صديقه نابارّو برادو».

أخيرا فان علاقة الشاعر فدريكو غارثيا لوركا مع المستشرق اميليو غارثيا غوميث علاقة متينة ثقافيا وعائليا، ومما لا شك فيه ان لوركا قد اطلع على كتاب «قصائد عربية أندلسية» للمستشرق غارثيا غوميث، وتأثر به، إلا ان السؤال المطروح هو لماذا لم يعترف لوركا بأثر غارثيا غوميث عليه؟.

نرجح ان طبع لوركا الشخصي لم يتفق مع طبع غارثيا غوميث، وإضافة إلى ذلك فإن اتجاه لوركا المنحاز للعرب، لا يتفق مع دراسات غارثيا غوميث الذي كان يطمح إلى الحياد وعدم الانجرار إلى التحيز العاطفي نحو العرب.
---------------------------------
* جامعة أوتونوما، مدريد، إسبانيا.

-------------------------------------------

يا ليلُ الصبُّ متى غدُه
أقيامُ السَّاعةِ مَوْعِدُهُ
رقدَ السُّمَّارُ فأَرَّقه
أسفٌ للبيْنِ يردِّدهُ
فبكاهُ النجمُ ورقَّ له
ممّا يرعاه ويرْصُدهُ
كلِفٌ بغزالٍ ذِي هَيَفٍ
خوفُ الواشين يشرّدهُ
نصَبتْ عينايَ له شرَكًا
في النّومِ فعزَّ تصيُّدهُ
وكفى عجبًا أَنِّي قنصٌ
للسِّرب سبانِي أغْيَدهُ
صنمٌ للفتنةٍ منتصبٌ
أهواهُ ولا أتعبَّدُهُ

الحصري القيرواني

 

صبيح صادق*