أمهات الكتب: الإسلام وأصول الحكم للشيخ علي عبدالرازق

أمهات الكتب: الإسلام وأصول الحكم للشيخ علي عبدالرازق

  • نقاد الكتاب اعتبروا ما جاء فيه مجرد تصور «سلبي»، لظنهم أن ممارسة النقد ليست أكثر من عملية سلب أو أسلبة.
  • ذهب أغلب النقاد إلى أن الشيخ علي عبد الرازق قد انطلق من تصورات مستقاة من وقائع سلبية طالت تاريخها المتأخر وكأنها «نكبة».
  • محاولة الشيخ عبد الرازق إثبات أن الخلافة ليست أصلا من أصول الدين.. هي بالأجدى، محاولة لتنزيه الإسلام عن أن يكون قد أتى بأصل يمكن أن يصير ما صارت عليه الخلافة من وضعية سلبية لا تليق بأصل من أصول الإسلام.

تقول الفكرة الأساسية للكتاب إن الخلافة ليست أصلاً من أصول الإسلام، وإنما هي مسألة دنيوية وسياسية أكثر منها دينية، و(الدليل هو) أن القرآن الكريم والسنّة النبوية لم يوردا ما يبين كيفية تنصيب الخليفة؛ وذلك لأن هذا التنظيم اختراع بشري أو اجتهاد من الصحابة، للمحافظة على تماسك الجماعة المسلمة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.. فالإسلام لم يقرر نظاماً معيناً للحكومة، ولم يفرض على المسلمين نظاماً سياسيا خاصاً يجب أن يحكموا بمقتضاه، بل ترك لهم مطلق الحرية في تنظيم الدولة طبقا للأحوال.. «فلم يسم النبي صلى الله عليه وسلم خليفة من بعده.. وحاشا لله، فما لحق بالرفيق الأعلى إلا بعد أن أدى رسالته كاملة». (ص 116)

صدر الكتاب عام 1925، بعد قيام مصطفى كمال أتاتورك بإلغاء نظام الخلافة العثمانية نهائياً في مارس 1924، ما أدى إلى خلو العالم الإسلامي للمرة الأولى من منصب الخليفة. فقيل إن ملك مصر وقتها (فؤاد) طمح إلى حيازة هذا المنصب المهم وأيدته أغلب التيارات الفكرية ذات التوجهات المحافظة والتقليدية التي رأت أن شغور منصب الخلافة يعد نكبة على الإسلام والعرب.

وفي المقابل، برز تيار ليبرالي علماني، رأى أن إلغاء الخلافة خطوة إيجابية، حيث إن مسارات الحكم في الدولة الحديثة أصبحت غير متوافقة مع الخلافة. وما زالت المعارك مشتعلة بين هذين التيارين، حتى وقتنا هذا، مما يحصن كتاب «الإسلام وأصول الحكم» ضد التقادم. ولأن الشيخ علي عبدالرازق كان من علماء الأزهر وقاضياً شرعياً، فقد اعتبر كتابه مؤشرا مهماً على امتداد الأفكار التنويرية والعلمانية والليبرالية المغايرة للتقليد السائد حتى إلى أذهان منتسبي المؤسسات الدينية. ولذلك تعرض الشيخ علي عبدالرازق للمحاكمة، وأدانته «هيئة كبار العلماء» وطردته من الأزهر، وتم عزل وزير الحقانية عندما رفض تنفيذ الحكم.

أسلبة النقد

وقد ذهب أغلب النقاد إلى أن الشيخ علي عبدالرازق قد انطلق من تصورات مستقاة من وقائع وأحداث سلبية طالت التاريخ المتأخر للخلافة، حيث تصور تاريخ الخلافة وكأنه «نكبة على الإسلام والمسلمين وينبوع شر وفساد» (ص 51). فقد ظن منتقدو الكتاب أن الشيخ علي عبد الرازق قد ركز على: التصور التاريخي الواقعي السلبي للخلافة. بينما انطلق منتقدو الكتاب بالمخالفة - من تصور آخر، يمكن وصفه بأنه تصور معياري مثالي للخلافة، في شكلها الإيجابي كما تحققت في فترة الخلافة الراشدة.

وهذا يعني أن نقاد الكتاب قد اعتبروا ما جاء فيه مجرد تصور «سلبي»، لظنهم أن ممارسة النقد ليست أكثر من عملية سلب أو أسلبة.

نقد التصور المعياري

وينتقد الشيخ علي عبدالرازق التصور المعياري المثالي للخلافة، فيقول: «فالخليفة عندهم ينزل من أمته بمنزلة الرسول صلى الله عليه وسلم من المؤمنين، له عليهم الولاية العامة والطاعة التامة، والسلطان الشامل.. عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا ظاهرا وباطنا، لأن طاعة الأئمة من طاعة الله، وعصيانهم من عصيان الله. (مستشهدا بما روي عن أبي هريرة في العقد الفريد لابن عبدربه). فولايته عامة ومطلقة.. له وحده الأمر والنهي.. وليس للخليفة شريك في ولايته» ويستشهد بخطبة المنصور بمكة، حيث قال: «أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه. أسوسكم بتوفيقه وتسديده».

المخالفة بدلاً من المحاورة

أما منتقدو الشيخ علي عبدالرازق، فقد لجأوا إلى مخالفة التصور الذي أورده الشيخ من خلال تأكيدهم بشكل أحادي على التصور الآخر المثالي المعياري القائل بضرورة الخلافة، مستشهدين بما أنجزته بخاصة في طورها المشرق في عصر الراشدين.

وتتفشى استراتيجية المخالفة تلك حتى لدى أهدأ منتقدي الكتاب وأكثرهم موضوعية، مثلما لدى الباحث الإسلامي محمد عمارة، الذي عدد منتقدا: «رابعا: إهمال الجانب المشرق في الفكر الإسلامي: إن انطباعة القارئ لهذا الكتاب عن صورة الخليفة سلبية وليست إيجابية.. سوداوية منفرة.. والسبب هو خلط المؤلف بين «الفكر» الإسلامي و«التاريخ» الإسلامي، بين النظرية وبين التطبيق... ذلك أن في «الفكر» الإسلامي جوانب شديدة الإشراق للحاكم وشروطه وصفاته.. والصورة التي تناثرت في أغلب صفحات الكتاب (الإسلام وأصول الحكم).. هي صورة غريبة عن «روح» الإسلام. أما التيار الفكري الذي عبر بصدق عن روح الإسلام.. فهو تيار المعتزلة.. ومن وافقهم من الخوارج، وهم الذين حددوا أن الطريق لتنصيب الإمام هو طريق الاختيار والبيعة والعقد من الأمة للإمام.. وأن استناد الإمام إنما هو إلى الأمة لا إلى سلطة غيبية.. والمؤلف لا يهمل فقط عرض هذا الجانب المشرق.. وإنما..».

وواضح هنا أن انتقادات الباحث محمد عمارة تلوم الشيخ عبدالرازق على «الخلط بين التاريخ والفكر».. لكنه في تفصيله لهذا اللوم فهو إنما يقدم التصور البديل المخالف، وهو التأكيد على أولوية التصور المعياري المثالي النظري للخلافة على التصور التاريخي والوقائعي عن الخلافة. فهنا يبدو الباحث محمد عمارة وكأنه يهدف إلى التجاوز والتغاضي عن الإشكاليات الواقعية التي طرأت على «تاريخ» الخلافة والتي ظنها مرتكز الشيخ علي عبدالرازق، من خلال التركيز على الجانب المخالف.

المواقع الأحادية

إلا ان هذه الانتقادات تعجز عن فهم درجة «تعقد» تصور الخلافة لدى الشيخ علي عبدالرازق. بل وتختزله في تصور أحادي مضاد لذلك الذي يتبناه النقاد. فقد ظن أغلب النقاد أن تصور الخلافة لدى الشيخ عبدالرازق هو تصور أحادي يركز حصريا على سلبيات الخلافة التي وقعت في أطوارها المتأخرة، ويهمل ايجابياتها العظيمة التي تركزت بأطوارها المبكرة. لكن هذا التصور الانتقادي غير سليم، لأنه يختزل تصور الشيخ علي عبدالرازق في سياق تصنيف سطحي ينحصر في ثنائية: الإيجابي الأبيض المشرق، في مقابل السلبي الأسود المظلم، وهو ما يدل على السقوط في نمط تفكير ثنائي، قد ينطبق على الأمور الطفولية المزاجية الأهوائية، لكنه لا يناسب مقام التداول في الأمور العلمية المعقدة والبحثية المعمقة. فقد توصل الفكر المعاصر إلى اعتبار التصنيفات السطحية الثنائية للأبيض والأسود، بمنزلة سقوط في نمط التفكير المانوي البدائي القديم، بما لا يناسب النضج الفكري والحضاري وممارسة النقاش الفلسفي المتعمق، ما يؤدي إلى انعدام لغة الحوار الفكري من الأساس، ويصبح ميدان التفاعل الوحيد الممكن تصوره بين الطرفين، هو الصراع المانوي بين الخير والشر، وبين الإيجابي والسلبي، حيث تنعدم المواقع الرمادية وتسود مواقع الأحادية المتخالفة للأبيض أو الأسود وحدهما.

كيد أم تنزيه?

والحقيقة أن تصور الخلافة عند الشيخ علي عبدالرازق ليس سطحيا ولا أحاديا ولا هو بالمهمل للجانب المشرق ولا هو بالمبرز للجانب المظلم وحده. فهو يرى: «أن الخلافة تقوم عند المسلمين على أساس البيعة الاختيارية، وترتكز على رغبة أهل العقد والحل من المسلمين ورضاهم، وقد يكون من المعقول أن توجد في الدنيا خلافة على الحد الذي ذكروا، غير أننا إذا رجعنا إلى الواقع.. وجدنا أن الخلافة في الإسلام لم ترتكز إلا على أساس القوة الرهيبة وأن تلك القوة كانت - إلا في النادر - قوة مادية مسلحة». (ص 37) و«لا يعنينا أن نعرف السر كله في ذلك.. وإنما الذي يعنينا في هذا المقام هو أن نقرر لك أن ارتكاز الخلافة على القوة حقيقة واقعة لا ريب فيها. وسيان عندنا بعد ذلك أن يكون هذا الواقع المحسوس جاريا على نواميس العقل أم لا، وموافقا لأحكام الدين أم لا». (ص 41)

وهنا نجد الشيخ علي عبدالرازق، يعبر عن خشيته من استمرار المفارقة بين المعياري النظري وبين الواقعي التاريخي في مسألة الخلافة. فليس الأمر هنا كما ظن أغلب النقاد، من أنه يتبنى التصور الواقعي التاريخي عن الخلافة، بينما يهمل التصور المعياري المثالي عنها، بل إن حقيقة الأمر هي أنه يدرك تأثير وأبعاد كل من التصورين المتخالفين، لكنه يخشى من سيادة وهيمنة التصور الواقعي التاريخي على التصور المعياري. ومن هنا نستطيع أن نفهم أن الشيخ عبدالرازق كان مهموما باستمرار غياب الجانب المشرق مع استمرار سيادة الجانب المظلم، أي باستمرار تحول الخلافة من البيعة الاختيارية في التصور المعياري لدى «الفكر» الإسلامي المنشغل بالإسلام المبكر، حتى وصلت الى ما وصلت إليه بالفعل من استناد إلى القوة الرهيبة في «الواقع» والتاريخ الإسلامي المتأخر. وذلك لأنه وجد هذا التحول قد تمادى في التحقق التاريخي بحيث أصبحت له اليد العليا في «الواقع المحسوس». هذا هو مدار قلق الشيخ علي عبدالرازق.

وهكذا لا يمكن عد محاولته إثبات أن الخلافة ليست أصلا من أصول الدين، بمنزلة كيد للخلافة ولا للإسلام، كما ظن أغلب النقاد. بل هي بالأجدى، محاولة لتنزيه الإسلام عن أن يكون قد أتى بأصل - الخلافة - يمكن أن يصير وأن يتحول في التاريخ الواقعي إلى ما صارت عليه الخلافة من وضعية سلبية لا تليق بأصل من أصول الإسلام. وذلك أحد الأوجه المحتملة لتفسير مقصد الشيخ علي عبدالرازق.

تحقيق الإجماع

ويناقش الشيخ عبدالرازق حكم الخلافة، فيقول إن علماء المسلمين «نصب الخليفة عندهم واجب. إذا تركه المسلمون أثموا كلهم أجمعون.. وقد شذ بعض الناس فقال بعدم وجوب هذا النصب رأسا لا بالعقل ولا بالشرع منهم الأصم من المعتزلة وبعض الخوارج وغيرهم.. وهؤلاء محجوجون بالإجماع.. (فالدليل على وجوب الخلافة هو)، أولا: إجماع الصحابة والتابعين، وثانيا: أن نصب الإمام يتوقف عليه إظهار الشعائر الدينية وصلاح الرعية.. ولاشك أن ما يتوقف عليه الفرض فهو فرض.. لم نجد من الذين زعموا أن إقامة الإمام فرض من حاول أن يقيم الدليل على فرضيته بآية من كتاب الله الكريم..  زعموا وقد فاتهم كتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم أنه تواتر إجماع المسلمين بعد وفاة النبي الكريم..».

وهنا يسطر الشيخ علي عبدالرازق نقده لدعوى الإجماع، حيث يكتب: «نسلم بأن الإجماع حجة شرعية.. أما دعوى الإجماع في هذه المسألة فلا نجد مساغا لقبولها... على أننا مثبتون أن دعوى الإجماع هنا غير صحيحة ولا مسموعة».

«لو ثبت عندنا أن الأمة في كل عصر سكتت عن بيعة الإمامة، فكان ذلك إجماعا سكوتيا، بل لو ثبت أن الأمة بجملتها قد اشتركت بالفعل في كل عصر في بيعة الإمام واعترفت به. فكان ذلك إجماعا صريحا، لو نقل إلينا ذلك لأنكرنا أن يكون إجماعا حقيقيا، ولرفضنا أن نستخلص منه حكما شرعيا، وأن نتخذه حجة في الدين. وقد عرفت من قصة يزيد كيف كانت تؤخذ البيعة ويغتصب الإقرار». (ص 45 46) ثم.. «لو ثبت الإجماع الذي زعموا لما كان إجماعا يعتد به، فكيف وقد قالت الخوارج لا يجب نصب الإمام أصلا، وكذلك قال الأصم من المعتزلة.. وحسبنا في هذا المقام نقضا لدعوى الإجماع أن يثبت عندنا خلاف الأصم والخوارج وغيرهما وإن قال ابن خلدون إنهم شواذ». (ص 47)

وهنا يأتي الشيخ علي عبدالرازق بابتكار جديد، وهو مصطلح «الإجماع الحقيقي». وهو غير معروف في علم الفقه، الذي يركز حصرا على مصطلحي الإجماع «السكوتي» والإجماع «الصريح» وحدهما. أما مصطلح «الإجماع الحقيقي»، فتكمن أهميته في كونه أقل شكلانية من المصطلحين الآخرين، وبذلك يفتح بابا واسعاً لتطوير الفقه.

فكان رد الأزهر - في الاتهام الخامس - أنه: «ادعى أن الخلافة كانت قائمة على السيف والقوة لا على البيعة والرضا... ولو سلم للشيخ بذلك جدلا، لما تم له ما يزعمه من إنكار إجماع الصحابة على وجوب تنصيب إمام المسلمين، فإن إجماعهم على ذلك شيء وإجماعهم على بيعة إمام معين شيء آخر، واختلافهم في بيعة إمام معين لا يقدح في اتفاقهم على وجوب نصب الإمام، أي إمام كان».

وهذه محاججة بارعة ووجيهة، وكان يمكن توظيفها لبدء حوار حقيقي. لكنها وُظِفت كنقطة للاتهام والمحاكمة، لا كنقطة للحوار.

 

عرض: أمير الغندور