سعاد مرقص وعماد فؤاد

سعاد مرقص وعماد فؤاد

ياسر عرفات هو الحب الوحيد في حياتي!

  • فلسطين هي الشجن الخاص الذي أورثه لي والدي في صباحاته المطرزة بالموسيقى
  • لديّ اهتمام استثنائي بفكرة العدل سواء على المستوى السياسي أو المستوى الحياتي
  • لو بقي جمال عبد الناصر حيًا لسنوات أخرى قليلة لتغير تاريخنا العربي كله عما هو عليه الآن
  • ثورات الشعوب العربية جعلتني أكثر إيمانًا بأنني لن أموت قبل أن أرى أرض فلسطين تعود إلى أصحابها

بصدفة بحتة، ارتحل الشاعر المصري المقيم في هولندا عماد فؤاد من أمستردام إلى نيكاراجوا في القارة اللاتينية، للمشاركة في مهرجان شعري يقام سنويًا هناك، ليلتقي مع شاعرة عربية الأصل، فلسطينية على وجه التحديد، نيكاراجويانية المولد والموطن، هي الشاعرة سعاد مرقص، لتبدأ أول فصول المصادفات التي قادته لهذا الحوار النادر بما يحتويه من معلومات تنشر لأول مرة عن علاقة الشاعرة بالزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وبفصول من حياتها وسيرتها الذاتية؛ مقاومة ومناضلة، لها باع طويل في فصول المقاومة الفلسطينية. وهكذا وجد عماد فؤاد، وهو صاحب تجربة شبيهة بتجربتها كمصري مهاجر إلى هولندا منذ سنوات وصاحب تجربة خاصة كشاعر من جيل التسعينيات في مصر، نفسه أمام تجربة إنسانية وشعرية وسياسية بالغة الخصوصية، ونتعرف على تفاصيلها في هذا الحوار.

  • لم أكن أعلم وأنا في الطائرة التي تحلق بي فوق المحيط الأطلسي متجهة من العاصمة الهولندية أمستردام إلى نيكاراجوا أحد بلدان أمريكا اللاتينية، أنني سأكون على موعد مع قصة حب مثيرة، جرت أحداثها في بدايات الثمانينيات من القرن الماضي، وكانت العاصمة اللبنانية بيروت مسرحًا لها، لم أكن لأتخيل أن يكون بطل هذه القصة التي لا يعرفها أحد واحدًا من رموز النضال العربي الكبار، والذي يعود لغز موته المفاجئ في العام 2004 إلى الواجهة من جديد هذه الأيام، بسبب شكوك كثيرة تفيد بأن الرجل مات مسمومًا، بعد أن عثروا في متعلقاته الشخصية وملابسه عن آثار مادة مشعّة يحتمل أن تكون هي التي تسببت في وفاته.

رحلتي الطويلة إلى نيكاراجوا لم تكن بهدف الكشف عن هذا اللغز، بل كانت رحلة عادية هدفها المشاركة في أحد المهرجانات الشعرية العالمية التي تقام بشكل سنوي هناك، وحدث أن تعثرت في القصة التي تحملها السطور التالية، حدث الأمر بالمصادفة إذن، دون تدخل مني أو إرادة، حين وجدت نفسي أتعرف على إحدى الشاعرات المشاركات في المهرجان، وبعد لحظات من لقائي الأول بها وجدتها تفتح لي بابًا لأطلع على حكايتها الغريبة، امرأة في السادسة والستين من عمرها تمارس حياتها من فوق كرسيها المتحرك، كانت بشوشة ودائمة المرح، للدرجة التي دفعتني إلى أن أخبرها أنها تتعامل مع الحياة كما لو كانت لم تزل طفلة، تندهش لمرآى الوجوه الجديدة، وتهرول خلف الضحكات لتقبض عليها وتطلقها من جديد لتمرح في الآذان المحيطة بها.

يعرف الكثيرون حياة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، لكن السطور التالية تقدم لنا جانبًا مختلفًا لم يطلع عليه أحد تقريبًا، تكشفه لنا الشاعرة النيكاراجويانية الكبيرة ذات الأصول الفلسطينية «سعاد مرقص فريج»، ولمن لا يعرف سعاد، نقول إنها واحدة من أبرز الشاعرات في نيكاراجوا وأمريكا اللاتينية في الوقت الراهن، لم يصدر لها إلا ثلاثة أعمال شعرية فقط، لكن هذه الأعمال الثلاثة صنعت منها اسمًا كبيرًا في الشعر المكتوب باللغة الإسبانية، وذاعت شهرتها في بلدان وسط أمريكا اللاتينية. ولدت «سعاد مرقص» في 21 يونيو من العام 1946، لعائلة فلسطينية هاجرت إلى أمريكا اللاتينية في بدايات القرن العشرين، حط الرحال بعائلتها في مدينة «غراناطة»بنيكاراجوا، مثلهم في ذلك مثل آلاف العائلات الفلسطينية واللبنانية الذين هاجروا آنذاك بحثًا عن ظروف أفضل لحياة أبنائهم، كانت «سعاد مرقص» تقدم لي نفسها بشكل مختصر وعفوي، كأنها تنفي عن نفسها أية أهمية، حتى عندما طلبت منها إجراء حوار مطول معها، وجدت ارتباكها يزيد وسألتني: «وهل سيختلف الحوار عما أقوله لك الآن؟»، فقلت: «لا، التغيير الوحيد سيكون في وجود آلة تسجيل صغيرة بيننا»، وهكذا، استمعت إلى الشاعرة طويلًا، وهي تروي لنا حكايتها المثيرة مع الشعر والهجرة والنضال المسلح والعمليات الفدائية و.. ياسر عرفات.

العدل باعتباره فكرة

  • لم أكن أشعر بأن الأسئلة الاعتيادية ستكون هي الخيار الأفضل مع شخصية مجنونة بحب الحياة مثل «سعاد مرقص»، ورغم هذا وجدتني أطرح أكثر الأسئلة اعتيادية يمكن أن تجدها في حوار: لنبدأ الحكاية من البداية، من هي «سعاد مرقص»؟

- أنا امرأة نيكاراجويانية، فلسطينية، عربية، لاتينية، شاعرة، ثائرة، أنا مزيج غريب من العروق والدماء والإثنيات، أعتبر نفسي امرأة مقسومة إلى وطنين، فلسطين ونيكاراجوا، وأعتبر مدن نيكاراجوا مثل ماسايا وغراناطة وليون مثل غزة والناصرة وبيت لحم، ما يحدث في هذه المدن يؤثر سلبًا أو إيجابًا عليّ، وشعوري تجاه العالم العربي هو نفس شعور كل العرب، فأنا دمي عربي، جذوري عربية، صدقني لا أعرف كيف أرد على مثل هذا السؤال، لكنني كما تراني الآن، امرأة عادية تخرج على كرسي متحرك وتكتب الشعر وتحب الحياة.

  • ومتى بدأ ولعك بكتابة الشعر؟

- منذ كنت في الرابعة عشرة من عمري، بدأ ولعي بالشعر ينمو منذ كنت أستمع في كل صباح إلى أغنيات عربية ينصت إليها أبي بإجلال من يتعبد أو يصلي ولم أكن أفهم من كلماتها شيئًا، كان حين يراني أتلصص عليه وهو ينصت إلى هذه الأغاني، يجلسني بجواره ويترجم لي الكلمات العربية إلى الإسبانية، وبهذه الطريقة زرع والدي بداخلي محبة الشجن الصافي في أصوات أم كلثوم وفريد الأطرش وأسمهان وغيرهم، بعدها بدأت أكتب ما أتصور أنه أغاني، مشحونة بذات الروح من الوجع والألم التي كان والدي يقدمها لي كل صباح.

  • لم تصدري إلا ثلاث مجموعات شعرية حتى الآن، كيف تفسرين حضور اسمك القوي في الشعر اللاتيني الراهن؟

- عندي الآن خمسة دواوين مكتملة، أصدرت منها ثلاثة فقط، وتبقى اثنان في أدراج مكتبي، أمر الانتشار لم أسع إليه، ذلك لأنني أهملت الشعر طويلًا بسبب من انخراطي المبكر في النضال المسلح، سواء هنا في نيكاراجوا أو في بيروت، أظن أن  انتشار اسمي كان بسبب من قصائدي التي نشرت في مختلف صحف أمريكا اللاتينية قبل أن أصدر دواويني في كتب، تأخرت جدًا في نشر أعمالي لأنني لم أكن أهتم بالشعر وقتذاك، كنت أكتب وأنشر قصائدي واحدة تلو الأخرى، ولم أهتم بفكرة إصدار ديوان كامل إلا بعد أن دفعني الشعراء والنقاد إلى النشر دفعًا، لكن الكثير من قصائدي نشرت في عدد من أنطولوجيات الشعر الإسباني في العديد من الدول الأمريكية اللاتينية، وهو ما ساعد على انتشار اسمي، فضلاً عن جرس اسمي العربي والذي ميزه في أذهان القراء. أول ديوان لي نشرته في العام 2002، فمع بدايات العام 2000 بدأ أصدقائي من الشعراء الإسبان والنيكاراجوانيين يضغطون عليّ لأنشر ديواني الأول، وهكذا ولد عملي الأول في الشعر في العام 2002 تحت عنوان «عارية أمام ظلي»، وكانت أغلب قصائده عن الثورة الساندينية والثورة الفلسطينية.

  • تناولت فلسطين في العديد من قصائدك الأولى، كيف تعاملت شعريًا مع هذا البلد الذي تعود إليه جذورك، وأنت التي ولدت بعيدًا عنه ولم تقومي بزيارته إلا منذ سنوات فقط؟

- ولدت وتربيت في نيكاراجوا وأعتبر نفسي مواطنة لاتينية بالقدر ذاته الذي أعتبر نفسي فيه فلسطينية، كتبت عن فلسطين باعتبارها الشجن الخاص الذي أورثه لي والدي في صباحاته المطرزة بالموسيقى العربية، ربما لهذا لاحظ عليّ كثيرون من النقاد ارتباط مفرداتي بالمناخ العربي، هناك تأثير كبير من الشعر العربي في قصائدي، مفردات ومناخات بعينها تتكرر في قصائدي الأولى كمثل الزهور والياسمين والزيتون والبرتقال والبيوت المهجورة، تأثرت في البداية بمحمود درويش، لأني عرفته أولًا وقبل غيره من الشعراء العرب، ثم قرأت لفدوى طوقان وإبراهيم طوقان، كان والدي يملك في مكتبته الكثير من الشعر المترجم لهما إلى اللغة الإسبانية.

  • لاحظت أن الحركة النقدية في نيكاراجوا تضعك ضمن تيار أدبي يتعارفون عليه هنا بمصطلح «الإيروتيك السياسي»، ما الذي يميز هذا التيار الأدبي عن غيره من وجهة نظرك؟

- لم أكن أبدًا معنية في حياتي بالتيارات الأدبية، ولم أنخرط في إحداها دون غيرها، كنت أكتب قصائدي - ومازلت - بحرية تامة ولم ألتزم بأي اتجاهات أدبية طوال احترافي للكتابة الشعرية، لكنهم هنا في بلدان أمريكا اللاتينية لديهم حركة ثقافية وأدبية معنية بالمزج ما بين الإيروتيكي والسياسي والثوري، وحين بدأت في نشر قصائدي الأولى، وجدت أن كثيرًا من النقاد يضمونني إلى اليسار الإيروتيكي، بمعنى آخر الحركة النقدية هي التي رأت فيما أكتبه مادة تتوافق مع هذا التيار الأدبي، وهو ما لم أستغربه، ذلك لأن قصائدي، خاصة في الجديد منها، تتناول الثورة السياسية والإيروتيكية على حد سواء، ومن النادر أن تجد لديّ قصائد سياسية أو اجتماعية بحتة أو مجردة، لديّ اهتمام استثنائي بفكرة العدل سواء على المستوى السياسي أو المستوي الحياتي، كما لدي اهتمام خاص بحال المرأة واوضاعها مثل أي امرأة تكتب الشعر.

الميراث

  • ماذا تعرفين عن هجرة أجدادك من فلسطين، أو بمعنى آخر متى خرج أجدادك للمرة الأولى من فلسطين وإلى أين؟

- في العام 1913 وصل إلى نيكاراجوا أربعة أجداد لي، وقتها كان الاستعمار البريطاني يفرض سيطرته على كامل الأراضي الفلسطينية وعدد آخر من البلدان العربية، وكما هاجر الكثيرون من الشباب الفلسطيني إلى أنحاء مختلفة من العالم، هاجر أجدادي وحط بهم الرحال في مجاهل أمريكا اللاتينية وبالتحديد في نيكاراجوا، في هذه الفترة كانت السياسة الدولية وفي خضم الحرب العالمية الأولى قد بدأت التلويح بفكرة جعل فلسطين وطنًا لليهود، وهي النية التي تبلورت في ما بعد وأخذت منحى معلنًا مع وعد بلفور لليهود في العام 1917. وفي نيكاراجوا ولد أبي وأمي، وكما حكي لي والدي فقد سافر إلى فلسطين بصحبة والديه وهو في الثالثة من عمره ولم يرجع إلى نيكاراجوا إلا وهو في السادسة والعشرين، أي أنه عاش طفولته وشبابه في فلسطين، لكن أمي ولدت وظلت هنا، لم تسافر أبدًا إلى فلسطين.

  • وما سبب عودة والدك من جديد إلى نيكاراجوا؟

- كان هذا بسبب من جدي، فحين اكتشف جدي أن والدي بدأ ينخرط في المقاومة الفلسطينية وبدأ يخزن السلاح مع الشباب الفلسطيني لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي في بداية الخمسينيات، عمل جدي على إخراجه من فلسطين بالقوة خوفًا عليه، وبالتالي عاد إلى نيكاراجوا، وبعد عودته تزوج أمي وولدنا نحن، وأتذكر حين كان عمري خمس سنوات، كان والدي يستيقظ في الخامسة فجرًا ويشرب قهوته أمام جهاز راديو قديم - مازلت أحتفظ به - ويستمع إلى إذاعة الـ «BBC» اللندنية ليتابع مجريات الأمور في فلسطين والعالم العربي، في هذه الفترة كان نجم جمال عبدالناصر قد طغى على العالم العربي كله، وهو ما جعلني وأنا في هذه السن الصغيرة أبدأ في التعرف على قناة السويس والاتحاد السوفييتي والقضية اليهودية وأعرف مفردات مثل الاحتلال والاضطهاد والحروب الدينية وغيرها.

  • إذن فكرة النضال إلى جانب الحق الفلسطيني بدأت مع والدك وحملتها أنت من بعده سواء في أشعارك أو على أرض الواقع؟

- بالضبط، وإن كنت لم أرث نضال والدي وحدي، فنحن أربعة أشقاء، امرأتان ورجلان، شقيقي يعقوب وشقيقتي سهيلة وأنا انخرطنا ثلاثتنا منذ صبانا في المقاومة مع الثورة الساندينية التي اجتاحت نيكاراجوا وبلدان أمريكا اللاتينية، أما الأخ الرابع فلم ينخرط في شيء من الثورة، فعلى الرغم من تحمسه للقضية الفلسطينية والحق الفلسطيني، فإنه ظل بعيدًا عن النضال بالمعنى الذي مارسناه نحن، فشقيقي يعقوب عمل طويلًا إلى جانب المناضل الفلسطيني الكبير جورج حبش منذ العام 1968 في بعلبك، بعد عام واحد من تأسيس حبش للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مع وديع حداد وآخرين، وكان حبش  آنذاك يشغل منصب أمينها العام، كذلك كان يعقوب شقيقي الأكبر أحد الذين اشتركوا في التخطيط لعملية ليلى خالد في أغسطس من العام 1969، حين قامت ليلى بخطف طائرة شركة العال الإسرائيلية وتحويل مسارها إلى سورية، بهدف إطلاق سراح المعتقلين في فلسطين، ولفت أنظار العالم إلى القضية الفلسطينية، وكانت مهمة يعقوب هي تأمين وصول ليلى  خالد إلى المطار ومراقبتها عن بعد حتى صعودها إلى الطائرة.

  • دعينا قبل أن نتحدث عن مشاركتك الفعلية في النضال إلى جانب الحق الفلسطيني، نعود قليلًا إلى اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل والتي تم التوقيع عليها في سبتمبر من العام 1978، كيف كان وقع هذا الخبر عليك وعلى الناشطين الفلسطينيين؟

- في رأيي الشخصي لم تغير هذه المعاهدة شيئًا لدى الثوار والمناضلين الفلسطينيين، فهي لم تكن استسلامًا أو انبطاحًا للعدو الصهيوني كما يظن البعض، لكنها مرت مثل غيرها، وبقيت القضية ومناضلوها على ما هم عليه، وأتحدث هنا عن رأيي الشخصي في المسألة، فالمعاهدات والاتفاقيات السياسية لا تصنع أوطانًا أو تعيد الحق المسلوب إلى أصحابه، من ناحية أخرى، وكي أكون واضحة معك، أعتقد أن رحيل الزعيم المصري جمال عبدالناصر أضر بالقضية الفلسطينية أكثر مما أضرت بها معاهدة كامب ديفيد، وأكاد أوقن من أنه لو بقي جمال عبدالناصر حيًا لسنوات أخرى قليلة، لكان تاريخنا العربي كله تغير عما هو عليه الآن.

  • سألتك عن معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية لأن هناك العديد من المحللين السياسيين العرب الذين يرون أنها كانت سببًا في إضعاف المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل، فما هو رأيك؟

- أنا أتفق مع هؤلاء في هذه الرؤية، لكن علينا ألا ننسى كذلك أن هذه المعاهدة حولت المقاومة الفلسطينية إلى حكومات ومقاومات مختلفة في المنافي، في لبنان مثلًا، أنا كنت واحدة من الذين شاركوا في العمليات الفدائية الفلسطينية من بيروت ضد الاحتلال الإسرائيلي، إلى جوار العشرات من المناضلين العرب والأجانب، كان هذا في الفترة من 1980 وحتى 1982، أعتقد أن معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية والتي أعقبت التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد جعلت الفلسطينيين يتمسكون أكثر بخيار المقاومة المسلحة، وأعتقد أنه لولا هذه المعاهدة لما فتح لبنان أراضيه للمقاومة الفلسطينية كي يكون منفذًا لها ضد إسرائيل، فكما رأيت في لبنان، كانت المقاومة الفلسطينية مثل حكومة في المنفى، لهم مكاتبهم وموظفيهم وخبرائهم في جميع المجالات، وأيضًا رموزهم السياسية والنضالية، وعلينا ألا ننسى أن هذه الفترة هي الفترة الذهبية للمقاومة الفلسطينية المنظمة ضد إسرائيل، ولولا حصار بيروت في العام 1982 لكانت المقاومة الفلسطينية استمرت من بيروت ضد إسرائيل.

دعوة عرفات

  • حدثينا عن هذه الفترة من حياتك، كيف انتقلت من النضال إلى جانب الثورة الساندينية في نيكاراجوا إلى النضال المسلح في صفوف المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي من بيروت؟

- حدث هذا الانتقال في أواخر العام 1979، حين قام ياسر عرفات بزيارة إلى عدد من بلدان أمريكا اللاتينية والتقى خلالها بالعديد من القادة والمناضلين والسياسيين وكان على رأسهم فيديل كاسترو ورموز الثورة الساندينية، وفي أحد هذه اللقاءات تعرفت على ياسر عرفات ودعاني إلى المشاركة في صفوف المقاومة الفلسطينية من بيروت، كنت في هذه الأثناء قد تزوجت وأنجبت بنتين وانفصلت عن زوجي بعد العديد من المشكلات الأسرية، وكفرار من الواقع الأسري الذي كانت أحياه بسبب من طليقي قبلت الدعوة وسافرت إلى بيروت أوائل العام 1980، لأتعرف في بيروت على واقع جديد للمقاومة  المسلحة، ورموز عديدة للنضال الفلسطيني مثل محمود صبح وخليل الوزير المعروف بـ «أبي جهاد» وأبي مازن وعرفات وغيرهم، وبقيت عامين في بيروت على مقربة من ياسر عرفات باعتباره زعيم المقاومة الفلسطينية، لكنني قررت مغادرة بيروت والعودة إلى نيكاراجوا في العام 1982.

  • وكيف كانت العلاقة بينك وبين عرفات في هذه الفترة؟

- كانت العلاقة في البداية علاقة زمالة وكفاح مشترك ضد عدو واحد، لكن مع الوقت تطور الأمر بيننا إلى علاقة حب جمعتنا عامين سويًا في بيروت، واستمرت علاقتنا حتى بعد عودتي إلى نيكاراجوا في العام 1982، وحتى قبل رحيل عرفات في العام 2004 كانت الاتصالات التليفونية بيننا مستمرة، كان دائم الاتصال بي وكنت أجده جواري مع كل أزمة تواجهني في الحياة، وكثيرًا ما كان يطلب مني العودة إلى فلسطين لأكون بجواره، وحين كنت أتحجج بابنتيّ، كان يطلب مني العودة معهما لأكون معه، وهو ما رفضته تمامًا، لإيماني أن دور عرفات التاريخي لا يحتمل أن يشوش بدخوله الإطار الأسري المعروف، ياسر عرفات ناضل طويلًا وأصبح رمزًا للقضية الفلسطينية بكاملها، وكنت أؤمن أنه كي يستمر رمزًا عليه أن يخلص تمامًا لهذه الرسالة وحدها.

  • ولكن ما أسباب قرارك بالمغادرة والعودة إلى نيكاراجوا في العام 1982، هل حدث هذا بسبب خلاف بينك وبين عرفات؟

- لا، ولكن كان قراري بالعودة خاص بوجود ابنتيّ في نيكاراجوا، كنت قد تركتهما آنذاك وذهبت إلى بيروت للمشاركة في النضال الفلسطيني، لكنني حين عدت إلى نيكاراجوا بقيت أعمل في السفارة الفلسطينية في العاصمة النيكاراجوية ماناغوا، وكان الأمر أشبه بالنضال نفسه ولكن من خندق آخر.

  • سمعت أنك تعكفين حاليًا على كتابة مذكراتك عن علاقتك بـياسر عرفات، فهل ستسجلين في هذا الكتاب رحلة نضالك السياسي والمسلح إلى جانب المقاومة الفلسطينية من بيروت أم ستتطرقين إلى أمور شخصية؟

- الكتاب كله يتمحور حول أمرين، هو في الأساس يسعى إلى رسم صورة للرئيس والزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، الذي عرفته عن قرب خلال هاذين العامين، والذي أجد أن له صورة أخرى مغايرة عما هو معروف عنه، كذلك أتناول في الكتاب الخطأين اللذين أرى أن عرفات ارتكبهما طوال مسيرته النضالية، الخطأ الأول هو معاهدة السلام التي وقعها مع الجانب الإسرائيلي (أوسلو) تحت ضغوط عالمية لا تحتمل مورست عليه، وأرى أن قراره بتوقيع هذه الاتفاقية لم يكن صحيحا، والخطأ الثاني هو زواجه.

  • هل عرفات الذي عرفته عن قرب في الثمانينيات هو نفسه عرفات الذي وقع معاهدة السلام في ما بعد مع إسرائيل وهل هو نفسه الذي تزوج من سها الطويل، أم تغيرت فيه أشياء كثيرة؟

- طبعا هو الشخص ذاته، وبالمناسبة حول هذه النقطة يدور جزء كبير من مذكراتي التي أعكف على كتابتها الآن عن عرفات الإنسان، والتي ربما لن تعجب الكثيرين لأنها حقيقية وصادمة في أحيان كثيرة، العديد من الناس يعتبرونني سليطة اللسان في الحق، وهناك الكثيرون ممن كانوا يحيطون بعرفات في الثمانينيات كانوا يكرهونني بسبب من صراحتي هذه معه، كانوا يجاملونه وكنت أقول الحقيقة، وكان يتحملني كثيرًا، وينصت لي قبل أن يتخذ قراره، الذي ربما يتخذه بعد دقائق من إنصاته لي راميًا ما قلته للتو خلف ظهره.

  • كيف كان شعورك وأنت تشاهدين جنازة عرفات؟

- حزن لا ضفاف له، بكيت كثيرًا وأنا أشاهد جنازته على شاشة التلفزيون، وكتبت قصيدة أحكي فيها عما شعرت به حين مشاهدتي جنازة هذا الرجل العظيم الذي أحببته. أعتبر ياسر عرفات هو الرمز الأقوى للثورة والمقاومة الفلسطينيتين، لكن كان هناك بالطبع إلى جواره العديد من الرجال الذين كان يجب أن يكونوا رموزًا موازية لعرفات.

  • مثل من؟

- سيكون من الصعب أن أذكر لك أسماء محددة، خاصة وأن مقابلتنا هذه ستنشر باللغة العربية، وربما حين أذكر اسمًا دون آخر يغضب مني من لم آت على ذكرهم، لذا أفضل عدم ذكر أسماء بعينها.

  • وماذا عن أبي مازن؟

- أبو مازن كان رجلًا قويًا وطيبًا جدًا، والفرق بينه وبين عرفات أنه كان يحسب الأمور بشكل دقيق جدًا، على العكس من ياسر عرفات الذي كان يغلبه تسرعه في أحيان كثيرة ويتخذ قرارت مصيرية بتسرع يندم عليه في ما بعد، ومن الصعب عليّ الآن أن أفكر على النحو الذي يقترحه كثيرون من أنه لولا وجود ياسر عرفات لكان أبي مازن هو رمز الثورة الفلسطينية بدلًا من عرفات، العالم العربي يقدس رموزه، ولا يرضى عنها بديلًا، فحين تطلع على الأمور مثلًا في نيكاراجوا، تجد أن المناضل الثوري ساندينو هو رمز كبير للنضال ضد الهيمنة الأمريكية في أمريكا اللاتينية كلها، لكن ستجد بجواره أيضًا رموزًا أخرى لا تقل عنه مكانة ولا قيمة، مثل دانييل أورتيجا على سبيل المثال لا الحصر، عاهة العالم العربي الركون إلى جهة واحدة وتقديسها، ونفي ما سواها إلى مجاهل النسيان.

  • حدثينا عن بدايتك مع النضال الثوري في شبابك، هل بدأ هذا النضال مع القضية الفلسطينية أم مع الثورة الساندينية في نيكاراجوا وأمريكا اللاتينية؟

- بدأ الأمر منذ وعيت على كوني من أصل فلسطيني، لكن النضال الحقيقي لم يتشكل بداخلي ويتخذ صورة الفعل إلا مع اندلاع الثورة الساندينية في أمريكا اللاتينية، هي التي حولتني إلى هذه المرأة المجنونة التي تحارب في الغابات لأجل حق إنساني بحت في حياة كريمة وعادلة، فانخرطت في صفوف الثورة في نيكاراجوا منذ شبابي الأول، لذلك وكما حكيت لك في بداية حوارنا، لا أستطيع أن أجزأ نفسي، أنا إنسانة نيكاراجوية من أصول فلسطينية والعكس أيضًا صحيح.

  • كيف كان دورك النضالي في صفوف الثورة الساندينية؟

- كنت امرأة عسكرية، أحمل السلاح وأوزع الجنود والسلاح على نقاط المقاومة، حينها كنت مسئولة عن مصلحة السجون النيكاراجوية بكاملها، وكانت أغلب السجون وقتها ممتلئة بالمؤيدين لسموزا.

تصحيح خطأ الأجداد

  • وأنت في الثانية والثلاثين من عمرك كنت تحاربين في صفوف المقاومة الفلسطينية من بيروت لأجل الحق العربي، اليوم وأنت في السادسة والستين، كيف ترين مصير هذا الحق الفلسطيني؟

- لا أفقد الأمل أبدًا في عودة فلسطين إلى أهلها، واليوم مع ما يحدث في العالم العربي من حراك شعبي وثورات شعبية، أصبحت أكثر إيمانا بأنني لن أموت قبل أن أرى أرض فلسطين تعود إلى الفلسطينيين، هناك العشرات الذين ماتوا فداء هذا الحلم، مات الحكيم وأبو جهاد وياسر عرفات وجورج حبش وأبو عماد وغيرهم كثيرون، كلهم ماتوا، ماتوا لأجل أن يتحقق هذا الحلم، حتى لو مت أنا، فسوف تظل أنت لتحلم بهذا الحلم نيابة عن كل من ماتوا، وإذا مت أنت فسوف يحيا أطفالك ليحلموا الحلم ذاته، لكنني أعتقد أنني لن أموت قبل أن أدخل فلسطين محررة وأحمل علمها عاليًا مع أبنائها، وما أقوله الآن ليس كلامًا بلا معنى، وليس من باب الثرثرة، أحكي عن يقين تام أنني لن أموت قبل أن أرى أرض فلسطين تعود إلى أهلها، أريد أن أحكي لك ما أكرر قوله في كل مقابلة معي، ولن أكف عن ترديدها ما دمت حية، أعتقد أن أجدادي ما كان يجب أن يهاجروا من فلسطين إلى أمريكا اللاتينية، بغض النظر عن كل ما صار من أحداث تاريخية ساهمت في جعل اليهود يحتلون فلسطين، إلا أنني أعتقد أنه ما كان على أجدادي أن يتركوا أرضهم ويهاجروا، كان يجب عليهم أن يناضلوا من داخل فلسطين لا من خارجها، ما حاولت فعله حين ذهبت في بداية الثمانينيات من القرن الماضي إلى فلسطين هو تصحيح خطأ أجدادي حين غادروا فلسطين.

  • حدثتينا عن ديوانك الأول، ماذا عن ديوانيك اللاحقين؟

- ديواني الثاني صدر في العام 2007 تحت عنوان «حتى لا تموت الكلمات»، وأخيرًا أصدرت ديواني الثالث بعنوان «أكتب خريفي»، أتناول فيه علاقة حب تتخذ منحى إيروتيكيًا، وأعتقد أنه سيتم انتقادي فيه بقوة، خاصة وأن هذا الملمح لم يظهر في أعمالي السابقة، ولم يتعود عليه القارئ مني. كما أشتغل الآن على كتاب جديد بعنوان «إعصار متمرد»، أتمنى أن ينشر أولًا باللغة العربية، سيكون بكامله حول ياسر عرفات، وستكون هذه شهادتي عنه، وأعمل الآن على أن ينشر في فلسطين أولًا قبل إصداره بالإسبانية، وأتمنى أن أقيم له حفل توقيع في رام الله.

  • هل سيتضمن كتابك الجديد عن عرفات أسرارًا لا يعرفها العالم العربي عن شخص ياسر عرفات الرجل والإنسان والمناضل والرمز؟

- أعتقد نعم، لأنني أكتب عن عرفات الرجل، وكيف يكون حين يحب امرأة، وهو الجانب الذي لا يعرفه الكثيرون عنه، أحكي فيه كيف وقعت في حب عرفات، وكيف كان سلوكه معي، كان أكثر الرجال الذين أحببتهم في حياتي، أو لأقل الرجل الوحيد الذي أحببته في حياتي.

  • هل حكي لك عرفات أثناء فترة حبكما عن علاقات نسائية أخرى له قبل معرفته بك؟

- نعم، كان يحكي كثيرًا عن علاقة عاطفية ارتبط فيها مع فتاة مصرية اسمها سعاد، وكان أن خطبها عرفات فعلًا أواخر السبعينيات من القرن الماضي، لكنها قتلت أو ماتت في حادث سير، ولم يحك لي أبدأ عن كيفية رحيلها أو قتلها، لكن أذكر أن (...) كان يداعبني كثيرًا ويقول إن عرفات لم يحبني لشخصي ولكن لأنني أشبه حبيبته المصرية في الشكل والاسم، وكان هذا الأمر يضايقني جدًا، كنت في الحقيقة أغار.

  • ألاحظ وسط قصاصات الصحف التي تحتفظين بها منذ فترة وجودك في لبنان مطلع الثمانينيات وجود عدد من قصائدك المترجمة من الإسبانية إلى العربية، من قام بترجمة هذه النصوص لك ونشرها في العالم العربي؟

- ترجم أحمد صبح عددًا من قصائدي الأولى وصححها علي فودة ونشرت في صحف ومنشورات بسيطة كانت تصدر في بيروت آنذاك ومن بينها صحيفة «الرصيف»، وما زلت أحتفظ بأحد أعداد هذه الجريدة حتى الآن، ومازلت أحلم بصدور مجموعة شعرية كاملة لي في اللغة العربية، لكن هذا خطأي، فأنا كسولة جدًا.

  • هل تجدين في الشعر العربي خصوصيات تمايزه عن الشعر في نيكاراجوا؟ أقول هذا مسترجعًا ما قلته من قبل من أن أشعارك تحكي كثيرًا عن الياسمين والغياب والنفي وهو ما سميته أنت بالحس العربي في الشعر؟

- الشعر شعر في أي مكان على وجه هذه الأرض، لا تمايزه مفردات أو مناخات، لكن لو قرأت الفلسطينية فدوى طوقان في قصائدها عن فلسطين ووضعت ما تكتبه أمام قصائد شاعرة نيكاراجوية كبيرة مثل جيوكاندا بيللي، ستجد أن الكتابة تتشابه كثيرًا، خذ مثلًا قصائدك أنت حين قرأتها بالإسبانية شعرت أنني لا أقرأ شاعرًا عربيًا وحسب، لكنني شعرت بأن هذه النصوص عبرتني من قبل، ولذلك شعرت بالتوحد معها سريعًا.

  • كيف كانت مشاعرك وأنت تتابعين أحداث الثورات العربية؟

- كانت مشاعر غريبة لم أعرفها من قبل، فحين بدأت الأحداث في تونس لم أنتبه كثيرًا إليها إلا بعد هروب بن علي، ولكن مع اندلاع الثورة المصرية بدأت أتابع أحداثها لحظة بلحظة، وأعتبر الآن أن أيام الثورة المصرية كانت من أجمل أيام حياتي، فرحت بهذا الشعب الكبير الذي انتفض وحطم نظام نخره السوس، وعادت بي الأيام لأتذكر يوم مقتل السادات، وقتها كنت في غرفة بأحد الفنادق الهولندية، كان ذلك يوم 6 أكتوبر سنة 1981، يومها غضبت لمقتل هذا الرجل، وحزنت جدًا أن يموت في يوم انتصاره على العدو الصهيوني.

  • يدهشني ذلك، لأن كثيراً من الفلسطينين حينها رأوا في مقتل السادات جزاء له على توقيعه معاهدة السلام مع إسرائيل كما أعلن قاتلوه حينذاك؟

- غضبي كان من فعل القتل ذاته، من الطريقة في تصفية الأشخاص الذين نختلف معهم، وقتها كنت أعتقد أن حسني مبارك سيكون أفضل من السادات، لكنه جاء ليغيب دور مصر عربيًا وعالميًا، شنق الشعب المصري بكامله وشنق معه الكثير من القوة العربية، مصر في اعتقادي هي رمانة ميزان العالم العربي، لا يمكن لنا الآن أن نفكر في بلد آخر يستطيع أن يلعب هذا الدور، الثورة المصرية أعادت بداخلي الأمل في تحرر فلسطين، بعد أن كدت أستسلم لفكرة ضياع الأرض والوطن.

 






عماد فؤاد ينصت لسعاد مرقص أثناء تسجيل الحوار





صورة تجمع ياسر عرفات وسعاد مرقص بمكتبه في بيروت عام 1980





 





عماد فؤاد وسعاد مرقص اثناء فعاليات المهرجان





سعاد مرقص وأبو جهاد 1980





المقاومة الفلسطينية في بيروت 1980





سعاد بلباس المقاومة ببيروت





ترتدي زي المقاومة في بيروت سنة 1980





سعاد مرقص تحمل السلاح في بيروت سنة 1980





تقرأ أشعارها على كرسيها المتحرك في مهرجان نيكاراجوا العالمي للشعر