ملف العمارة في الفن: زيارة إلى درب التبانة

ملف العمارة في الفن: زيارة إلى درب التبانة

عدسة: مانيل سوريا*
(ترجمة: عمرو خيري)**

نحن نعيش في العصر الذهبي لعلوم الفلك. توفر لنا تلسكوبات عصرنا هذا بالغة التعقيد ومسابر الفضاء التي ترتحل في أرجاء المجموعة الشمسية، أقول توفر لنا صورًا مدهشة للسُدم والمجرات البعيدة، وتفاصيل لا حصر لها لنظم شمسية أخرى. بفضل الشبكة العنكبوتية ودورها في عالم يزداد تقاربًا، أصبحت مثل هذه الصور الآن مألوفة حتى للشخص العادي.

ومن المصادر الممتازة لهذه الصور موقع «صورة اليوم الفلكية Astronomy Picture Of the Day» التابع لوكالة ناسا:

HYPERLINK

http://apod.nasa.gov/apod/astropix.html
http://apod.nasa.gov/apod/astropix.html

وكما يبدو من الاسم، فإن وكالة ناسا تقدم كل يوم صورة رائعة للكون وتناقشها.

الصورة الأولى: المشتري والزهرة يطلان من فوق بحيرة متجمدة في جبال البرانس على الحدود بين فرنسا وإسبانيا

لكن هذا الفيض من الصور الخلابة لا يمكنه أبدًا أن يعوضنا عن مشاعرنا الدافئة لحظة أن نرفع أبصارنا لنطالع النجوم بأعيننا. إلا أن عليك في عالم اليوم حتى تتمكن من تقدير جمال السماء حق قدره أن تتحرى المكان والزمان الصحيحين لتلك اللحظة. ذلك أن بسبب أضواء مدننا المعاصرة، وعلى النقيض من حالنا قبل مائة عام، باتت هناك ظاهرة معروفة باسم «التلوث الضوئي» في الليل.

ولهذا السبب، ومن أجل الاستمتاع بالكامل بتجربة النظر إلى النجوم، أوصيك بما يلي: اخرج وحدك إلى الخلاء، إلى أبعد مكان ممكن عن أضواء المدينة، وانتظر حتى لحظة الغسق مع بداية تلاشي آخر ضي للنهار. بعد غروب الشمس بقليل، بينما السماء مازالت فيها تلك المسحة من الزرقة العميقة؛ قسوف تبدأ في تمييز أول النجوم وألمعها.

السماء بالطبع رائعة في أي وقت من العام. في الشتاء على سبيل المثال، سترى كوكبة الجوزاء الجميلة. غير أن الصيف هو أفضل الفصول لتجربة النظر إلى السماء، وجزء من السبب هو أن الطقس صيفًا يضيف إلى متعة هذه التجربة. لكن السبب الأساسي ستعرفه ما إن ترى أول النجوم.. أركوتوروس وفيجا والدانوب والتاير وأنتاريس.. سترى حزمة ضوء منثور في السماء، كقوس قزح عملاق عذب يسطع في الليل.

الصورة الثانية: درب التبانة (اللبانة).. من جبال الأطلس في المغرب، بعد غروب الشمس بقليل والسماء مازالت زرقاء

حزمة الضوء هذه المعروفة باسم «درب التبانة/اللبانة» نالت أسماء عديدة من إلهام أساطير الأقدمين. في شمال أوربا مثلًا، قال الفايكنج إنها درب فالهالا، قاعة الخلود العظمى المُكرمة فيها أرواح المقاتلين الذين سقطوا في معارك ملحمية. في آسيا، يُعتقد أنه نهر من الفضة، وأن اثنين من نجومه، التاير وفيجا، يجمعهما العشق، لكنهما مفترقان.. يقع كل منهما عند طرف من أطراف درب التبانة (اللبانة). ورثت دول الغرب مسمى «درب التبانة/اللبانة» من الأسطورة اليونانية.. تحديدًا أسطورة هيرا، ملكة الآلهة، التي أرضعت هرقل لبنها حين وُلد.




الصورة الثالثة: درب التبانة (اللبانة) وضي القمر عند جبال الثلج (سييرا نيفادا) في غرناطة بإسبانيا

لطالما كانت هذه الحزمة العجيبة من الضوء لغزًا للبشرية على مدار تاريخها. افترض الفيلسوف اليوناني ديموكريتوس (460 ق. م.) أنها عبارة عن عدد لا حصر له من النجوم، لكن أرسطو (384 ق. م.) رأى أنها ظاهرة من ظواهر الغلاف الجوي. وبعد أكثر من ألف سنة، كان الحسن بن الهيثم العالم الموسوعي الذي وُلد في البصرة سنة 965م، هو أول شخص يحاول قياس المسافة إلى درب التبانة (اللبانة) باستخدام أسلوب النظر إلى درب التبانة من نقطتين متباعدتين على الأرض. استنتج أنها بعيدة للغاية عن الأرض؛ مما يعني أنها لا يمكن أن تكون من ظواهر الغلاف الجوي كما ظنّ أرسطو. هناك علماء فلك شرقيون آخرون في ذلك الحين، مثل أبو ريحان محمد بن أحمد البيروني (خوارزم، 973م) توصلوا إلى الاستنتاج نفسه الذي توصل إليه ديموكريتوس. من ثم، فلنا أن نفترض أن درب التبانة (اللبانة) كان معروفًا على نطاق واسع في الشرق، لكن ليس في الغرب؛ حيث سادت نظريات أرسطو. هيمن تأثير أرسطو على الفكر الفلكي الغربي حتى عام 1610م عندما صوب العالم الإيطالي جاليليو تليسكوبه نحو درب التبانة (اللبانة) للمرة الأولى، واعترته الدهشة عندما تبين أنها بالفعل مكونة من عدد هائل من النجوم.

في زمننا نعرف أن فيها ملايين النجوم، وبعضها خافت للغاية على العين المجردة بل وعلى حتى أغلب التليسكوبات القوية. هناك بعض التقديرات بأن عدد نجوم درب التبانة (اللبانة) كبير لدرجة أننا لو كان بيدنا أن نوزع نجوم تلك المجرة على سكان الأرض، لحصل كل إنسان على نحو 50 نجمًا. شمسنا أحد هذه النجوم، ودرب التبانة ضخمة للغاية، ضخمة لدرجة أن النور نفسه يحتاج إلى مئات الآلاف من السنين ليعبرها من طرفها هذا إلى ذاك، رغم أن سرعة الضوء كبيرة لدرجة تكفي لأن يروح شعاع الضوء ويجيء بين مدينتي الكويت وبرشلونة 70 مرة في الثانية الواحدة.

الصورة الرابعة: درب التبانة (اللبانة) فوق أحد تماثيل جزيرة الفصح

الكون أكبر بكثير من درب التبانة (اللبانة). لكن هذا بدوره اكتشاف حديث، يعود إلى العشرينيات من القرن العشرين، أي أقل من مائة عام. في تلك الفترة، كان بعض العلماء مازالوا يظنون أن درب التبانة (اللبانة) هو الكون كله، بينما اعتقد آخرون أن مجرتنا واحدة من مجرات أخرى كثيرة في كون رحيب. في العشرينيات وضع عالم الفلك الشهير إدوين هابل حدًا لهذا الجدال. تمكن من قياس المسافة بين الأرض ومجرة أندروميدا بالسنوات الضوئية للمرة الأولى. النتيجة المذهلة للقياس 2.5 مليون سنة ضوئية أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك أن مجرة أندروميدا بعيدة عنّا لدرجة لا يمكن معها أن تكون داخل درب التبانة (اللبانة).




الصورة الخامسة: مجرة أندروميدا فوق منطقة غابات. قمر اصطناعي يعبر السماء تحتها مباشرة

حجم الكون مذهل حقًا، لكن ربما كان الأكثر إثارة للدهشة أن بإمكانك أن ترى مجرة أندروميدا بعينك المجردة. في عام 964م. قبل اختراع التليسكوب بكثير، وصف الفلكي الفارسي عبدالرحمن الصوفي تلك المجرة في كتابه «كتاب الكواكب الثابتة» - وصف المجرة بأنها «سحابة صغيرة»، وهي تبدو هكذا بالضبط للعين المجرّدة عندما تراها في السماء المعتمة. يُعد الصوفي أحد أفضل الفلكيين في تاريخ علم الفلك. حتى في يومنا هذا، تستخدم دول الغرب أسماء نجوم مشتقة من دراسة الصوفي المدهشة غير المسبوقة. وبفضله، فإن نجمي التاير وفيجا مثالان لا أكثر على نجوم معروفة للعالم أجمع بأسمائها العربية. تم أخذ الأسماء مباشرة من كتابه، وكذلك من كُتب عربية أخرى، ونُشرت في دراسات فلكية أوربية. أغلب المعارف المتبادلة عن الكون حدثت في الأندلس، حيث كان الفلكيون المسيحيون متلهفين على التعلم من الفلكيين المسلمين.



الصورة السادسة: درب التبانة (اللبانة) فوق بيت بمنطقة نائية في تشيلي

الحقائق والبيانات التي تساعدنا على فهم علم الفلك مثيرة حقًا ومدهشة، لكن للحظة، أقترح أن يحاول القارئ تخيل مكان خاص يشاهد منه النجوم، مثل ذلك المكان الذي وصفته في مطلع مقالي. للعثور على سماء صافية خالية من الأنوار الاصطناعية كما كانت في زمن عبدالرحمن الصوفي، أو حتى في زمن جدي وجدك، عليك أن تبتعد 300 كم على الأقل عن أية مدينة كبيرة. ما إن تصل إلى هذا المكان المعزول، بعد يوم صيفي طويل حار؛ سوف تتعجب قطعًا من تجربة مطالعة النجوم بكل كثافتها في قلب الليل البارد.


الصورة السابعة: ابني يشير إلى مركز درب التبانة (اللبانة) على شاطئ البحر المتوسط

لابد أن أعترف أن صورة السماء التي أصفها تأسرني. أمضيت فترات طويلة أنظر إليها من مختلف بقاع الأرض، وفي كل تلك المرات تقريبًا كنت وحيدًا. من بين بعض هذه الأماكن، ذهبت إلى صحراء أتاكاما في تشيلي، وهي على ارتفاع نحو 3000 متر فوق سطح البحر، وأمضيت ليلة شتوية باردة برودة قارسة فوق بحيرة متجمدة في جبال البرانس، بين فرنسا وإسبانيا. صورت النجوم وأنا قابع إلى جوار تماثيل جزيرة الفصح العملاقة، وطالعت النجوم في جزيرة لابالما (إسبانيا)، وهو المكان الذي يستضيف عددًا من أكبر التليسكوبات في العالم. كما استمتعت بشرحي لأبنائي طبيعة حزمة الضوء الغامضة التي نسميها درب التبانة (اللبانة) في طقس البحر المتوسط المعتدل بين أحضانه.

الصورة الثامنة: درب التبانة (اللبانة) من عند أطلال قصبة في المغرب

كان هدفي في جميع تلك الرحلات هو تصوير سماء الليل، ليس من وراء تليسكوب، بل كما أراها بعيني المجردة.. كجزء من مفردات الطبيعة والأرض، كشجرة أو كأطلال قصبة قديمة، مما يضفي على صوري إحساسًا بالتواصل بين الكون والأرض.

الصورة التاسعة: درب التبانة (اللبانة) فوق بحيرة بجبال البرانس فرنسا

آمل أن يكون هذا التقرير المصور القصير قد أيقظ داخلك الفضول، وأن تخبر بنفسك حقًا تجربة زيارة درب التبانة (اللبانة) وسط الخلاء، عميقًا داخله، ويالها من تجربة مثيرة عجائبية. إن فعلت، فسوف يملأ قلبك السرور كما حدث معي. والآن حان الوقت لرحلة أخرى، لنتعرف على ظاهرة أكثر مراوغة، أصعب في الرؤية: ضوء البروج. يسرني أن آخذك من يدك في هذه الرحلة.. في يوم آخر.
-----------------------------------
* مصور وكاتب إسباني، والمقال مكتوب خصيصا للعربي.
** كاتب ومترجم من مصر.

 

بقلم: مانيل سوريا*

 


مانيل سوريا





لاحظ كوكبي المشتري والزهرة اللذين يتألقان بالضوء في السماء