من المكتبة الأجنبية: العلم.. التنمية.. والسيادة في العالم العربي

من المكتبة الأجنبية: العلم.. التنمية.. والسيادة في العالم العربي

عرض: أحمد محمد حسن*

بعد أن عمل المفكر والعالم الفلسطيني ابن مدينة حيفا أنطوان زحلان أستاذاً للفيزياء بالجامعة الأمريكية في بيروت (1956 - 1976) انطلق إلى فضاء أرحب يقدم مشورته حول السياسة العلمية وتصميم وإنشاء المنظمات التي تخدم التنمية في المنطقة العربية.

قدّم زحلان للمكتبة العالمية والعربية مؤلفات قيّمة، تبرز اهتمامه بعلاج الفجوة التي تتسع بين الشرق العربي والغرب في شئون الثورة العلمية، كان منها: العلم والسياسة العلمية في العالم العربي، 1980، لندن (جروم هيلم)، وصناعة الإنشاءات العربية (The Arab Construction Industry) الصادر في 1983 في لندن (جروم هيلم) ونيويورك (سانت مارتن بريس)، و(اكتساب القدرة التكنولوجية) Acquiring Technological Capacity (1991، باسينج ستوم ماكميلان)، وهي ما صدرت ترجمات لها عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت.

في يوليو الماضي، نشر أنطوان زحلان في بالغريف ماكميلان، نيويورك، دراسة موسعة (264 صفحة) تحت عنوان «العلم، التنمية»، والسيادة في العالم العربي» (Science، Development، and Sovereignty in the Arab World) تقدم خلاصة تجربة المؤلف لأكثر من نصف قرن في مجال الدعوة لتنمية العلم وحيازته في دولنا العربية.

يرى زحلان أنه على الرغم من زيادة الدول العربية لأبحاثها ومحاولات تطوير أدائها العلمي خلال السنوات الأخيرة، فلاتزال هناك معوقات تمنع بشدة التعاون بين الدول العربية وتبقيه محدوداً في مجال البحث العلمي، بسبب الاقتصادات السياسية التي تهيمن عليها التبعية التكنولوجية والفساد. لا يتحدث زحلان من فراغ، بل يوثق كل فكرة من أفكاره بوثيقة أو جدول أو دراسة معتمدة مستخدما المؤشرات القياسية الدولية لتقييم نتائج البحوث ورأس المال البشري، والأداء الاقتصادي، والزراعة، والصحة المستدامة. وإذ يقدم الفصل الأول مقدمة عامة لعلاقة العلم بالحياة، والتقدم، يخصص الثاني للبحث والتطوير في العالم العربي، والثالث للبحث والتطوير ووظائفهما، والرابع للعلم والجامعات والمؤسسات، والخامس للتعاون العلمي في العالم العربي، والسادس للتعاون الدولي بين العلماء العرب، والسابع لغرسة التنمية في العالم العربي، والثامن للربط بين العلوم والأمن القومي، والتاسع للعلاقة بين العلم والفقر، والعاشر لإنشاء منظمات التعلم، وتكييفها وتراكمها وإدماجها، والحادي عشر للبلديات والعلوم والتكنولوجيا، ويختتم الكتاب الموسوعي بالحديث عن الآفاق المستقبلية في الفصل الثاني عشر.

إذا كانت التنمية هي تسارع عملية النمو الاقتصادي، مع التوسع في الانتاج والعمالة، والتحول المؤسسي والتقدم التكنولوجي للبلد الذي يحسِّن بشكل مطرد رفاهية كل مواطنيه، فمقدمة الكتاب وفصوله تقر بأن العالم العربي قد فشل في هذا الشأن.

ولا يأتي هذا الاستنتاج كمجرد رأي، بل يُعد نظرة عقلانية إلى مفاهيم الرفاه وحقوق الإنسان والحريات الأساسية التي تعزز قدرات الشعب على تحقيق كامل إمكاناتهم في عملية التنمية. وهناك الكثير من الأدلة التي تدعم هذه الفرضية، ومن المفارقات أن هناك أدلة حتى في ظل عدم وجود تلك الأدلة نفسها. فالدول المتقدمة وتلك المتقدمة نسبيا، تقدم أدلة في شكل إحصاءات مفصلة لتقييم مسار التنمية الخاصة بها، بينما لا تُنتج الدول العربية إحصاءات كافية، وهو أمر لا يرتبط بمسألة الأمن الوطني الذي يخفي الحقائق والأرقام، ولكن بسبب التخلف المنتشر.

رداءة التعليم العالي تحد من فرص المستقبل

يقول زحلان إن البلاد التي تهتم بشكل جدي بمستقبلها سياسياً واقتصادياً يجب أن تهتم بشكل مكثف بجودة نظام تعليمها العالي، حيث تقلل وتحد المكانة المتردية والمتدنية لهذا التعليم من فرص البلاد المستقبلية. يعرض المؤلف لنموذج قام به علماء صينيون حين طوروا قياساً لترتيب أفضل 5000 جامعة على مستوى العالم كله. لم يجد هؤلاء في أول سنوات دراستهم أي جامعة صينية بين الجامعات المائة الأولى، وكان حضور جامعات الصين ممثلاً بسبع وعشرين جامعة في المراتب من 100 إلى 500 (دون وجود جامعة عربية واحدة)، وبين أفضل عشرين جامعة كانت هناك 17 (أمريكية)، واثنتان بريطانيتان، وجامعة يابانية. يوضع المقياس الصيني تدني البحث العلمي كلما اتجهنا أسفل الترتيب، وهكذا حين نصل إلى المرتبة 400 لا تصبح الجامعات مؤسسات بحث علمي، كما يُفترض.

وفي مجال الجامعات العربية عثر الصينيون على 16 جامعة هي: جامعة الملك فهد للبترول والمعادن في الظهران (637)، وجامعة القاضي عياض في المغرب (آخر الجامعات العربية بين الخمسة آلاف جامعة وترتيبها 3962)! وبين هذين الترتيبين كان من المثير وجود ثلاث جامعات فلسطينية هي جامعة بيرزيت (1382)، وجامعة القدس (2785)، والجامعة الإسلامية في غزة (3943).

والغريب أنه في حين سعى تربويو الصين لفهم ما يضعف التعليم لديهم، وكيف يقيمون جامعات عظيمة، رأى المستثمرون في العالم العربي أن نقص الأماكن بالتدريس الجامعي الحكومي فرصة للربح التجاري، ومن ثم بدأت موجة إنشاء للجامعات الخاصة، التي لم تقدم ما لم تقدمه الجامعات الحكومية، إن لم تكن أسهمت في تكريس التخلف العلمي في مؤسسات البحث.

عمالة محدودة الإمكانات

ومن طريف ما يرصده كتاب «العلم، التنمية، والسيادة في العالم العربي» هو حجم العمالة الوافدة إلى العالم العربي، مقارنة بمن يفد للعمل بالصين والهند. فحسب تقرير باريس لمنظمة الهجرة والتعاون الاقتصادي والتنمية (2004) وجد زحلان أن عدد الوافدين إلى البلدان العربية يفوق من وفد إلى أكبر دولتين في العالم سكانا.

فقد سافر للعمل بالبلدان الخليجية 4 ملايين ونحو 463 ألفا، بينما جاء الصين مليون ونحو 928 ألفا، والهند مليون وقرابة 650 ألفا، ولكن الأدهى أن نسبة ذوي المهارات العالية الاختصاص من هؤلاء الوافدين كانت لا تتجاوز 22% في الدول العربية، بينما تكاد تكون 52% بالصين، و40% في الهند. وهو ما يعني أن العمالة الوافدة لم تسهم في التنمية العلمية المختصة بقدر ما أسهمت في زيادة البطالة بالعالم العربي!

لقد فشل العرب خلال القرن السادس عشر في التكيف مع التطورات العلمية والتكنولوجية، وهو فشل تبدى في ثلاثة وجوه:

  • العجز عن منافسة إنجازات أوربا التكنولوجية البحرية، حيث اخترع الأوربيون السفن العابرة للمحيطات، مما دمر التجارة العربية الآسيوية وكسر احتكار البحارة العرب في مياه البحار الآسيوية. وكان من تأثيرات ذلك أيضا هزائم عسكرية أمام السفن البرتغالية المتقدمة تكنولوجيا بفضل تصميم يتيح لها حَمْل مدافع ثقيلة أكثر، فضلا عن اعتماد جيوش أوربا على الأسلحة النارية.
  • العجز عن إنشاء كيان اقتصادي عربي موحد يواجه إنشاء شركات الهند الشرقية الأوربية على سواحل آسيا وبالموانئ التي فتحت للعرب ذراعيها في السابق، مما أتاح هيمنة رأس المال الجديد وعزل التجار العرب.
  • العجز عن الاحتفاظ بحصة من سوق البن المربح، بعد أن ساعد العلم الغرب المستعمر على نقل زراعته من اليمن إلى البرازيل وبلدان أخرى.

ويقدم المؤلف أمثلة عديدة على كيفية مساندة التكنولوجيا للغرب في تفوقه، مقابل تخلف القوى العربية؛ حيث انهارت صناعة النسيج العربية مع بداية الثورة الصناعية، كما تم تطوير الطاقة الآلية لتحل مكان عضلات البشر وكائناته الحية، وقدمت الطفرات الهائلة للثورة الزراعية ثورة في إنتاج الغذاء، في الوقت الذي فشلت فيه البلدان العربية في أن تتخذ من مصادرها النفطية والغازية مصدرا للقوة والريادة.

تكنولوجيا للاستيراد فقط

يقول مؤلف كتاب «العلم، التنمية، والسيادة في العالم العربي» إنه خلال القرن التاسع عشر سعت مصر لامتلاك تطبيقات العلم والتكنولوجيا الأوربيين. استخدم ولاة مصر عشرات الآلاف من الأوربيين كخبراء فنيين ومستشارين عسكريين، واستوردوا مظاهر التكنولوجيا من محركات البخار إلى سكك الحديد، وخطوط التلغراف، بل وأرسلوا أعداداً كبيرة من الدارسين المصريين إلى أوربا، أكثر مما فعل اليابانيون بعد ذلك بنصف قرن. لكن طبيعة الحكم السياسية في مصر آنذاك لم تؤسس السعي للاعتماد على الذات تكنولوجيا، وكان لذلك تداعيات سلبية في مصر ومنطقتها العربية. وظلت البلدان العربية بمنأى عن غرس العلوم، ولم يكن ذلك بسبب السيطرة العثمانية السابقة، وحسب، ولا الاستعمار الغربي اللاحق فقط، وإنما بسبب ما عم المنطقة من تدهور سياسي وحضاري في المراحل الأولى من الألفية الثانية.

ولكن الألفية الثانية شهدت تدميراً لتلك الدول، فقد أدت التكنولوجيا الجديدة إلى تدمير العمالة والاقتصاد. فقبيل العام 1630م، كان للعرب دور أساسي في التجارة الدولية، صنعوا أدوات النقل، وأبحروا بين القارات، براً وبحراً، لنقل تجارتهم وبضائعهم، واستفاد التجار من أماكن إقامة وفرت مساحات تخزين آمنة لحمولاتهم، واشترت المدن التي توقفوا فيها سلعهم، وباعتهم تموين رحلاتهم. ولكن حين حلت نظم التجارة والنقل الغربية مكان النظم العربية، توقف استخدام الجمال، واختفت الوظائف التي وفرتها تلك الرحلات البرية، وكانت خسارة الوظائف تعني الفقر، وما أوضح على الأثر السلبي للفقر من غزوات البدو على المناطق الزراعية نتيجة لانتشار البطالة بعد ما خسروا مصدر رزق اعتمد على تربية الجمال، والعمل كأدلاء وحرس للقوافل.

ولم يسع العرب كالأوربيين ليتعلموا، مثالا، كيف يصنعون قاطرات السكك الحديدية، بل فضلوا أن يشتروها، ولعل ذلك هو ما بقي حتى اليوم تياراً عاما، حيث يستورد العرب كل شيء. ولو كانوا فعلوا كالبلجيكيين لما كان هذا الحال. فقد استورد البلجيكيون قاطرتين، استخدموا الأولى وقاموا بتفكيك الثانية، وتقليدها، وفي وقت وجيز أصبحوا مصدرين للقطارات. وللإنصاف فقد حارب الغرب تطور الشرق التكنولوجي، واحتاج المصريون إلى مائة عام لتتحول قاطراتهم من استخدام الفحم المستورد إلى استخدام النفط المنتج محليا، حيث أجبرت المعوقات البريطانية خلال الحرب التحول إلى النفط المتوافر محليا، بدلا من الفحم.

نقطة الضعف القاتلة

لا يختتم زحلان كتابه دون الإشارة إلى أماكن الضعف الحالية، وهو يرى أن نقطة الضعف القاتلة للعلم في البلدان العربية تأتي من التوسع في التعليم الجامعي دون تطبيق معايير الجودة، وضآلة الاهتمام بالقدرات الإبداعية والمواهب، وغياب المؤسسات العلمية التي تعنى بالتقدم حيث لا يجد الخريجون من يرعى علومهم وينميها بعد اتمام دراستهم، كما أن هناك غيابا لسلطة حكومية أو أهلية تنظم النقاش الفكري حول المنخرطين في سوق العمل العلمي الجديد، فضلا عن ضآلة المردود المالي. وينادي زحلان بضرورة توفير مناخ سياسي مشجع يدعم إنشاء جمعيات علمية تطرح بشكل عام أفكارها حول ما يواجه المجتمعات العربية وسبل تسهيل البحوث التي يتولاها العلماء.

إن التنمية عملية طويلة الأمد ولتحقيق التنمية العربية يجب التعامل معها كهدف على المدى الطويل، ضمن وجود سياسة منسقة وهادفة اقتصادية واجتماعية، تسعى لانتشال المجتمع من الفقر المدقع، ولن يتأتى ذلك دون تمكين هؤلاء من حقوقهم، بالإضافة إلى سيطرة الدول على مواردها، بما في ذلك العمالة لديها، لتحسين أوضاعهم من فترة لأخرى، وتلك هي السيادة التي توفر الأمن.

إن التشارك والتمكين هما كلمتا السر اللتان وضعهما أنطوان زحلان في كتابه «العلم، التنمية، والسيادة في العالم العربي». تشارك علمي واقتصادي، وتمكين من الحقوق والواجبات، ومن الموارد بالمثل. فالإمكانات الوافرة في البلدان العربية تجعل من حجم التوقع كبيرا.
--------------------------
* كاتب من مصر.

---------------------------------------

لَحا اللَهُ دَهرًا حالَ بَيني وَبَينَكُم
وَحَرَّمَ وَصلَ الحُبِّ وَهْوَ مُحَلَّلُ
لباناتُ نَفسي عِندَكُم وَشِفاؤُها
مِنَ السقمِ لَو أَنَّ السَّقيمِ يُعَلَّلُ
لَبِستُ الضَنى حَتّى تَبَدَّلت صورَةً
سِوى صورَتي وَالحُبُّ لا يَتَبَدَّلُ
لَعَلَّ اللَيالي وَالحَوادِث خَصمُنا
كَما حَكَمَت فينا بِجَورٍ سَتَعدلُ

الحصري القيرواني

 

تأليف: أنطوان ب. زحلان