الأغنية مثالاً.. تراثنا الشفاهي مصدراً للتوثيق
الأغنية مثالاً.. تراثنا الشفاهي مصدراً للتوثيق
منذ سنوات طوال كنت أراقب بإمعان كغيري من المعنيين بالأمر.. البعد الدرامي المعيش المتجدد والتوثيقي والتأريخي للثقافة الشفاهية، ولعل أكثر أجناس تلك الثقافة وأسرعها تداولاً وانتشاراً وأخطرها أيضاً «الأمثال الشعبية» و«الأغاني» خاصة الشعبية منها التي تتحول مع مرور الزمن إلى تراث، وكنت أتساءل: لماذا لا يهتم الباحثون اللهم الا قليلاً وبشكل جزئي ومحدود بهذا المبحث المهم؟
ربما بدأ اهتمامي بذلك الأمر عندما سمعت المثل الشعبي المصري «آخر خدمة الغز علقة»، سألت أبي تغمده الله برحمته الواسعة لأعرف منه أن «الغز» هم أحد أجناس الترك المشهورين بشراسة الخلق وحدة الطباع ولطالما اضطهدوا فلاحي مصر وأثقلوا كاهلهم بالعمل المضني الشاق في الحقبة العثمانية، وكان جوابهم الدائم على أي مطلب للفلاحين بقسط من الراحة وعند أقل شكوى هو الجلد بالسياط فيما اصطلح عليه بالعامية المصرية «علقة ساخنة»، فكان رد الفعل المباشر هو هذا المثل الدال إنسانياً وتاريخياً الذي خلّد أعمالهم الشنعاء ليشهد عليها العالم، وللقارئ الكريم أن يتخيل الأثر الدرامي لهذا المثل إنسانياً وإبداعياً على مختلف الصعد.. لكن تجليات تلك الثقافة الشفاهية الملهمة سرعان ما تتضح أكثر في عالم الأغنية التي سرعان ما تتخطى الحدود والأقاليم وربما القارات فمن ذا الذي لم يتغن من المحيط إلى الخليج بأغاني «إقليم الشام الكبير» مثل «مريم مريمتين» و«هيه هيه هيه تأسى يا قلبي تأسى» على سبيل المثال لا الحصر. تقول الأغنية الأولى في إحدى (كوبليهاتها) «مريم يا دلي.. والشعر مدلي.. عسكر عثمانلي.. خطفوا مريمة»، لتعكس آليات الدفاع السلبي للمواطن الشامي الذي عرف معاناة اختطاف «العسكر العثمانلي» للبنات.. والتي كانت تعانيه مثلهم جل الإيالات العثمانية الأخرى، وقد كتب المؤرخ المصري العظيم «الجبرتي» في تاريخه عن المظالم التي ارتكبها «عسكر الانكشارية العثمانية» على سبيل المثال في مصر، وكذلك عرف تاريخ الشام مآسي مروعة خاصة في فترة حكم الوالي الطاغية «جمال باشا» المعروف بـ «جمال باشا الجزار». من دفاع سلبي لهجوم لفظي لكن آليات الدفاع السلبي تتطور لآليات هجوم لفظي كما في الأغنية الثانية التي تقول في مقطع منها «هيه هيه وشوشني الأسمر قاللي.. هيه هيه البوسة بليرة عثمانلي.. هيه هيه يلعن بيك يا أسمر.. هيه هيه هيه بترخص ما بتغلي» وهي تحمل معنى الاحتقار لليرة العثمانية التي هي من رموز سيادة الدولة على الرغم من قيمتها المادية كونها ليرة ذهبية، في انعكاس جلي يتضح من خلاله مقاومة طغيان المحتل إبداعيا. وقبل أن نتجاوز هذه النقطة وعلى ذكر الأغاني «العابرة للقارات» من منا لم يسمع لما يقرب من عقدين ونيف إن لم يزد على ذلك أغنية «بوب مارلي» ملك موسيقى الريجي «بافللو سولجر» ذائعة الصيت وأشهر أغانيه على الإطلاق وهي التي يروي فيها قصة سبي جنسه من الأفارقة السود وجلبهم إلى موطنه «جمايكا» وغيره من جزر المحيط تمهيداً لإرسالهم لأمريكا الشمالية والجنوبية للعمل كأقنان للأرض في مزارعها الواسعة، وتروي كلمات الأغنية بتصرف قصة اختطاف هؤلاء الأحرار الأبرياء من افريقيا السوداء ليتحولوا إلى عبيد.. أو جنود يضحى بهم في مقدمة الصفوف.. يحدثك عن الجنود السود من معتنقي ما يسمى مذهب الرستافاريانزيم الذين يصففون شعورهم في جدائل صغيرة كثيرة العدد تشبه لبدة الأسد، وكيف سرق هؤلاء من أفريقيا ليبدأوا رحلة القتال من أجل الوصول سالمين، ثم القتال من أجل البقاء، ويضيف لو عرفتم قصتي.. ستعرفون من أين أتيت. ولا بد أن يستوقفك التوثيق للظلم الذي تعرضوا له ونشاط النخاسة الذي أصبح عاراً في جبين البشرية فضلاً عن التمييز العنصري، لكنه أيضاً لا ينسى أن يترك لنا إشارة عن عقيدته التي ربما توارثها عبر روافد حملها أجداد اختطفهم النخاسون من أفريقيا ليشتريهم قوم يتحدثون عن التحضر وحقوق الإنسان ربما لأنهم يعتقدون أن الإنسان هو من يحمل جلداً ناصع البياض. لكننا عرفنا من أغاني التوثيق للأحداث التاريخية والعادات والتقاليد نماذج أخرى أقدم مثل «آه يا زين العابدين» و«قطر الندى» وهي تعد من أقدم الأغاني العربية بعد أهزوجة «طلع البدر علينا» التي استقبل بها الأنصار الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، وأغنية أو أنشودة «أتيناكم أتيناكم» التي كانت تغني في الأعراس قبل الإسلام وبعده. وأغنية «زين العابدين» التي يبدأ مطلعها «آه يا زين.. آه يا زين.. آه يا زين العابدين.. يا ورد.. يا ورد مفتح بين المساكين» وهي تؤرخ لقصة اختطاف أهل مصر لرأس الإمام «زيد بن علي زين العابدين» عندما طاف الجنود برأسه الشريف محمولاً على «ذؤابة رمح» فاختطفها أهالي تلك المنطقة الفقيرة التي تعرف باسمه حتى الآن في قلب القاهرة» منطقة زين العابدين ليعتبرها أهل تلك المنطقة وردا تفتح بينهم. قطر الندى أما أغنية «قطر الندى» التي يبدأ مذهبها بـ «الحنة يا الحنة يا قطر الندى.. يا شباك حبيبي يا عيني جلاب الهوى» فهي توثق الاحتفال الأسطوري بزفاف الأميرة «قطر الندى» بنت خماروية بن أحمد بن طولون إلى الخليفة العباسي، فضلاً عن طقس حنة العروس المنتشر في أغلب بلدان العالم العربي من خليجه إلى محيطه حتى اليوم. وجدير بالذكر أن هذين اللحنين من وجهة نظر بعض الموسيقيين قد تأثرا بموسيقى «القداس الباسيلي» وهو من أهم المراجع الموسيقية القبطية التي تحمل الكثير من آثار الموسيقى المقدسة في المعابد الفرعونية القديمة. ولا محالة في أن المخيلة الإبداعية على إطلاقها تسمح لنفسها بنقل التواريخ والأحداث بتصرف متجاوزة حدود الزمان والمكان في الحدث الدرامي، وقد تجد في الروايات والملاحم الشعبية أن «حمزة البهلوان» و«علي الزيبق» قد التقى بالفاروق الخليفة الثاني «عمر بن الخطاب» رضي الله عنه رغم البون التاريخي الشاسع بين هذين وذاك، أو تجد في تونس من يعلل لك أن قمتي «جبل بوقرنين» في «حمام الأنف» كانت قمة واحدة حتى شقها الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بسيفه «ذوالفقار» لتصبح قمتين مدببتين كأنهما توأمان رغم أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم تطأ قدماه أرض تونس لكن الأسطورة تتجاوز كل الحدود والقوالب المنطقية لكي تطلق للمخيلة الإبداعية العنان. ونعود إلى التراث الشفاهي المغنى في «النوبة المصرية» التي تختلف شكلا وموضوعا عن «جبال النوبة السودانية»، فنجد أغنية عرفت باسم «نعناع الجنينة» أو «عشق البنات» ومن أشهر من تغنى بها الفنان المميز «محمد منير» والتي يقال إن متنها الأصلي يربو على الألف «بيت شعري» ربما يرجع ذلك إلى الزيادات التي طرأت عليها مع مرور الزمن وتأثر «صعيد مصر الأعلى» بها ليزداد متنها الشعري ثراء رغم ثبات قالبها الموسيقي. في هذه الأغنية الرائعة شكلاً ومضمونا نجد إشارات تاريخية إلى القائد الفرنسي الأشهر «نابليون بونابرت» والتي توثق لجانب من جوانب سماته الشخصية كونه «زير نساء»، ثم إشارة تاريخية وسيادية أخرى من حقبة معينة توضح ما يعرف بالفرق بين «الحدود السياسية» والحدود الإدارية وكيف كان إقليم النوبة المصرية ضمن «حدود مصر السياسية» لكنها تتبع إداريا «الخرطوم» لأنها الحاضرة الأقرب لسكانه وهذا بالطبع بعد انفصال السودان عن مصر. تقول الكلمات: «في عشق البنات أنا فقت نابليون.. ترومبيلي وقف عجلاته بندر يوم.. قدمت شكوتي لحاكم الخرطوم.. أجل جلستي لما القيامة تقوم»، لكن المخيلة الإبداعية لا تقف عند حد معين و تستمر في إثراء المنتج الإبداعي لنرى تحول الصورة الشعرية من «الإستاتيكية» والسكون إلى «الديناميكية» والحركة.. حيث تقول الكلمات «نعناع الجنينة المسقي في حيضانه.. شجر الموز طرح ظلل على عيدانه».. وكأنه يدعو المتلقي ليلاحظ كيف أن «نعناع الجنينة» الريان الوادع الساكن قد حظي بظل وحنان « شجر الموز» الذي مال عليه عندما أثمر، ولنا أن نطلق لخيالنا العنان ونحن نتصور تلك الحركة الحانية المتئدة «لشجر الموز» وهو يميل كأنه لقاء بين عاشق ومعشوق يحتضن كل منهما الآخر في حميمية، فضلاً عن التوثيق التلقائي غير المقصود للمحاصيل الزراعية في تلك الجهة، ومن خلال ذلك يمكننا تخيل التضاريس ونوع التربة ومدى وفرة المياه إلخ.. بما يترتب على ذلك من نتائج، ولعل مثل هذه الأمور تجيب على بعض تساؤلات الباحثين التي يمكن تلخيصها في سؤال واحد هو «لماذا اهتم المستشرقون بجمع التراث الشفاهي من أمثال وأغاني وأساطير وموسيقى شعبية؟». تلك «الأغنية المرجع» من وجهة نظرنا مثال حي على الإبداع الشعبي المميز وهي حافلة بجوانب أخرى إبداعية لا يتسع المجال لذكرها لكن لابد من الإشارة إلى أنها قد جمعت جل الجماليات الإبداعية للشعر الشعبي بما في ذلك الجانب «الإيروتيكي» الذي يمكننا أن نصفه هنا «بالإيروتيكا الأنيقة» مجازا حيث كانت تلك الصور الإبداعية بعيدة كل البعد عن الابتذال بما لذلك من انعكاسات يمكن تفسيرها على صعد «سيكوسسيولوجية» متعددة. «مع العزابة نا بكرتي شردت.. مع العزابة خشت فجوج الشيح والقضابة.. ويا جمالة يا سايقين البل يا جمالة.. تونس بعيدة والعرب قتالة»، هذه الأغنية التي رصدها كاتب السطور تغنى بدءا من الشمال الغربي التونسي وصولا إلى الشمال والجنوب الغربي المصري مرورا بليبيا، للأمانة ربما كانت تغنى في الجزائر والمغرب إلا أننا لم نتمكن من رصد ذلك، الأغنية تحكي ببساطة عن أم تبحث عن ابنتها البكر التي ربما وقعت في هوى شخص ما أو ما شابه من قصص العشق فرحلت مع قافلته وها هي الأم الملتاعة تبحث عن ابنتها الفارة مع تلك القافلة، لكن السؤال أو بالأحرى الأسئلة التي تطرح نفسها: 1- أين نظمت هذه الكلمات البسيطة ذات الدلالات المهمة كما سنرى لاحقا.. هل كان ذلك في الشمال الغربي التونسي أو في ليبيا أو الشمال أو الجنوب الغربي المصري؟ 2- وهل كان محط القافلة النهائي في تونس؟ أم أن الفتاة بطلة الأغنية «تونسية» تنتمي إلى مدينة تونس؟أم الفتاة وأمها الملتاعة تنتميان إلى ليبيا أو مصر؟.. ولابد للأم من اللحاق بها في تونس.. وإلا لماذا كان القاسم المشترك الأعظم في كلمات الأغنية هو تونس؟ 3- أم أن الفتاة رحلت مع من رحلت إلى تونس والأم تريد اللحاق بها؟ إذن أيا كانت الإجابات فالذهاب إلى تونس هدف نهائي لتلك الأم، لكن براعة التوثيق التلقائي التي استفاد منها المستشرقون ولم نحاول نحن الاستفادة منها، تكمن في توثيق المكان ونباتاته كما تشي بذلك كلمات الأغنية «خشت فجوج الشيح والقضابة» وهي نباتات لا تظهر إلا في مواضع معينة فهي مثلا لا تظهر في تونس إلا جهة الجنوب (حسب المختصين في الزراعة)، بينما تجدها في مواضع أخرى من ليبيا ومصر ترتبط بالطريق من وإلى تونس. لكن كلمات الأغنية توثق لنا تلقائيا أن الطريق من وإلى تونس في هذه الحقبة الزمنية محفوف بالمخاطر «تونس بعيدة والعرب قتالة» إذن فهي حقبة زمنية بعيدة نسبيا قبل اختراع الطائرات، وهي تتحدث عن مناطق صحراوية بعيدة عن النقل البحري ولا تعتمد إلا قوافل البر التي تمر بتلك النباتات الصحراوية، كما أن الطريق حافل بقطاع الطرق والقبائل التي تعتمد السلب والنهب أسلوبا للكسب والمعاش..، بما يترتب على ذلك من فقد وسبي وربما عبودية وتجارة رقيق فضلا عن الإنعكاسات الإقتصادية السياسية و«السيكوسسيولوجية». والقالب الموسيقي البدوي لهذه الأغنية معروف في تونس وليبيا وشمال وجنوب وغرب مصر، ومن أشهر من تغنوا بها المطربة التونسية العظيمة «صليحة» (1914 - 1958) المولودة «بدشرة نبر» من أعمال «ولاية الكاف» شمال غربي تونس بالقرب من الحدود الجزائرية. ومع انتشار العمران وشق الطرقات واختراع الطائرات وثراء الطفرة النفطية، تبدلت كلمات هذه الأغنية التراثية، لتعبر عن اختلاف أحوال سكان هذه الصحارى من العرب لنجد الأغنية تغنى اليوم محرفة إلى «تونس بعيدة والعرب رجالة»، لتعبر عن تغيير الأحوال القديمة التي رصدها وقتها رحالة ومستشرقون كبار بل وجواسيس مثل البرتغالي «لويس فارتيما» المعروف «بالحاج يونس المصري أو الشيخ أحمد العجمي»، أو السويسري «بوركهارت» على سبيل المثال لا الحصر.. والذين رصدوا بكل دقة جميع مناحي حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية قبل مرحلة الطفرة النفطية العربية كي تعاونهم في امتطاء ظهورنا حضاريا وعملياً إلى أجل لا يعلمه إلا الله. أبسط عبارات التراث الشفاهي الذي لم نعطه حقه حتى اليوم ربما تكون مفتاحا لمعرفة تساعدنا في إدراك نقاط قوتنا وضعفنا ومعرفة أنفسنا، ومن أهم روافد هذا التراث «الأمثال الشعبية» و«الأغنية» التي تستحق النظر والتحقيق والتدقيق لاستخلاص معارف جديرة بإخراجنا من مأزقنا الحضاري على مختلف الصعد.. بدلاً من إهمالها وتركها للضياع أو السخرية منها؛ أو تزييفها وتشويهها بجهالة منقطعة النظير بدعوى التنقيح. كنت أختتم ذلك المدخل البحثي المتواضع بينما يأتيني صوت المطرب
التونسي الجميل الراحل مصطفى الشرفي (1934 - 2007) وهو يغني الأغنية التونسية
القديمة «يامة وجعتوها.. ما تضربوش البنت وجعتوها.. يا ميمتي» لأجد ضمن كلمات
الأغنية ما يحمل توريات وكنايات بديعة تقدم حصرا لأنواع «العصي» المستخدمة في
«الضرب» خلال حقبة لم نكن نستورد فيها «العصي» ولا «سجاجيد الصلاة» من
الصين. --------------------------------------- ذَكَرتُ زَمانَ الوَصلِ فيها فَلَيسَ
لي الحصري القيرواني
|