تعقيب على مقال: «وطن الثقافة..الهوية الأكبر»

تعقيب على مقال: «وطن الثقافة..الهوية الأكبر»

في العدد 640 من مجلة العربي لشهر مارس (آذار) 2012، قرأت مقال رئيس التحرير د. سليمان إبراهيم العسكري بتأنٍّ وتمعن، وهو مقال جدير بالقراءة، وجدير بأن يرِدَ ضمن مواد مجلة شهيرة واسعة الانتشار في جميع الأقطار العربية، وقد وقفت على محور موضوعه المتعلق بالهوية والثقافة، وخلاصته أن الصراعات المجتاحة للعالم سببها الأول يكمن في الاختلاف في الفكر والرأي والعقيدة والطائفة والتباين بالأعراق واللغات والهويات التي تحيا تحت سماء الوطن الواحد لتؤججها مصالح اقتصادية وسياسية داخلية وخارجية بعد ذلك.

وقد تساءل الكاتب عن إمكانية أن تصبح ثقافة الأمة الواحدة وطنا أكبر حاضنا لتلك الهويات المختلفة لتأتلف وتتناغم جميعا تحت سقف الثقافة باعتبارها الهوية الأكبر، ويرى أن الصراع حول الاختلاف جينٌ أصيل في الجنس البشري على مر العصور، وضرب لذلك أمثلة كثيرة أغنت الموضوع وعززت محتواه، وفي اعتقاده أن لب المشكلة هو انعدام المساواة وتعامي الدولة عن الاختلافات بين الجماعات المكونة لها وعدم الاعتراف بحقوق هذه الجماعات المتنوعة في الممارسة الثقافية لغة وأدبا وعادات وتقاليد علاوة على الممارسات الدينية. ويتطلب رد الاعتبار لها وجود دولة ديمقراطية مدنية توفر البنية الممكنة لتلاقي تلك الهويات وصهرها في بوتقة التنوع من أجل الوحدة وليس العكس. وإذا كان الدين هو المحرض الأساسي على الصراع فقد استند الكاتب إلى عبارة المؤرخ الشهير «إدوارد جيبون»، مؤلف «اضمحلال وانهيار الإمبراطورية الرومانية» ليخلص إلى الطريقة المثلى التي تعامل بها الحاكم الروماني إزاء الصراع والاختلاف مما نجم عنه سيادة التسامح والوئام الديني في إمبراطوريته. وتبعا لذلك فإن الديمقراطية أكثر من مجرد مسوغ للاحتفاء بالاختلاف، لأنها نظام سياسي يشتمل على الثقة المتبادلة والالتزامات الأخلاقية في المجتمع دون تمييز. وضرب الكاتب أمثلة عن محاولة تدبير الخلاف داخل الدولة الواحدة فاستشهد بالمغرب العربي (الحالة الأمازيغية) حيث إن المملكة المغربية خطت خطوات ملموسة في تدبير الاختلاف فمنحت الأمازيغ حقوقا طالما نادوا بها، وشكلت المبادرات المغربية الرائدة نموذجا للجزائريين، كما شكلت أملا لليبيين بعد رحيل القدافي.

ويرى الكاتب «أن دمج الأمازيغ في المجتمع لم يكن ليأتي قسرا حيث إن الحقوق الممنوحة تعد مبادئ أساسية كفلتها الدساتير القائمة بالفعل»، ويبقى الأمر الأهم هو الاحتفاظ على سيادة الدولة من جهة والاحتفاظ بهوية الجماعات الثقافية المختلفة من جهة أخرى. ويضرب مثلا آخر بالسودان بين الانفصال والاستقلال، وبجمهورية العراق في علاقتها بالمسألة الكردية، ليخلص إلى أن حقوق الأكراد مثل حقوق الأمازيغ يمكن أن تمنح دونما المساس بحقوق ثابتة وأصيلة للدول في الحفاظ على وحدتها، لأن الاستجابة لأية دعوات انفصالية يمكن أن يحول دول العالم المائتين إلى أكثر من ألفي كيان سياسي مشتت، وهي فوضى نظرية، وعبث يبعد عن فرضية الاحتمال.

وبسبب كثرة المهاجرين اليوم صارت كل المجتمعات تضم مجموعة متنوعة من الديانات واللغات والأقليات العرقية والممارسات الثقافية مما يوجب وجود معايير تنظم التفاعل بينهما. ويدعو رئيس التحرير في نهاية مقالته إلى أن تكون الثقافة وطنا حاميا للتعدد والاختلاف. وتكون الدول الحرة المدنية الديمقراطية حاضنة للهويات المختلفة، فالوحدة واحترام التعدد الثقافي يمثل وطنا أكبر يحمي هذا التنوع.

هكذا يطرح المقال إشكالات تعج بها المجتمعات العربية وغيرها إزاء مشكل الاختلاف والتنوع والمناداة باسترداد الهويات أو فرضها على حساب غيرها... وأعتقد أن المجتمع العربي اليوم أحوج ما يكون إلى الاهتمام بالمشكل وتدارسه بعمق، وذلك لتفويت الفرص أمام اللاهثين من أجل تشتيت الأمة العربية الإسلامية التي يشكل الدين الإسلامي فيها الفسحة الضَّامة لجميع الطوائف على اختلاف مشاربها وثقافاتها، ولا بد من التسلح بالتعقل والعلم بغية الحفاظ على عناصر التوحد بين مختلف طوائف المجتمعات من أجل نهضة اقتصادية ومعرفية وثقافية تشيع الوحدة والتكامل والاتحاد في مواجهة المصائر المشتركة، سعيا وراء خلق تواصل إيجابي مع بعضها ومع غيرها من المجتمعات المختلفة، ومن شأن ذلك أن يضمن للمجتمعات العربية عمقا استراتيجيا كفيلا بتقدمها وتفاعلها من دون المساس بثوابت الهوية والثقافة، فنحن في حاجة ماسة إلى حماية إطار أكبر قد نسميه الهوية الكبرى، وذلك عبر الحفاظ على ثقافة التعايش والتواصل والانفتاح خوفا من السقوط في براثن التوجهات العنصرية والإرهاب والإقصاء. فالتناغم في المجتمع تفرضه المصلحة العامة والأمن القومي ومتطلبات التعامل الناجع مع المجتمع الدولي، لذا فلابد من التفكير في تناغم عربي إسلامي ولو كان ذلك عبر المرتكز الشعبي باعتباره عمدة التحصين والائتلاف أمام الاختراقات والاحتلال والاستلاب. ونؤكد مرة أخرى على ضرورة الرؤية النافذة المرتكزة على استخدام المنطق والتحليل العميق من أجل تحديد الكائن وما ينبغي أن يكون. ولن يتحقق ذلك إلا بتواصل ثقافي فعال يعزز من الروابط الإنسانية المشتركة بيننا كناس قبل التفكير في انتماءاتنا المختلفة، ومن شأن ذلك أن يضمن للجميع القدرة على التوفر على حاجاته في الأمن والاستقرار والتعايش السلمي..ومن سمات التواصل الثقافي الإيجابي الدفع نحو العمل على ربط وتحسين العلاقات وتثمين المشترك الثقافي بشكل حضاري. فالاختلاف كما يقول الفقهاء رحمة للناس، و من خلال الاختلاف والتربية على ثقافته تنشأ دينامية تعمل على تعميق العلاقات الاجتماعية والإنسانية في جو من الود يتجاوز طوائف المجتمع الواحد نحو التفاعل مع كل الشعوب بما تحمله من اختلافات ثقافية وهوياتية.

ومن المسَلّم به أن كل المجتمعات الإنسانية تعتريها منظومات سلوكية تتباين من مجتمع إلى آخر، بحكم عوامل جغرافية ولغوية واستعمارية... إلا أن هذا كله لم يمنع مجتمعات من ربط جسور التواصل بين شعوبها في بنية موحدة يتآزر فيها الأفراد والجماعات بمنطق أن المشترك الإنساني من أولى الأولويات.

انطلاقا مما سبق يحتاج المجتمع العربي إلى:

- إعادة النظر في تدبير الاختلاف، عبر الدراسة والتمحيص والتوعية في المدرسة وفي المؤسسة الإعلامية مع الإنذار بخطورة التفرقة على حياة الفرد والمجتمع.

- الاستفادة وأخذ العبرة من التمزقات الاجتماعية، والصراعات القاتلة المزهقة لملايين الأرواح في العالم بدعوى الأحقية في فرض الهوية على حساب المصالح المشتركة.

- التوعية بكون العالم في حقيقته وبكل شعوبه يطبعه التنوع والاختلاف، والعبرة في التعامل معه بإيجابية حتى لا يفضي إلى العنف والفرض القسري للوجود على حساب الآخرين، وهو أساس الغلو والتناطح المميت عبر التشنج والسعي نحو الإقصاء. ولذا يجب التفكير في التكامل من أجل التنمية الثقافية والاقتصادية الشاملة.

- التوعية بصدد كون التباين في الفكر والعقيدة والثقافة لا يعني التباين في الحقوق والأهمية، فكلنا إنسان في نهاية المطاف، وإنسانيتنا تفرض علينا التقارب وتبادل المصالح. حتى نستطيع التواصل بيننا بغض النظر عن التباين الذي يعتري آراءنا ومعتقداتنا وكل خلفياتنا الثقافية والتاريخية. فالاختلاف من سنن الله تعالى في كونه، ولا يمكن التمتع بالأمن ما لم نقتنع بذلك اقتناعا جازما.

وجميل أن أختم بقول رئيس التحرير : (إن العالم «المتحضر» يسعى للحفاظ على الأنواع النادرة من النباتات والفصائل التي تتعرض للخطر من الحيوانات، فينشئ لها محميات خاصة، وحدائق مفتوحة، وصوبات مغطاة، وإذا كنا نفعل ذلك مع الكائنات الحية التي تتمتع بندرة تماثل الأقليات الثقافية، أفلا يحق للبشر ذلك ؟!.)...إنها دعوة إلى اليقظة قبل السقوط الذي لا نهوض ولا نهضة بعده.

لحسن ملواني - المغرب