قهوة

قهوة

يقدم فنجان القهوة ساخناً، إن كان بارداً فلأنه لم يقدم لطالبه زبون المقهى في الحال، أو أن طابخ القهوة سكبها ولم يقدمها النادل في الوقت المناسب، أو أن يكون الزبون قد طلب القهوة وقدمت إليه ونسي أن يتناولها ملتهياً بقراءة جريدة أو في حديث مع أحدهم، يكتشف بعد وقت، ويكون الفنجان قد أصبح بارداً،
أن فنجاناً ينتظر أن يأخذه بإصبعيه ويسلمه لشفتيه ليرتشف القهوة.. وتكون باردة.. هنا يدور حوار ساخن بين الزبون والنادل، متهماً إياه ببرودة قهوته ويكون النادل بريئاً.

فنجان المنزل ليس كفنجان المقهى، لن أذكر الفارق بينهما، مع أني أعلم جيداً أن قهوة المقهى تختلف عن قهوة المنزل، وكلتيهما تقدمان إما ساخنة أو باردة.. حسب الأجواء في المنزل.. مراراً يندلق الفنجان على طاولة المقهى، فيسيل دمه الأسود على موجودات الطاولة من صحف وتلفون وثياب الجالسين حول الطاولة، يأتي النادل بسرعة، ينظف بهدوء ويعيد الطاولة أنظف مما كانت قبل طوفان الفنجان، أما إذا اندلق الفنجان في المنزل، فيا ساتر، الصراخ والتأنيب وشتائم سيدة المنزل، تملأ البيت الذي يتحول إلى جحيم لدقائق طويلة، اعتاد عليه البيت وساكنوه والسبب هو الفنجان.

للقهوة فلسفتها، عار على الجامعات في العالم ألا تخصص كلية خاصة للقهوة وتاريخها وفوائدها الإنسانية ومضارها وضرورتها التي تحوّل الإنسان إنساناً مجتمعياً ثرثاراً محاوراً متفلسفاً مرتكزاً على قاعدة التسامح والديمقراطية وتبادل الأفكار والأخذ بها أو رفضها.. يكون عندئذ قد بدأ الحوار في المكان الذي أوجده فنجان القهوة وهو المقهى.. سأعود إليها.. لكني الآن سأعود إلى البيت، وهو أن المشكلات التي تقع فيه لا تأتي فقط من اندلاق القهوة على الشرشف الأبيض المكوي النظيف، أو على ثوب الست أو على قميص السيّد، فالقهوة كما قلت لها حسناتها ولها أيضاً سيئات، الركوة هي سيدة المطبخ والفنجان هو السيّد، هما لا يتعاركان يومياً.. مراراً يسود هدوء وسلام.

أما في المقهى إذا اندلق فنجان القهوة، فالنادل ينظف ويأتي بفنجان آخر، أما في المنزل إذا اصطدم الفنجان بيد أحد الجالسين ووقع وسال ماؤه، فلا فنجان بعده.

القهوة أوجدت المقهى.. والمقهى أوجدت بدورها مجتمعاً خاصاً.. فيها يأتي السياسي واللص والفنان والمتطفل على الفن والشاعر أو الذي يصف الأحرف والكلمات صفاً صفاً، والصحفي المتفلسف والعاطل عن العمل والعاطل.. وبالاختصار.. لا اختصار بل تكملة حتى النهاية، والنهاية تأتي عندما تنتهي البداية، وكما يقال لابد من بدء ولابد من نهاية.. هكذا هي الحياة، الفنجان الممتلئ بالقهوة يفرغ.. ينتهي ماؤه، كما ينتهي ماء كل شارب قهوة أو شارب أي شيء. أعود إلى كلية القهوة وأجد أن البحث في تاريخ القهوة والأرض التي ولدت فيها، والشعب الذي اكتشفها، وكيف شربها في ذلك الوقت.. والذي يضعني في حيرة هو اسمها.. من سماها «قهوة» ومن شربها للمرة الأولى، قبل هذا كيف طبخت؟ وبداية تاريخ تلك الحبة التي غزت العالم كله وبنيت لها الأبنية ووضعت لها الطاولات والمقاعد، وأصبح لها روادها المداومون، لا يبدأون نهارهم إلا بمرورهم بالمقهى.

في مدريد عدة مقاه مشهورة، مقهى «لو كومرس» ومقهى «خيخون»، هذه الثانية، قُرّ يوماً أن تباع وتتحول إلى مؤسسة تجارية، اعترض روادها وكتبوا وتظاهروا، وروادها هم فنانون وشعراء ورجال ونساء فكر، وقد نجحوا في إبعاد فكرة هدم المقهى، وبقيت تحيا بحوارات الفنانين والشعراء وهمساتهم.

في باريس مقاه دخلت في تاريخ المدينة منذ أواخر القرن التاسع عشر، أذكر منها «LES DEUX MAGOTS» وجارتها «LE FLORE»، حيث ولدت حركات حديثة في الشعر والفن والفلسفة، والزعيم كان جان بول سارتر وطاولته وكرسيه مازال صاحب «الفلور» يحتفظ بهما، وفي الانتقال إلى حي «مونارناس» فكان ملتقى للرسامين والكتّاب والشعراء في مقهى «السلكت» و«الكويول» و«الدوم»، أذكر منهم همنجواي وبيكاسو وغيرهما.

في بيروت، كان هناك مقهى «الحاج داوود»، لعن الله الحرب ومسببيها الذين جعلوا من تلك الأمكنة الجميلة تراباً ورماداً، ألا يحق لهذه الحبة، حبة القهوة أن تكون لها كلية في جامعة يُدرّس فيها تاريخها وكيف خلقت، وكيف أنها أوجدت مجتمعاً خاصاً.. وأيضا كيف أنها أوجدت أو حولت إنساناً عادياً إلى فيلسوف أو شاعر أو فنان أو كسول عاطل؟

إن أصبح لحبة القهوة كلية، أتمنى أن يذكر اسم الذي أتى بالفكرة، وهو «أنا».. أتدارك فأقول إن الفكرة هي التي أتت إليّ وجعلتني أتفوه بها.. الفكرة تأتي إليك وأنت تنصاع إليها، كما قلت كل شيء له نهاية، اليوم نهايته الغد، وهكذا الأيام تطوي الأيام.. تبدأ ثم تنتهي ثم تعود ثم تختفي إلى أن يسيل ماؤها وتنشف وتفرغ منه، والماء خالق لكل شيء.. فهو لا يروي فقط ولا يثمر الأزهار والأشجار ولا يغذي الأرض وينعشها، هو أيضا يحمل معه رسائل من السموات وقبلاً من غيومها وسحابها، تنزل وتلتصق بالأرض كالتصاق العاشق بالمعشوق، والأرض عطشى دائماً للماء، للحب، يولدها ثمراً حلواً وثمراً مراً.. إلى أن تأتي شمس حارقة تمتص ماء الأرض وتيبّس أشجارها. هكذا الطبيعة التي لا علم لنا متى وجدت، بينما لكل شيء بداية ثم نهاية، سوى الطبيعة، هي كانت، وستبقى دون بداية ودون نهاية.
---------------------------------
* فنان تشكيلي وكاتب من لبنان.

 

أمين الباشا*