ملف العمارة في الفن: «باب الحديد» على الطريقة السينمائية

ملف العمارة في الفن: «باب الحديد» على الطريقة السينمائية

السينما والعمارة
محطة «باب الحديد» على الطريقة السينمائية
شاهدة على الزمن

تلعب كاميرا الفيلم الروائى دورًا بالغ الأهمية في تسجيل كيف كان عليه الأمس، هذا الأمس الذي يتحرك بسرعة، نحو الخلف البعيد، كلما انصرم اليوم وراء الآخر.

وننحاز هنا للفيلم الروائى، باعتبار أن عرضه لا يتوقف في أماكن متعددة، خاصة القنوات الفضائية المتخصصة في عرض الأفلام، أو غيرها، مع وجود الشاشات المجسمة، حيث تبدو الصورة في أفضل حالاتها، ويمكن للمشاهد أن يستجمع ما كان عليه الماضي، خاصة شكل المدينة من خلال شوارعها، والطرز المعمارية المتعددة، التى لم تنحن أمام مرور الزمن، وتبقى شاهدة على هذا العصر.

هذه المشاهد القديمة تصنع حالات متوقدة من الشجن والحنين، كيف كانت القاهرة مثلًا خالية من برج القاهرة، وكيف خلا كورنيش النيل من الفنادق متعددة النجوم، وكيف أن صروحًا معمارية عاشت مئات السنوات دون أن يمر عليها الزمن، مثل قلعة صلاح الدين الأيوبي، وأهرام الجيزة، وعمارة بلمونت، وكوبرى قصر النيل الذي شهدت عمارته وتصميمه تغيرات بأسوده الأربعة.

صحيح أن الصور الفوتوغرافية لدى الهواة، لعبت دورًا بارزًا في تصوير هذه الصروح المعمارية في كل من القاهرة والاسكندرية، إحدى أبرز المدن الكوزموبوليتانية الأكثر أهمية في القرن العشرين، لكن لا شك أن الصورة السينمائية متدفقة بالحركة، معجونة بالبشر والذكريات، والحيوات، بينما الصورة الفوتوغرافية ثابتة تكاد تخلو من الحياة، وهي أقرب إلى شاهد فوق بر، أما صورة السينما فهي قديمة تجدد نفسها دومًا، وترتبط بحدوتة، وقصص، ونجوم، وأغنيات.

وبشكل عام، فإن هذه الطرز المعمارية الخالدة، تبدو شديدة الوضوح في «نص البلد»، في القاهرة من خلال ميدان العتبة الخضراء، وميدان الإسماعيلية الذي عرف فيما بعد باسم ميدان التحرير، وما يحوط هذه الأماكن من شوارع، وما بها من بنايات وعمارات لاتزال موجودة مبنية على طرز معمارية أوربية كأنك تعيش في إحدى المدن الأوربية أو كلها.

إذا كان الله سبحانه وتعالى، خلق الطبيعة في أوربا في أنماط متشابهة، متقاربة للغاية، فإن المهندسين الذين بنوا الطرز المعمارية الأوربية، من خلال مشاهداتي لهذه المدن، قد بدوا كأنهم مهندس واحد، أو أكثر صمموا هذه البنايات متقاربة الطرز، ابتداء من الأوبرات، والكاتدرائيات، والكباري، والأنفاق، وقد نقلوا هذه الطرز إلى المدن المصرية، من كنائس وعمارات، وأقواس النصر، وقاعات التماثيل، وتصميم الحدائق.

وأيضًا الكباري القديمة، فكوبري الزمالك الذي تم فكه، ورأيناه في العديد من الأفلام منها «جريمة في الحي الهادي» و«الأسطى حسن» بناه ايفل الذي بنى البرج الباريسى الشهير من ناحية، وهو صنع العديد من الجسور الموجودة في المدن الأوربية.

ولأن الموضوع متسع للغاية، فإن أهم صورة للعمارة في المدينة، هي ما يرتبط بمداخل المدن.. وأقصد هنا محطتا القطار في القاهرة والإسكندرية، وهو ما يعرف في أوربا باسم «الفينال» التي تنتهي عندها المرحلة، أي أنها المحطة التي يجب أن ينزل عندها كل الركاب القادمين بالقطار، ولا شك أن الفن المعمارى التشييدى، وأيضا هندسته قد بدا بالغ الشموخ في هذه المحطات، التى شهدت في الواقع مليارات الحواديت، في السينما رأينا مئات من القصص التى سكنت في الذاكرة، قصص ترتبط باللقاء الحميم الملهوف، والوداع المؤلم، وأيضًا بقصص غرباء لا يلبثون أن يلتقوا، فيصيروا بالغى التقارب، أو العكس، إنه سوق بالغ الاتساع، تظلله تلك القبة الحديدية، التى تم بناؤها في الواقع بالطراز نفسه، أو طرز متقاربة، هناك أرصفة وقضبان، وقطارات قادمة، أو مغادرة، أو في حالة تأهب.

هذه المحطات ظلت في أماكنها، بالطرز القديمة، قليلًا ما نراها في حالة صيانة، وكأنها صنعت لتقاوم عوامل الزمن، ولا تعرف ما عهدناه في الكائن الحي، من نمو، وشيخوخة، ولعل الواقع الذي حدث أخيرًا من محاولة لتطوير الشكل الداخلى لمحطة قطار القاهرة «باب الحديد سابقًا» يثب أن كل ما حدث هو عمل المزيد من الأسواق العصرية، لكن لم يجرؤ أحد أن يمس القبة الحديدية الضخمة، فلم تتغير الصورة كثيرًا، وإن كان الأمر يختلف بالنسبة لمحطة سيدى جابر، حيث أضيفت إليها قبة أسمنتية. وهي التي كانت بمثابة «الفينال» لركاب القطار، وللافلام عكس محطة قطار الاسكندرية، المعروفة باسم «محطة مصر» التي تعتبر صورة مماثلة، أصغر من محطة قطار القاهرة.

هذه المحطة حسبما كتبت صابرين شمردل في جريدة الشرق الأوسط «20 سبتمبر 2008» شيدها الخديو اسماعيل، وان هذا الأخير طلب من الإمبراطور الفرنسى نابوليون الثالث أن يتولى المهندس الفرنسي البارون جورج، أوجين هاوسمان الذي خطط مدينة باريس أن يقوم بتخطيط مدينة القاهرة، ومن أساسيات هذا التخطيط هو تطوير أداء السكة الحديدية، التى أسست في عهد الخديو سعيد عام 1854 من الاسكندرية.

وحسب المصدر نفسه، فإنه في عهد الخديو اسماعيل جرى اختيار مكان «باب الحديد» كمحطة رئيسية لها، وبذا أصبحت القاهرة إحدى المدن السباقة التى بنيت فيها محطة من هذا الطراز الذي صممه المعمارى البريطانى أدون باتر عام 1855.

أي أن تصميم المحطة جاء بعد إنشاء أول خط حديدي في مصر، افتتح في عصر الخديو إسماعيل عام 1851، وفي معلومات الويكبيديا أن المسئول عن مشروع بناء السكك الحديدية كان المهندس البريطاني روبرت ستيفنسون، نجل مخترع القاطرة جورج ستيفنسون.

ومن الواضح أننا أمام مشروع ضخم للغاية، حيث إن المساحة المخصصة للقبة الحديدية لم تتم عليها إضافات، وأن هذه القبة قد خصصت فيما بعد للقطارات القادمة من والذاهبة إلى الإسكندرية وعندما توسعت المحطة فيما بعد لعمل أرصفة قطارات الصعيد، فإن المصريين لم يتمكنوا من عمل قبة مماثلة أو تكملتها، ولايزال هذا الجزء من المحطة بدون قبة حتى الآن، لأن العبقرية التي صممت وأسست القبة الحديدية لم تتكرر، كما أن كل التجديدات التي حدثت للمحطة لم تضف أنملة واحدة للقبة، وآخرها التجديدات التي أنجزت هذا العام 2012.

لا يمكن أن نتذكر المرة الأولى التي ظهرت فيها هذه المحطة الشامخة، بعماراتها العالية، ولا أول مواطن سينمائي، نزل من قطار قادم من خارج العاصمة، أو ذاهب إلى مكان آخر، من القاهرة، وذلك لأن الأمر يعتمد على المشاهدة، وليست القراءة، فهناك عشرات من الأفلام الضائعة من الأرشيف، كما كانت الاسكندرية هي المكان المفضل لصناع الأفلام الرواد في الثلاثينيات من القرن الماضى.

لكن هناك أفلامًا عددية دارت أحداثها في القطارات دون أن نرى النسق المعماري للمحطة، مثلما حدث في فيلم «يحيا الحب» إخراج محمد كريم عام 1938، لكن هناك اهتمامًا ملحوظًا بهذه المحطة، وما يدور فيها، وأيضًا في أروقة السكة الحديد، خيمت بوجودها في أفلام الخمسينيات ومن هذه الأفلام التى تم تصويرها في داخل المحطة، وعكست المهابة الشديدة للطراز المعمارى هناك «دايما معاك»، و«موعد غرام» و«الباب المفتوح» وكلها لبركات، وأفلام أخرى سنذكرها لاحقا.

ولا شك أن الحديث في الأساس عن فيلم «باب الحديد» أمر بالغ الأهمية، فهو الفيلم الأفضل لدى صناع القواميس السينمائية العالمية، حيث اختاره كتاب «ألف فيلم وفليم يجب أن تراها قبل أن تموت» باعتباره الفيلم العربي الأوحد الذي يجب أن يراه المتفرج العالمي، قبل أن يموت، وهذا الفيلم كما هو معروف تدور أحداثه كلها داخل هذه المحطة، ويحمل اسمها، ولم يبتعد الحدث فيه عن عشرات الأمتار تحت قدمي تمثال رمسيس، حيث جلست هنومة مع قناوي.

المحطة بطرازها المعماري الفريد، والشامخ، بمنزلة حامل الأسرار للعشاق، والعاملين بالمحطة والمسافرين، أو ما يمكن أن نقول إنهم العابرون بشكل مؤقت، والأبطال الرئيسيون من العاملين في المكان، ويسكنونه، ويرتزقون فيه، وهناك مشهد في الفيلم، قد لا ينتبه إليه الكثيرون، حيث هناك فتاة تتصل بحبيبها في الهاتف، تبلغه أنها تنتظره.. بينما يترقب قناوي مكالمتها، ويشعر باستمتاع وهو يتنصت عليها.. ثم تذهب الفتاة منكسرة القلب، أى أن المحطة هي شاهد على ملايين من مثل هذه الحالة الإنسانية، والطريف في المشهد، أن الممثلة المجهولة التي جسدت هذا المشهد القصير هي نفسها التي جلست خلف فريد الأطرش في فيلم «انت حبيبي» في قطار يغنى من أجله، وركزت الكاميرا على براءة الفتاة، وكانت أصغر سنًا بشكل ملحوظ.

إذن، حسب ما شاهدنا، فإن يوسف شاهين حول استيعاب المكان، باتساعه، وعمارته، وكانت كاميرا الفيزى أورفانيللي المتفهمة لمكانة هذا النوع من العمارة تلجأ إلى تصوير لقطة عامة بانورامية للمحطة بكل ما بها من جاذبية وشموخ، وتحت هذه القبة عاشت كل هذه الشخصيات المقيمة والعابرة في المكان، لا تتطلع إليه أو إلى شموخه مثلما يحدث لمن ينزل المدينة لأول مرة قادمًا من المدن الصغيرة أو الريف البعيد.

وحسب كلمة الفيلم في الدفتر الخاص به فإن باب الحديد بضخامته يقف سدًا عاليًا بينه وبين السعادة، وعليه فإننا يمكن أن نقول إن القبة بمنزلة مقبرة لقناوى، وللآخرين، يعيشون تحتها على وتيرة واحدة.

وفى هذه الفترة مثلا، بدا شغف السينما المصرية بهذا المكان، فرأينا هذا الصرح المعمارى في أفلام أخرى متعددة منها «العتبة الخضرا» إخراج فطين عبدالوهاب 1959، و«المليونير الفقير» لحسن الصيفى 1959، وكان عقد الخمسينيات قد شهد إعجابا ملحوظًا بين كاميرا السينما الروائية ومحطة باب الحديد، التى بدأ اسمها يتغير إلى ميدان رمسيس عقب زرع أثر تاريخى مهم هو تمثال رمسيس الثانى عام 1954، فتخلى المكان عن الباب الحديدي الذي كان يحوط المحطة من الخارج، كما كانت تظهر في تلك الآونة، لكن هذا الباب ظل موجودا حتى نهاية الستينيات.

أهم أفلام الخمسينيات التى صورت محطة القطار، بشموخها، وعمارتها التي جذبت العيون هناك «قطار الليل» لعز الدين ذو الفقار 1953، و«موعد غرام» لبركات عام 1956، أما الستينيات فقد كان هناك فيلم بأكمله تدور أحداثه حول هذا الصرح المعماري، لكن البناء نفسه لم يظهر، باعتبار أن الأحداث تدور في منطقة السكة الحديد، إلى جوار المحطة من خلال مساكن العاملين بالهيئة، وهي بعيدة عن المحطة، لا يمكن منها رؤية القبة، وذلك في فيلم «لوعة الحب» لصلاح أبو سيف عام 1960، ثم تتابعت الأفلام، ومنها «يوم من عمرى» لعاطف سالم 1961، حيث قضى صلاح ساعات متعددة مع حبيبته «ناني» وهو يحثها على السفر، ثم يفاجأ بها موجودة على الرصيف المقابل بعد مغادرة القطار الرصيف، وتحت هذه القبة ايضا تم توديع المناضلين الشباب الذين في طريقهم إلى الإسماعيلية في فيلم «الباب المفتوح» لبركات 1963، وفى هذه الفترة كانت هناك أعمال فنية تبدأ رحلتها من محطة قطار القاهرة، وتنتهى عند محطة سيدي جابر، مثلما رأينا في فيلم «سنوات الحب» لمحمود ذو الفقار 1963، وهناك فيلم أيضًا لبركات تدور أغلب أحداثه في محطة سيدي جابر هو «شىء في حياتى» عام 1963، الذي صور أغلبه في محطة سيدى جابر حيث الملاحظ أن محطة قطار الاسكندرية المسماة لدى أبناء المدينة «محطة مصر» لم تحظ باهتمام ملحوظ إلا في فيلم «بخيت وعديلة» 1995، باعتبار أن بطلى الفيلم يسكنان منطقة بحري.. ويجب أن ينزلا في المحطة النهائية للقطار، ويعتبر هذا الفيلم هو الأبرز في تصوير قبة محطة الإسكندرية أكثر من مرة، عند العودتين اللتين قام بهما كل من بخيت وعديلة نحو الثراء، ومنه.

كما أن محطة القاهرة أيضا كانت بمنزلة مكان للوداع بمهابتها في فيلم «حكاية العمر كله» اخراج حلمى حليم 1965، وقد شهدت المحطة بعد ذلك المزيد من التغييرات، فرفعوا عنها السور الحديدى، وزحف كوبري أكتوبر يلف الميدان بغموض، ويفسد المنظر من بعيد، فلا يبدو شموخ البناية إلا لمن دخلها، وهناك مئات الألوف يدخلون منها ويخرجون يوميًا، من مسافرين، وعمال قادمين من الأقاليم وأصحاب مصالح.. وقد كان الاهتمام بالطريق الزراعي، وصعود السفر بالعربات المسماة بيجو سبعة راكب نوعًا من تقليل الاهتمام بالمحطة، التي لم تكن لتشيخ أبدًا من الداخل، رغم أنها بدت من الخارج كأنها مقيدة بالكوبرى، أو المتزاحمين من باعة، وموقف لسيارات الأقاليم.. وقد ظلت المحطة على هذا المنوال حتى الآن، فلم تنتبه إليها السينما كثيرًا إلا في أعمال قليلة لكن وجود المحطة كان شيئًا أساسيًا مثل اعتبار المحطة مكان نصب نموذجيًا لاصطياد السذج في فيلم «رجب فوق صفيح ساخن» لأحمد فؤاد عام 1981، ثم فيلم «في محطة مصر» إخراج أحمد جلال عام 2006، حيث قام الشاب رضا بالعمل كمندوب إعلاني لإحدى الشركات وهناك تعرف على الفتاة ملك العائدة إلى أهلها، حاملة خيبة أملها فيذهب معها، ويترك الاثنان المحطة إلى الأبد.

هذه مسيرة تاريخية مبسطة لما صورته الأفلام لهذه البناية الشامخة معماريًا، أي التي ركزت على القبة من أسفل، أي أن الكاميرا صورت القطارات والمسافرين، من خلال وجودهم تحت القبة والغريب أنه لا توجد محاولة واحدة لتصوير هذا الصرح من أعلى، حيث إن هذه السبل المتطورة في التصوير ليست من سمات السينما المصرية.

وبشكل عام فهناك فرق واضح بين الأفلام التي تدور أحداثها في قطارات، وأعمال أخرى تدور داخل المحطة في المقام الاول.. فلا شك أن مشاهد الاستقبال والوداع تدفع مدير التصوير إلى اختيار زاوية ليلم المحطة بأكملها في كادر واحد، مثلما حدث في «العتبة الخضرا» ثم «رجب فوق صفيح ساخن» وهما فيلمان يتحدثان عن أعمال النصب في المحطة، بمعنى أن ما يحدث لاسماعيل أو لرجب يتكرر مع كل هذا الزحام الموجود داخل المحطة، ولذا، فإن تصوير المكان بأكمله، بأرصفته الأربعة أمر مهم دراميا لاثبات أن هذه المحطة بمنزلة مصيدة يقيمها النصابون ضد الساذجين، وفي «العتبة الخضرا» كان هناك ريفي يأتي إلى القاهرة، للوقوع في شراك النصب، وقد تكرر نزول شخص آخر في نهاية الأحداث ليثبت تكرار التجربة، خاصة أن هناك ريفيًا جديدا سوف يأتي ليكرر الحكاية في نهاية فيلم «رجب فوق صفيح ساخن»، أما في «العتبة الخضرا» فإن هناك مخبرًا يتخفى في هيئة ريفي جديد من أجل الايقاع بالنصاب.

وقد كانت هذه القبة الحديدية، شاهدًا محايدًا على قصص حب تبدأ، وقصص أخرى تنتهي، وعلى حكايات وداع، في أفلام عديدة منها «الآنسة ماما» لحلمي رفلة 1950، و«دايما معاك» لبركات 1954، الذي يعتبر المخرج الأكثر استخداما للمحطة لتصوير العديد من المواقف العاطفية في لحظات مصيرية، وقد ساعد اتساع المكان على المزيد من التأثير، مثلما حدث للفنان المصدوم عاطفيا في نهاية «حكاية العمر كله»، وهو يخفى آلامه، وعليه تحية الناس الموجودين على الرصيف.

إذن، لم يكن هذا الشموخ المعماري مطلوبًا لذاته، بل هو خلفية ديكورية لجزء من الحكاية التي نراها، وقد تكررت مثل هذه الأمور في محطات مماثلة في السينما العالمية، لعل أبرزها مشاهد الوداع والانتظار في فيلم «زهرة عباد الشمس» لفيتوريو دي سيكا 1967.

وإذا كنا قد أشرنا إلى أن بركات هو أكثر من ذهب إلى القطار ليصور لقاء وداع بين أبطال أفلامه، فإن يوسف شاهين قد أعطى لمحطة القطار بعمارتها الحديدية الفريدة المزيد من المعاني والحميمية في افلام عديدة منها «ابن النيل» 1951، «انت حبيبى» 1957، و«باب الحديد» 1958، وخاصة في فيلم «فجر يوم جديد» 1964، حيث كشف عن شغفه المتكرر بالطراز المعماري للمحطة، وجعلها مكان الوداع بين المهندس الشاب والمرأة التي يحبها، وهي الأكبر منه سنا، فالوداع هنا يدور في محطة قطار القاهرة، وكاميرا عبدالعزيز فهمي تصور الظلال الكثيفة التي تتسم بها المحطة، تبدو قاتمة، وحزينة مثل العاشقين المكتوب عليهما الفراق الحتمى، ولعل هذا الفيلم، هو الأكثر تصويرًا للمحطة في لقطات عامة.

ولو تأملنا المحطة في المشاهد الختامية لهذا الفيلم، فسوف نتأكد أن الطراز المعمارى ظل ثابتا لا يتغير، وأن تفاصيل صغيرة هي التي تعطي للمحطة شكلاً جديدًا، مثل طرز القطارات وبعض الأكشاك الصغيرة الموجودة في المكان، تختفى أحيانا، وتتكثف في أوقات أخرى.

كان اسمها «باب الحديد»، وبعد أن نقلوا رمسيس من أمامها، لم يعد أحد يعرف اسمها الجديد، وفى إطار التطويرات الأخيرة، تم بناء سور حديدي جديد، لا يكاد تذكر له قيمة قياسًا إلى السور القديم، ومن الواضح أنه لن يعود باب حديد مرة أخرى.
------------------------------
* كاتب من مصر.

 

محمود قاسم*







باب الحديد





باب الحديد





يوسف شاهين





لوحة من افتتاح السكة الحديد (محطة مصر)





مبنى محطة مصر في بداية إنشائه





 





ملصق فيلم «باب الحديد» ليوسف شاهين





بطاقة بريدية للمحطة قديما





يوم من عمري





الأسطى حسن





قطار الليل