التنويريون العرب قديما وحديثا سامح كريم

التنويريون العرب قديما وحديثا

لكي نتعرف علما التنويريين في تفكيرنا قديما وحديثا، علينا أن نتعرف أولا على معنى التنوير كحركة فكرية معروفة في أوربا في العصر الحديث.. ما هي مقدماتها ونتائجها وروادها؟ وهل كان في تفكيرنا في العصر القديم شبيه بهذه الحركة؟ وإذا وجدت فمتى بدأت؟ ومن هم روادها؟ ولماذا توقفت؟ وهل هناك ما يثبت أسبقيتها على التنوير الأوربي؟ والتنوير في تفكيرنا الحديث هل هو امتداد للعرب الأقدمين أم أنه مسايرة للتنوير الأوربي الحديث؟.

التنوير في معناه العام حركة فكرية تعتد بالعقل، وتعتمد عليه، وتقـرر أن وعي الإنسان هو العامل الحاسم، والشرط الأسـاسي في تقدم وازدهار مجتمعه، وأن ما يحدث للمجتمع من أضرار وشرور.. هو نتيجة منطقية للجهل بفهم الطبيعة الإنسانية.

وللتنوير عنـد الفيلسوف الألماني كـانط شعار هو: " تشجع وفكر بنفسك "، ومعناه فلسفيا هو: " تحرير الإنسان من عجزه عن إعمال العقل بغير مـرشد أو موجه، وأن هذا العجز مـردود إلى فقـدان الشجاعة بمعنى الجسارة الفكريـة، والعزم والتصميم على إعمال العقل ".

وإذا كـان عصر التنوير معروفا عند الأوربيين في القرن الثامن عشر فقد سبق ذلك بـدايات ومقـدمات لعلها بدأت بنهضة ثائرة وجـارفة في القرن الخامس عشر. أراد الناس بها أن يحطموا قيود العصور الوسطى. التي جنحت بـالإنسـان منهـم نحـو أن تعتقل قـدراتـه الإدراكية في صفحـات كتبهـا السـابقون بغير عقل. فجاءت النهضـة لتخـرج النـاس إلى رحـاب الكـون الفسيح ليواجهوا الـدنيا مـواجهة مبـاشرة. فكانت الكشوف الجغرافية في البحـر والبر، وكانـت جولات المناظير في السـدم والنجـوم، وكـان تغلغل الفكـر الفلسفي في خطايا العقل لـيرى حقيقة هذا العقل وكيف يعمل وما حدوده؟.

ثم جاء القرن السابع عشر الذي يسمونه في أوربا بعصر ديكارت والـديكارتيين ومعهم الصفوة الممتازة من الكتاب والصحفيين ممن يعتدون بالعقل وأحكامه. حتى إذا جـاء القرن الثـامن عشر كـان بعينه هو عصر التنوير الذي يشد الناس شدا ليدخلوا مع الديكارتيين والصفوة الممتازة ممن تعتـد بالعقل وتلتزم بأحكامه- فيكون على رأس هـذا العصر.. عصر التنوير فولتير وروسو وديدرو وليسنج وشيلر وكانط، وغيرهم من الفلاسفة والمفكـرين والكتاب الذين يكـونون حلقات هذه السلسلـة الذهبية التي صنعـت ما يسمى بالتنوير الأوربي في العصر الحديث.

وعلى ضـوء المعنى العام للتنوير، ومعناه الفلسفي وشعاره والتأريخ له يمكن القول بـأن الإنسان الـذي توصف أعماله بأنها تنويرية هـو ذلك الإنسان الـذي يستخـدم عقله دون مؤثر خـارجي أو بغير مرشـد أو موجـه.. فيما يقوم به من عمل. الفكرة تنبع منه، وهو المسئول عنها..

أساس التنوير في تفكيرنا القديم

قياسا على ذلك هل يمكن أن نتبين معنى التنوير في تفكيرنا القديم؟ هل يمكن تبين الاعتداد بالعقل الذي هـو أساس حركـة التنوير والاهتمام به منذ ظهور الإسلام؟ ما هي مكانة هذا العقل في الإسلام؟.

لقد بلغ تعظيم العقل وتقديره في الإسلام حدا أعتبر معه إحدى دعامتين يقوم عليهما هذا الدين وهما: العقل والعمل.فالإنسان وقد أتاه خالقه- عز وجل- عقلا به يفكر ويدبر، فيدرك ويعرف، ومن إدراكـه ومعرفته، يتحرك شعوره وانفعاله، ليرضى عن الشيء الطيب، وينفر من الشيء الخبيث.. فإذا هـو يمضي في طريق ما ارتضاه من عقائد ومبادئ يستمسك بها ويطبقها ويعمل على أسـاسها.. وهذا بعينـه هو العمل الذي يسبقه تفكير العقل.

قـد أجمل أئمة الإسلام ومفكـروه معنى قيام هـذا الدين على دعـامتي العقل والعمل في عبارة موجـزة: "الإيـمان اعتقاد وعمل. فهو اعتقـاد بالجنان، ونطق باللسان وأداء للأعمال والأركان ".

ولعلنا نجد تفسيرا لذلـك في البيئة الإسلامية الأولى سواء في توجيهات القرآن الكريم، أو في الأحاديث الشريفة.

هذه المكانة التي حظي بها العقل في القرآن جعلت علماء الإسلام ومفكريه يقرون بأن القرآن هو كتاب للعقل، وأنه دعوة صريحة لتحرير هذا العقل من عقاله. حيث يدعونا بعبارات تختلف في أسلوبها، وتتحد في معانيها..إلى إعمال العقل ووزن كل شيء بميزانه، وأنه يترك لنا بعـد ذلك الحريـة في أن نعتقد بما ترشدنا إليه عقولنا وحدهـا، وأن نتبع السبيل الذي ينيره لنا منطقنا البشري.

وعلى سبيل المثال فإن الله عز وجل حـين دعا الناس إلى التعرف عليه لم يقدم ذاته في ألغاز أو أسـاطير. بل عن طـريق ما يشـاهـد من آثـاره وصنعه في خلقه. ودعاهم إلى استعمال عقولهم في الاهتداء إليه ليكتشفوا بأنفسهم وجـوده والإيـمان بـه دون إكراه جـاعلين سبيلهم إلى ذلك النظـر والتفكير. والآيات الـدالة على ذلك كثيرة منها قوله تعالى في سورة الروم أو لم يسيروا في الأرض فينظروا .. فماذا تعني هذه الآيـة سوى أن الإيمان تجربة للعقل، قبل أن يكـون أمرا له أو إذعانا، وأنه نظر وتفكير قبل أن يكون ترديدا وتلقينا.

خطوات إعمال العقل

ليس هذا فحسب.بل إن القرآن اهتم حتى بتحديد خطـوات إعمال العقل.كـما يتضح بصـورة تفصيليـة أجملتها آية واحدة من آياته كـما يذهب حجة الإسلام أبو حامـد الغزالي في كتابه " مشكاة الأنوار" حيث يقول تعالى في سورة النور: الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقـد من شجرة مبـاركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنـوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم.

فخطوات إعمال العقل حسب تأويل الغزالي بإيجاز- أرجو ألا يكون مخلا- هي أولا: أن " المشكاة " كوة أو نافذة ترمز إلى الحواس الخمس. ثـانيـا: أنه في هـذه المشكاة " مصباح " يمكن أعتباره مشعلة من النار تكون في السراج.ثالثا: أن الزجاجة التي يكون فيها المصباح تضبط ضوء هذا المصباح مما يزيده نورا وقوة ووضوحا ..هذه الزجاجة ترمز للعقل الذي ينفرد به الإنسان..دون سائر الخلق. رابعا: أن الزجاجة كأنها كوكب دري تعني أن العقل الذي يستقل بذاته ويغترف العلم من صميم كيانه- وهو في هـذه الآية الزجاجة - مثل الكوكب الدري الذي يبعـث النور من طبيعته هو، ولا يستمـده من مصدر خـارجي عنـه. خـامسا: أنـه على الرغم من أن هذا الكوكب الدري ينبثق ضوؤه من ذاته ، إلا أنه لابد لـه من وقـود يحركـه ليفعل فعله. وهذا الوقود من شجـرة مبـاركـة. سادسا: أن هذا الكوكب الدري الذي يوقد من شجرة مباركة زيتونه لا شرقيـة ولا غربية، يسري فيها زيت له خاصية معينة حيث: يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار. والزيت هنا يرمز إلى الموهبه التي يهبها الله لمن يشاء.. هذه الموهبة لا تكفي وحدها إذ لابد لها من نار توقدها وتحركها وهي الإلهام الذي يهبه الله للإنسان فيهديه إلى أداء ما يؤديه. سابعا: هذه الخطوات المتتابعة، المتصاعدة هي التي يعنيها قوله تعالى نور على نور ففي كل مرحلة قدر من النـور.تأتي المرحلة التي تليها لتضيف إلى نـور سابقتها نورا أقوى.

معنى التنوير في القرآن

وعلى هذا التأويل الذي أتى به الغزالي ينبه الدكتور زكي نجيب محمود إلى ملاحظتين من بعدهما يخلص إلى تقديم معنى عن التنوير من هذه الآية الكريمة. في الملاحظة الأولى يلفت النظر إلى قوله تعالى في أول الآية الله نور السموات والأرض، وإلى قوله في آخرها والله بكل شيء عليم مما يرجح أن يكون نـور السموات والأرض هو العلم بكل شيء، أي أن النور هو العلم.

وأما الملاحظة الثانيـة فهي في توجيه النظر إلى أن أول الآيـة "وآخرها يشيران إلى " النور الإلهي " و " العلم الإلهي " في حين أن كل ما أورده الغزالي في تأويله من مراحل الإدراك العقلي. كـان يشير إلى النور أو العلم البشري. وهنا قد يسأل سائل: أليس في هذا نقلة بالحديث من مجال إلى مجال؟ لكن الإجابة قائمة في نص الآية ذاتها. في أولها وفي آخرها.. ففي أولها إشارة إلى ما تقدمه من مراحل الإدراك وكيف أنـه " مثل " يوضح للإنسان معنى النور الإلهي الذي هو نفسه العلم الإلهي وفي آخرها تنبيه يقول: ويضرب الله الأمثال للناس فلا تناقض ولا خلط بين ما هو " مثال " وما هو " مثل " فالنور أو العلم حين يكون لله عز وجل هو " مثال " يأتينا عنـه النبأ. لكننا لا ندركه ولا نتصوره إلا من خلال " المثل" الذي يساق لنا على مستوى البشر وحياتهم التي يحيونها.

فالمثال الإلهي هو " النور" ويعادل ذلك أن يكون "العلم بكل شيء ". وأما المثل البشري فهو " التنوير". هو أن يسير نحو النور سيرا يستهدف المثل الأعلى دون أن يبلغه. وهو سير تتحرك فيه إلى أمام وإلى أعلى تلك المراحل التي رسمتها الآية الكريمة.

عصر العقل في تاريخنا

وإذا كـان العقل يلقى كل هـذا التقـدير من كتاب الإسلام، فقد لقي أيضا تقديرا من نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام. حيث كان يدعو في أقواله إلى تعظيم العقل والعمل بأحكامه، إلى درجة أن الفيلسوف محمد إقبال قال: " إن محمدا كان لابد أن يكون خاتم الأنبياء ، وأن تكون رسالته آخر الرسـالات، لأنه جاء ليدعو إلى تحكيم العقل فيما يعرض للناس من مشكـلات، ومـا دامت قد ركنت إلى العقل. فلم تعـد بحاجة إلى هداية سوى ما يمليه عليها ذلك العقل من أحكام ".

ومن ذلك وغيره حق لعلماء الإسلام ومؤرخيه أن يصفوا العصر الأول الذي ظهر فيه الإسلام بأنه " عصر العقل " بمفهومه الواسـع. وهذا العصر بدأ من يوم أن أصبح العقل يحكم الأمور، فدانت للمسلمين إمبراطوريات العالم القديم من الناحية السياسية. أما من النـاحيتين العلمية والثقافيـة فقد نشطت حـركـة التجميع لأطـراف المعارف الإنسانية، معها نشطت حركـة التقنين العلمي وكان ذلـك ملحوظا في علوم اللغـة والفقه، ثم نقل علوم الآخرين. حتى لم يكـد يمضي قرن على الرسالة المحمدية، إلا وكانت هناك شخصية متكاملة للأمة.

وقد استمر الاهتمام بـالعقل وتعظيمه والعمل بأحكامه فيما تلا ذلك من عصور إسلامية حتى قال عنه الجاحظ: " العقل وكيل الله عند الإنسان "، وأن هـذا العقل سمي عقلا في لغتنا العربية لأنه كـما يقول الجاحظ : " يزم اللسان، ويحظر عليه أن يمضي فرطا في سبيل الجهل والخطأ والمضرة كـما يعقل البعير.. ".

وهكذا لم يكد يأتي القرن الرابع الهجري وامتداده في الخامس حتى بدأت حركة التنوير بكل ملامحها تظهر للعيان، فكانت رسائل إخوان الصفا بمثابة دائرة المعارف التي هي عادة رمز يشير إلى التنوير من نـاحية جمع المعلومات، وكانت الفلسفـة قد بلغت ذروتها عند الكندي والفارابي وابن سينا مما يشير إلى سلطان العقل. وكان مع الفلسفة حركـة قوية في النقد الأدبي. وإذا قلنا النقد الأدبي بالنسبة لأجدادنا الأقدمين، فكأننا نقول " العقل " بتحليلاتـه العلميـة التي لم يكن الـركـون إلى أحكام " الذوق " فيها بمثابة " الحلية " التي توضع على الثوب. بل إن الشعر ذاته قد غلبت عليه النظرة العقلية التي تطل على الإنسـان لتسبر أغوار نفسـه وتكشف حقيقته وماهيتـه. وأصدق مثال على ذلك أبو العـلاء المعري.

سبق العرب في التنوير

وهكذا يمكن القول بأن التنوير الذي عرفته أوربا في القرن الثامن عشر، عرفه العرب من قبل في القرن العاشر وامتداده في الحادي عشر الميلادي. حيث تلمح معنى وشعـارا له فيما رسمه أبوالعلاء المعري لمدرسة فكرية متكاملة في الثلث الأول من القرن الحادي عشر.

حيث قال شعرا:

زعم النـاس أن يقوم إمـام

نـاطق في الكتيبة الخرسـاء

كذب الزعم لا إمام سوى العـ

ـقل مشيرا في صبحه والمساء

هذا الذي عرفه أبوالعلاء المعري، ونبه إليه، عرفه كـذلك من قبل ومن بعد فلاسفة الإسلام وعلماؤه في المشرق والمغـرب. حيـث كـان اعتـدادهم بـالعقل وتعويلهم عليه في حل ما كان يـواجههم من معضلات في فهم الوجود والكون والإنسان، حتى إن الفارابي الملقب بالمعلم الثاني ذهب إلى أن: " واجب الوجود عقل محض، يعقل ذاته بذاته، فهو عاقل ومعقول في آن واحد"، وعرفه الشيخ الرئيس ابن سينا حيث ذهب إلى أن: " العقل البشري قوة من قـوى النفس لا يستهان بها " وعرفـه حجة الإسلام الإمام الغزالي حين لاءم بين العقل والنقل، ورأى أن يستعان بالعقل " لأنـه يـدرك نفسه ويدرك غيره.. " وعرفـه فيلسوف أوربا في العصر الوسيط المفكر العربي المسلم ابن رشد حـين دعا في كتابه " فصل المقال " إلى نظر الموجـودات ومعرفتها بـالعقل مستندا إلى قـوله تعالى: أو لم ينظـروا في ملكـوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وقوله: فـاعتبروا يا أولي الأبصارحين حثت الآية الأولى على النظر بالعقل في جميع الموجودات، وحثت الثانيـة على وجوب الإعمال العقلي في كل شيء ".

أثر التنوير العربي في أوربا

وهكـذا استطاع العقل العربي أن يقدم تراثا عربيا إسلاميا خالصا، يزخر بأرقى ما وصل إليه العقل البشري من إضافات فكـرية وفلسفيـة وعلمية وفنيـة. حتى استطاع وهج هـذا العقل أن يضيء ظلام أوربا، وأن يفجر فيهـا عصرا جديدا في مجالات عديدة، وأن يكـون له دور في تكـوين الفكـر الأوربي الحديث، دور واسع المدى، عميق الأثـر، شمل العلـوم كـما شمل الصناعات، ولم تقتصر على الفلسفة وعلوم الدين. وإنما امتد كذلك إلى الأدب: الشعر منه والقصص، وإلى الفن: المعمار منه والموسيقى. هذا إلى جـانب تكـوينـه فلسفة عربية إسلامية متميزة عبرت بحـق عن أشواق عصر، واحتياجات حضارة، وقيم مجتمع جديد.

وعلى هذا الأساس يمكن القـول اتفاقـا مع رأي الدكتور عبدالرحمن بـدوي بأن العقل العربي أسهم في تكـوين العقل الأوربي الحديث. حيث تمت عمليـة الإخصاب الفكري بين العقل العربي البالغ كمال تطوره وتنويره، والعقل الأوربي وهو في سبيل يقظته وتلمس طريقه. في مراكز أوربية معروفة بعينها لأنها مثلت نقاط التـلاقي التاريخيـة بين العقلين. وأن من هذا التلاقي نتج التقدم الأوربي الوليد، فالنهضة الأوربية الحديثة، وبالتالي عصر التنوير الأوربي.

يقظة العقل العربي الحديث

وطبيعي أن يساير العقل العربي في يقظته الحديثة روح العصر بما فيه من تنوير، ليعـود إلى هذا العقل سابق مكانتـه عند أصحابه، بعد مرحلة من الجمود والتخلف عاش فيها أسير نكسـة كاملـة في كل شيء. لتظهر بوادر الرغبة في النهضة. ولن يكون ذلك إلا بالاعتداد بالعقل. وبالتالي تبدو ملامح التنوير ولو بصورة خام أو جنينيـة في جهود وأعمال عدد من العلماء والمفكرين والمصلحين. وفي مقدمتهـم الشيخ حسن العطار، والطهطـاوي، وجمال الدين الأفغاني، والشيخ الإمام محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وغيرهم.

فنرى الشيخ العطار يخالط الفـرنسيين، ويتأمل أسلوب حياتهم، ويلتقط بعض ألفاظهم ليقول ما يسجله بعـد ذلك علي مبارك في خططه التـوفيقية: " إن بلادنا لابد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها، ولن يكون ذلك إلا باستخدام العقل ". ونرى تلميذه الطهطـاوي يطالب بسيادة القانون والحرية بكتابه " تخليص الإبريز في تلخيص باريز " كما يطالب بتعليم البنات في كتابه " المرشد الأمين للبنات والبنين " ويتبنى دعوات إصلاحية قائمة على العقل في كتابه " مناهج الألبـاب المصرية في مناهج العلوم العصرية " وغيرها من جهود أقامت منه رائدا للنهضة المصرية الحديثة.

ونرى السيد جمال الدين الأفغاني يقول في العروة الوثقى: " الأمة التي ليس لها في ترشيد شئونها حل ولا عقـد، ولا تستشار في مصالحها، ولا أثر لإرادتها في منافعها العمومية، وإنما هي خـاضعـة لحاكم واحـد إرادته قانون، ومشيئته نظام.. يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد.. تلك أمة لا تثبت على حال واحد، ولا ينضبط لها سير " حتى ينتهي إلى القول بأن الأمم التي لا تسيرها عقول المخلصين من أبنائها مقضي عليهـا بالزوال.

ونرى الشيخ الإمام محمد عبده يهاجم التقليد بوصفه ينقل آراء الغير دون المطالبة بـدليل عقلي، ودون الالتفـات إلى حق كل شخص في استقـلال النظـر والفحص، وباختصار أن يفكر بنفسه لا أن يفكـر له. لأن التفكير- كـما يراه الشيخ الإمام- فرض عين، أي لا يصح أن يقوم شخص نيابة عن آخر في هذا الأمر لأن ماهية الإنسان هي ناطقيته، وهذه الناطقية لها شرطان: تحقيق الوعي ويقظة الضمير فيكون الإنسان واعيا حين العمل، وعاملا حين يفكر.

ونرى الكواكبي يطالب بتحكيم العقل في كل أمورنا حتى في النظرة إلى الدين حيث يقول: " ما أحوج الشرقيين إلى حكماء يجددون النظر في الـدين.. إن كل دين يتقادم عهده يحتاج إلى مجددين ".

ويأتي بعد ذلك تلاميـذ الشيخ الإمام محمد عبده ابتداء من سعد زغلول ممثلا لحركـة التنوير في المجال السياسي، وقاسم أمين ممثلا لها في الجانب الاجتماعي، والشيخ مصطفى عبـد الـرازق في الجانب الفلسفي، والشيخ مصطفى المراغي في الفقه الديني.

تنوير المائة عام الأخيرة

ثم يأتي طـه حسين وجيلـه وفي مقدمتهم العقـاد والمازني والحكيم، ممثلين لهذه الحركـة في المائة عام الأخيرة في جـانب النقد الأدبي، ومحمـد حسين هيكل وعلي عبدالرازق في التفكير الإسلامي والتأريخ له، وسليم حسن وعبـد الـرحمن الـرافعي في الجانب التاريخي، وعبدالرزاق السنهوري وعبدالحميد بدوي في القانون، وغيرهم ممن مثلوا رواد التنوير في المائة عام الأخيرة. وكـانت وسيلتهـم إلى ذلك كما يقـول طـه حسين: " العلم طـريق العقل، ليس لبلـوغ الحقيقـة وحدها، ولكن لتنظيم حياة الإنسـان داخل المجتمع الذي يعيش فيه ". ولذلك كانت روح التنوير عندهم شديدة العداء للجهل والخرافة والتفكـير اللاعقلي بوجه عام.

وتمتد هذه الحركة التنويرية إلى ما بعد جيل طه حسين فنرى علماء وأدباء ومفكرين كلا في مجال تخصصه يجيد ويضيف. وفي مقـدمتهم زكي نجيب محمـود في مجال الثقافـة والفكر، وعبد الرحمن بـدوي في مجال الفلسفة المعاصرة، وإبراهيم مدكور وعبد الهادي أبـو ريدة في الفلسفة الإسلاميـة، ونجيب محفوظ ويحيى حقي في القصة والرواية. ونرى هذا الجيل من تتقدم أعماله إلى دائرة العالمية مثل نجيب محفوظ الذي تفوق على كل أدباء العالم بحصوله على جائزة نوبل، وعبدالرحمن بدوي حين أسهم في البناء الفلسفي العـالمي المعـاصر حيث ربط الـوجوديـة بأصول عربيـة مؤكدا رسوخ المذهب الوجـودي في تفكـيرنا العـربي الإسـلامي، وغيرهم ممن آمنوا بالمنهجية في البحث والاختيار، وهو ما عبر عنه الدكتـور زكي نجيب محمود حين حـدد منهجـه في الثقافـة العربيـة فيقول: " أردت به شيئين يكفي أن يتوافر أحدهما في مـوقف ما لأصف ذلك الموقف بأنه عقلاني في نزعته، أحدهما أن تكـون حركة الفكر حيال المشكلة المعروضة سائرة بصورة صريحة على منهج المنطق الذي يقدم المقـدمات ثم ينتزع منـه النتائج، وأما الآخر فهو أن يعالج الإنسـان مشكلـة عرضت له معالجة لا تردها إلى مقدماتها، بل يشير بها إلى ما يحلها ويزيل عنها موضع الإشكال".

وتتسع حركـة التنويـر لتشمل أجيالا متعاقبة في كل الأوطان العربية، وليكون من بين أبنائها نماذج واعية تعلن بأعمالها وأفكـارها القـائمة على الاعتداد بالعقل محاولة استعادة العقل العربي لمكانته التي افتقـدها حينا من الدهر.

إن نظرة واحـدة إلى نتاج فكر رواد التنوير ورجـاله العرب.. قـديما وحـديثا، تؤكـد بأن فكـرهم اتسم بالجسـارة الجوهرية وليست العارضـة. إذ نادوا بإصلاحات في وقت لم تكـن الحياة مستقرة أو العيش طيبا. بل على العكس كانوا يعيشون في ظل الطغيان والاستعمار، والأكثر جمود الفكـر وتخلفه. لكنهم مع ذلك بشروا بفكر جـديد قائم على العقل. مما يدل على مقـدار الجسارة التي كـان يتسم بها هـؤلاء، جسارة تضعهم في صفوف الأبطال. وأي بطولة تحسب لهؤلاء وهم ما لبثوا أن خرجوا من الظلمة التي عاشوها، حتى كـانت أصواتهم عالية كـل في مجاله يدعو إلى إعادة صياغة المجتمع من جديد بتوجيه من العقل.

 

سامح كريم







نجيب محفوظ





رفاعة الطهطاوي





إبراهيم عبدالقادر المازني





جمال الأفغاني





سعد زغلول





عبدالرحمن الرافعي





توفيق الحكيم





الدكتور طه حسين





ديدرو





شيلر





إيمانويل كانط





فولتير