ملف العمارة في الفن: الرواية... متاحف سردية
ملف العمارة في الفن: الرواية... متاحف سردية
الرواية والعمارة
تمثل الروايات العربية - في أطوارها المختلفة - نماذج فخمة لأوصاف دقيقة ونادرة لأشكال متنوعة من العمارة العربية. وإذا كانت الأماكن والشوارع والبيوت تحظى بتسجيلات متنوعة؛ فوتوغرافية وتشكيلية وسينمائية، إلا أن سمات متفردة تبقى للتسجيل السردي والروائي على وجه الخصوص. كل الفنون تحب العمارة فالفوتوغرافيا تقدم نسخة أمينة من المكان أو البناء بشكل محايد صامت، يكتفى فيه بإطالة عمر الأثر الذي نقلته الكاميرا، لينتشر أفقيا على مستوى المكان في شكل مطبوعات ورقية أو إلكترونية، ورأسيا على مستوى الزمن، ومثال ذلك الدور الصور الفوتوغرافية الشهيرة للأهرام المصرية وقد جرى النيل بجوارها، وبجوارها أبو الهول وقد غطته الرمال إلا رأسه. أما الفن التشكيلي فقد أضاف بعضا من طعم الإنسانية إلى الصورة، وسكب رؤية وإحساس الفنان على الأثر، فأضاف الروح والنفس الإنساني إلى الطبيعة الصامتة. كما حاولت الريشة خلق حالة فكرية أو منطق معين يربط بين الصور. وكانت البيوت الكويتية مثلا هي موضوع المعرض الذي أقامه الفنان عبدالحميد الخليفي تحت عنوان (البيت الكويتي وتكوينات أخرى)، عرض من خلال لوحاته لتطور العمارة الكويتية من القديم إلى الحديث والمعاصر بأشكاله وتجلياته المعمارية المختلفة، وهو المعرض الذي حاول به أن يوثق المشهد والذوق المعماري القديم بوسائل حداثية معاصرة، وذلك كله من وحي هذه العمارة نفسها التي قطعت رحلة كبيرة من البساطة إلى الحداثة والمعاصرة. الرواية توثق الذوق العربي وفي هذا السباق الوصفي التوثيقي للعمارة بدت الرواية العربية ثرية موثقة للذوق العربي، راصدة لتطوره وتنوعه، مؤكدة على خصوصيته وشخصيته. واستطاع الروائيون بتوظيف أنماط العمارة تحقيق أهداف فنية وإيديولوجية مهمة في رواياتهم؛ فضلا عن الهدف التزييني الذي يلف الرواية بغلالة رقيقة من الصور السردية لأماكن وأشكال مميزة ومتمايزة للمكان الذي ارتضاه الإنسان شاهدا على حياته وحضنا لآلامه ومنطلقا لطموحه وأحلامه، فاتخذه بيتا ومستقرا. وميزت الأوصاف السردية بين عمارات الدول والشعوب العربية المختلفة، فحارات ومشربيات نجيب محفوظ في البيئة المصرية، اختلفت عن ديوانيات وأحواش إسماعيل فهد إسماعيل وعبده خال في الخليج، وظهرت العمارة المغربية التي جمعت روح الحضارة المتوسطية عبر تاريخها مع بهجة الحضارة الأندلسية التي أمطرت على المغرب فكست الثقافة والعمارة معا بدفء الفردوس المفقود؛ فرأينا السمة الإسلامية الغالبة على العمارة المغربية ذات الأقواس في الأبواب والنوافذ، كما توحدت ألوان البيوت بشكل جمعي مميز لكل مدينة مغربية ميزها عن غيرها؛ فاللون الأبيض ميز مدن الشمال مثل تطوان، والأحمر في مراكش..... وكلها أجواء حفلت بها روايات المغاربة أمثال محمد شكري ومحمد زفزاف وسالم بن حميش. عمارة المصريين عبر مهندس الرواية وعن العمارة المصرية مثلا فلا يستطيع التشكيلي بريشته أن يصور القاهرة الفاطمية على النحو الذي أبدعه نجيب محفوظ في الثلاثية، حين اختلط تراب الأزقة بعرق الحرافيش، وبدت عيون البنات من بين فتحات المشربية. واستطاعت عمارة محفوظ السردية أن تقدم لنا طبقات المجتمع حسب غناه وفقره، فقد كان وصف مساكن كل طبقة بليغا في الإشارة إلى المعاناة التي تسحقها، أو إلى النعيم الذي يغرقها... وهي تقنية تخرج عن الدور التزييني للوصف إلى مرحلة البناء النفسي للشخصية، بل والبناء الاجتماعي للوطن. وقد أقام نجيب محفوظ في روايته المهمة (بداية ونهاية) هذه الثنائية بين نموذجين من العمارة والتي كانت في جوهرها بين نمطين من الوجود ومستويين من الحياة. وفي المقطع التالي من الرواية نطالع وصفا لشقة قررت الأم الانتقال إليها بعد تغير الحال بموت الأب، والهبوط درجة جديدة في السلم الاجتماعي، ما كان معه التخلي عن الشقة ذات الشمس والهواء أمرا حتميا، وصارت الشقة الأرضية التي يرى من بداخلها رؤوس المارة بالشارع من خلال نوافذها صارت هي الوطن الجديد للأسرة المنكوبة...... (قالت الأم : سنترك الشقة إلى الدور التحتاني. سنتبادل السكن مع صاحبة البيت. شقة أرضية بمستوى الفناء الترب، لا شرفة لها، ونوافذها مطلة على عطفة جانبية تكاد تبدو منها رؤوس المارة، وطبعا محرومة من الشمس والهواء) - بداية ونهاية، ص 36. وبدا الأغنياء يعيشون في ترف لافت، عمد الروائي إلى تصوير المسافة الشاسعة بين مجتمعين من خلال المقارنة بين وصف مسكنيهما، وتكون الصورة أبلغ دلالة عندما يكون وصف فيلا من خلال وعي أبناء الطبقة الفقيرة: (ذهب الشقيقان عصرا إلى شارع طاهر وقصدا بيت البك. ودخلا يسيران في ممشى الحديقة الوسط وهما ينظران إلى شتى الأزهار التي كست الأرض بألوان بهيجة بدهشة، ثم صعدا إلى السلاملك، ثم إلى بهو الاستقبال الكبير، واتخذا مجلسهما على كثب من الباب بالموضع الذي اختارته أمهما قبل ذلك بعامين. وجرى بصرهما سريعا على البساط الغزير الذي يغطي أرض الحجرة الواسعة، والمقاعد الكثيرة الأنيقة، والطنافس والوسائد، والستائر التي تنهض على الجدران كالعمالقة، والنجفة المتدلية في هالة لألاءة من سقف عال انتشرت بجوانبه المصابيح الكهربائية) - الرواية ص 180 - 181. عشوائية الوجود عبثية العمارة وفي موقع آخر من أدب محفوظ نعثر على عمارة بلا مسكن، وهو ما اختص به من يعيشون تحت خط الفقر، وهو ما يطلق عليه سكان العشوائيات؛ حيث وسمت العشوائية كل شيء حتى الأشكال الثابتة والمستقرة للمساكن. فإذا كان المنزل بصورته الذهنية لدى معظم الناس يقوم على أنه بناء منتظم، يحوي أماكن ومرافق صالحة لحياة الإنسان وسكنه ومستقره، فإن الانحراف بهذه الأوصاف إلى درجة غيرمعهودة، بل غير معقولة، إنما يكون للدلالة على أن ثمة شخصية تسكنها لها نفس الأوصاف.... وهو ما ينطبق على (زيطة وحسنية وزوجها جعدة) في رواية (زقاق المدق) مساكنهم أسطورية كشخوصهم العبثية : (يقع الفرن فيما يلي قهوة كرشة، لصق بيت الست سنية عفيفي. بناء مربع على وجه التقريب، غير منتظم الأضلاع، يحتل الفرن جانبه الأيسر، وتشغل الرفوف جدرانه، وتقوم مصطبة فيما بين الفرن والمدخل ينام عليها صاحبا الدار: المعلمة حسنية وزوجها جعدة. وتكاد الظلمة تطبق على المكان ليل نهار لولا الضوء المنبعث من فوهة الفرن. وفي الجدار المواجه للمدخل يرى باب خشبي قصير يفتح على خرا. إذ ليس بها إلا كوة في الجدار المواجه للمدخل تطل على فناء بيت قديم.. وعلى الأرض - تحت الكوة مباشرة كان يوجد شيء مكوم لا يفترق عن أرض المكان قذارة ولونا ورائحة لولا أعضاء ولحم ودم تهبه الحق على رغم كل شيء في لقب إنسان! ذلك هو زيطة مستأجر هذه الخرابة...) - زقاق المدق: ص 60. «الحُوش» أيقونة العمارة الخليجية يشكل عدم الاختلاط ركنا بارزا في أدبيات الحياة الاجتماعية في الخليج، وقد عبر الشكل المعماري للبيت الخليجي المعادل الموضوعي لهذه الأدبيات شديدة المحافظة. ويمثل الحوش الذي يحتل مساحة كبيرة في البيت المتنزه الأول لمحارم الأسرة الخليجية؛ إذ يوفر لهن تعويضا عن الخروج إلى عالم المتكرر خارج البيت، كما يتيح متنفسا ترويحيا يقنعن به. وفي روايتها المبكرة (وسمية تخرج من البحر) تصور ليلى العثمان صورة لمنزل خليجي يبدو فيه الحوش في قلب المشهد: (كان البيت كبيرا، مربع الحوش. تتوسطه بركة ماء يتدلى دلوها. وكم سقط الدلو. وكم تراكضت وسمية لاقتلاعه من منفاه بالملص. وحين يفلح أحدنا ينتصر على الآخر. ويغيظه. حول البركة، كانت تنحسر في دوائر، قطرات الماء المتساقطة من الدلو، وكنا نزرع حولها بعض الشعير. ونتراهن من يكبر نبته أكثر. من الحوش الكبير الذي تلتف حوله اللواوين من ثلاث جهات، تتفرع أحواش أخرى : حوش المطبخ. وفيه مطبخان، واحد كبير لأيام الولائم، وآخر صغير تدخله أم وسمية كل يوم، فتفوح في خياشيمي روائح «المكبوس» و«المعدّس».....) الرواية : ص 14 و15. غريبة عمارة المغرب ومغتربة أيضًا وعند النظر إلى العمارة في المغرب ما بين الواقع المعيش والخيال السردي، فقد سجلت الرواية ما تتميز به العمارة المغربية من تنوع وامتزاج بينها وبين كل من الحضارات الإسلامية والأمازيغية والرومانية؛ بالإضافة إلى ألوان متعاقبة من الاستعمار البريطاني ثم البرتغالي والفرنسي...... وهو الخليط الممتد على مستوى الزمان والمكان ليحقق نوعا فريدا من العمارة شديدة التميز والثراء. وأبرز ما يميز الديكور المغربي هو التنوع الشديد واللافت في توظيف الألوان، سيما توظيف الألوان المتضادة. وهي الألوان التي استوحاها الفنان المغربي من بيئته المغربية؛ ببحرها ومحيطها وصحرائها وجبالها؛ كان لذلك كله أثره في فورة الألوان المستلهمة من الصخور والتربة والأشجار والزهور، وذلك كله تجلى في توظيف اللون البني المحمر مع اللون الزعفراني وكذلك الانتشار الواضح للون الأخضر العشبي في ربوع العمارة المغربية. وتبدو الأقواس شكلا مميزا للعمارة في المغرب، حيث يبدو الشكل نصف الدائري مهيمنا على أشكال الأبواب والنوافذ. وهذا ينتظم في البيوت وفي دور العبادة على السواء. ويبدو أن ما يصيب الثقافة يصيب العمارة، فلقد تعولمت العمارة المغربية بشكل لافت، وهي وإن كانت طوال تاريخها نموذجا لتجاور العمارات ومعرضا فريدا لتآلف الذوقين الشرقي والغربي، إلا أنها في العقد الأخير تعرضت لعاصفة من التشويه والطمس معا. كان لحلول الأبراج الضخمة والمجمعات السكنية الحديثة محل الوحدات السكنية العتيقة الأنيقة الراقية، كان لذلك كله الأثر المباشر في فقدان المغرب، لا سيما المدن العريقة فيه مثل مراكش وتطوان وطنجة شخصيتها المعمارية المعروفة. ولم يغب ذلك كله عن الرواية المغربية المعاصرة، فقد وقفت الرواية حاملة كاميرا السرد لتسجل تطور هذه العمارة المميزة، أو بالأحرى تدهوره بفعل الاجتياح العمراني الحداثي، كما سبق. وبدا الروائي المغربي محمد الأشعري في روايته (القوس والفراشة) موليا اهتماما كبيرا بمسألة العبث العمراني بالمغرب، ما دعاه إلى الإشارة الواضحة لما أصاب الثقافة المغربية بفعل رياح الثقافات الغربية، وما التبدل المشوه لعمارة المغرب إلا دليلا شاخصا على هذا الخلل. ينعى (الأشعري) المدينة العريقة مراكش التي فقدت شخصيتها المعمارية بشكل مؤلم، وبدت مسرحا لعبث عمارة العولمة والرأسمالية معا، فاختفت العمارة الأصيلة وسط ضجيج عمارة الغرب، وداست العمارة العملاقة على رؤوس العمارة البسيطة، فانتشرت الأبراج على رفات الفلل والقصور. وفي الرواية نطالع هذا المقطع الأسيان الذي صاغه الراوي في رثاء (مراكش) المدينة الجميلة: (وبالفعل طارت مراكش حقيقة لا مجازا في السنوات العشر الأخيرة. طارت أثمنة عقاراتها إلى عنان السماء، وطارت الدور القديمة، والرياضات والفنادق من بين أصحابها الأصليين، وعصف بها زلزال حقيقي محا دروبا وأزقة وحواري عتيقة، وأنبت مكانها قصورا ومطاعم وإقامات ودور ضيافة، واشتعلت بين المالكين الجدد حرب عقارية، جعلتهم يتبارون في تشييد أبنية مذهلة، تليق باستيهاماتهم وأحلامهم الشرقية، مستعملين سقوفا وأبوابا وفسيفساء يقتلعونها من هنا وهناك، حتى نشبت حمى رهيبة في مفاصل الدور القديمة جراء ما تعرضت له من بتر وتقطيع ,واستئصال لكل تفاصيلها قبل زرعها بشكل عدواني في قصور ورياضات تغلق بشكل محكم على الليل السري للمدينة) - القوس والفراشة ص 130. وهكذا يطلعنا الراوي في رواية الأشعري على الشكل الذي آلت إليه العمارة المغربية بعد تشويهها بشكل غير ممنهج، بدت معه العمارة بلا هوية، وهو الوصف الذي ينتظم ثقافة وعمارة العولمة على السواء. (قصور تختلط فيها أساليب معمارية لا علاقة لها بمراكش، أساليب وأشكال استوردها الوافدون الجدد من رحلاتهم وأفلامهم ولوحات مستكشفيهم من الهند وتركيا وإيران ومنغوليا والصين واليمن وزنجبار......... وفي هذا الخليط الذي حصلوا على رخص رسمية بإنجازه كترميم لذاكرة المدينة، تم طمس هذه الذاكرة بصفة تامة ونهائية، وفي قلب هذا الشكل الجديد، كرس الأثرياء ما جمعوه من تحف عبر العالم، زجاجيا وفسيفساء ومنحوتات وأواني وزرابي وآلات موسيقية، بل وسواري، ومرمر وخزف من حفريات أركيولوجية عبر العالم.......) الرواية ص 131. تبلى الصور، وتتبدل الأماكن، وتسرق أو تطمس العمارة... وتبقى أوصاف
الرواية سجلا صادقا أمينا يمنح نفسه لكل باحث ومحب يمتع ناظريه عبر استيعابه
الأوصاف السردية، وينعش مخيلته بالسفر عبر الزمان والمكان سائحا وسط نماذج فريدة من
المباني العربية فتحت لها الرواية بابها الواسع لتقيم فيها إقامة
المطمئن.
|