اللغة حياة: النحو خدمةٌ للاستعمال لا للقواعد الجامدة

اللغة حياة: النحو خدمةٌ للاستعمال لا للقواعد الجامدة

أرسل أحد أصدقائنا اللغويّين، الراضين عن هذه الصفحة، إحدى مقالاتها إلى أحد المتعسّفين لغويّا، وهو صديق آخر، وطلب رأيه؛ وبعد فترة تهاتفا، فلم يُبد المتعسّف أيّ رأي في المقالة، بل اكتفى بالقول بإيجاز كبير، والإيجاز رأس البلاغة: «لكنّ صاحبنا استعمل عبارة: وقَدْ لا» يعني أنّه استعمال مغلوط؛ فردّ عليه الصديق الأوّل: «ولكنّ المثل يقول: قد لا تَعدِم الحسناءُ ذامّا؛ وقال ابن مالك: والمصروف قد لا ينصرف». فأجابه: «إن كان مرجعك أساليب اللغويّين، فمن الخير قطع الحديث»؛ يعني أنّ كلام اللغويّين ليس شاهدا. فاستطرد الصديق: «لكنّ مجمع اللغة العربيّة أجاز هذا الاستعمال»، فردّ المتعسّف: «إن كنت سترجعني إلى قرارات مجمع اللغة، فمن الخير ألاّ نتابع» وأنهى المهاتفة بهذا التواضع الجمّ، لا رزقنا الله مثله.

الحقيقة أنّ الاستعمال المعترَض عليه شائع، ليس في لغة العصور الحديثة فحسب، بل كذلك في العصر الجاهليّ وما بعده من العصور. صحيح أنّنا لم نجده في القرآن ولا الحديث، لكنّنا نظفر به في مَثَلٍ منسوب إلى رجل جاهليّ قديم، ويقول: قَدْ لا يُقادُ بِيَ الجَمَلُ؛ ولئن قيل إنّ كلام قدماء الجاهليّة موضع شكّ، فلا يمكن القول إنّ الذي روى المثل، وهو المُفضَّل الضَبِّيّ (ت نحو 176 هـ) جاهل للّغة.

والشيء نفسه يقال في المثل الآخر: قد لا تَعدِم الحسناءُ ذامّا، ومَثَل ثالث هو: قد لا أُخشى بالذئب، وقد روى المثلين الأخيرين الزَمَخْشَريّ، وهو من هو في اللغة. وضمّن الشاعر الجاهلي المشهور الأعشى الكبير المثل الثاني شعرَه فقال:

وقَدْ قالَتْ قُتيلَةُ إذْ رَأَتْنِي
وَقَدْ لا تَعْدِمُ الْحَسْناءُ ذاما

وقال الشاعر المخضرم النَمِر بن تَوْلَب:

أَحْبِبْ حَبيبَكَ حُبّا رُوَيْدا
فَقَدْ لا يَعولُكَ أَنْ تَصْرِما

وجاءت في كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع الأمويّ العباسيّ، هاتان العبارتان: «وقد لا تَثْبتُ على أمرٍ تَعْزِم عليه» و «قد لا يَمْنَعُ مِن القدرِ مَن هو أقوى مِنّي وأَعْظمُ أمْرا». ونسب ابن منظور إلى الخليل بن أحمد إمام اللغويّين أنّه جعل الأشياء ثلاثة، ثالثها «شيء قد يكون وقد لا يكون». وقال الجاحظ في الحيوان: «وقد لا يَتْبعُ الحال المال» وقال: «وقد لا يزالُ الطاعنُ يَقُول...». ونسب ابن منظور نفسه إلى أبي عليّ الفارسيّ، اللغويّ المشهور: «وقال أَجْرَدُ لأنّه قد لا يكون كذلك إذا تَمَوّجَ»، وهو قول استعمله ابن سيده بحرفه في المخصّص، وقد يكون له وتوهّم ابن منظور أنّه للفارسيّ. وقال اللغويّ الكبير عثمان بن جنّيّ في الخصائص: «كما أنّ القول قد لا يَتِمُّ معناه إلاّ بغيره». وقال الواحديّ في شرح ديوان المتنبّي: «ويعصي صاحبَهُ الضاربَ به لأنّه قد لا يقطع». فإن كان كلّ هؤلاء وغيرهم ممّا لا يتسع المقام لذكرهم مخْطئين، فما أجمل وأشرف أن يُسْلك المرء معهم.

وموقف صديقنا ليس جديدا، فقد ورد في كتاب من كتب الأخطاء الشائعة الحديثة أنّ عبارة: قد لا أجيء، خطأ صوابه: قد أَغِيبُ أو أَتغيّبُ. وفي كتاب آخر أنّنا لا نقول: قد لا يَحضرُ أخوك، بل: ربّما لا يَحضرُ أخوك. وحجّة الأوّل أنّ «قد» حرف يختصّ بالفعل المثبت المتصرّف الخبريّ، المجرّد من الناصب والجازم والسين وسوف؛ وحجّتهما معا أنّ «قد» لا يفصلها عن الفعل إلاّ القسَم، كقولنا: قد واللهِ أَجَدْتَ. وهما قد أخذا ذلك عن ابن هشام، على ما يرجح لدينا، الذي نصّ في مغني اللبيب على عدم الفصل بين «قد» والفعل بفاصل لأنّها كالجزء منه. لكنّ ابن هشام لم ينصّ على أنّ الفاصل قد يكون «لا» النافية غير العاملة، ولا أظنه فكّر في ذلك؛ لأنّ «لا» هذه ألصق بما بعدها مِن «قد»، وهي قد تدخل في وحدة مع الاسم في نحو: لا شيء. وقد صرّح سيبويه أنّ «لا» لغو بمنزلة ما الزائدة، فهي تدخل على الكلمة فلا تغيّرها عن حالها التي كانت عليها قبل النفي، اسما كانت الكلمة أو فعلا «فصار ما بعدها معها بمنزلة حرف واحد» والحرف عنده يعني الكلمة. ولو كان ابن هشام يقصد أنّ «لا» من الفواصل التي يمتنع وقوعها بين الفعل و«قد» لما قال في مغني اللبيب نفسه، في كلامه على لَدُنْ (باب عِنْد): «وهو أنّها قد لا تُضاف»، وذلك قبل نحو خمس عشرة صفحة من منعه الفصل بين «قد» والفعل؛ ولما قال في كلامه على «هل»، بعد ذلك: «وقد تأتي لذلك، كما في الآية، وقد لا تأتي له»؛ ولما قال في كلامه على عدم وجوب إعطاء الشيء حُكْمَ ما هو في معناه: «ألا ترى أنّ المصدر قد لا يعطَى حكمَ أنّ أو أنْ وصلتهما؟». وقد يسهو عَلَم كابن هشام مرّة، أمّا أن يسهو ثلاثا في كتاب واحد فلا.

ولقد يخطر في بال بعضهم أن يعلّلوا منع الفصل على وجه آخر، هو أنّ «قد» قبل المضارع للتقليل، وأنّ تقليل النفي تكثير للإيجاب، فيكون اجتماع «قد» و«لا» قبل المضارع كنفي النفي، ويكون معنى: قد لا يأتي، هو أنّه آتٍ على الأكثر، خلافا للمقصود في الكلام. وهو تعليل صوريّ تأباه اللغة، لأنّ كثيرا من استعمالاتها يخضع للعرف الاجتماعيّ لا للمنطق الصوريّ. وحقيقة الأمر أنّ «قد» تدخل على لا والفعل وكأنّ هذين معا هما الفعل، كما أنّ «لا شيء» كلّها اسم، فتجعل «قد» عدم وقوع الفعل مجرّد احتمال، علما بأنّ مصطلح التقليل غير دقيق هنا، ولذلك تحدث اللغويّون عن معنى التوقّع والانتظار والتقريب، والمعنى الأدقّ والأشمل، عندنا، هو معنى الاحتمال.

وأغرب ما في تخطئة المخطّئين هو اقتراحهم عبارات بديلة غير منفيّة، وكأنّ الكلمة تكون دوما مرادفة لضدّها المنفيّ، أي أنّ عبارة «يعيش»، مثلا، تعني «لا يموت»، وعبارة «يبقى» أو «يستقر» تعني «لا يرحل». أو اقتراحهم «ربّما» بدلا من «قد»؛ ولو صحّ التبادل بين هذين لصحّ قولنا: ربّما واللهِ أَحْسَنَ، علما بأنّ شِبه هذه العبارة يقتضي زيادة لو بعده، خلافا لاستعمال «قد». والشيء الأهمّ هو تجاهل المخطّئين للفروق اللغويّة، وللأسلوب الفنّيّ، وللإيقاع الكلاميّ؛ فشتّان بين: قد يجيءُ وقد لا يجيءُ، وبين: قد يجيء وقد يذهب، وبين: قد يعيش طويلا وقد لا يعيش إلاّ قليلا، وبين: قد يعيش طويلا وقد يموت عمّا قليل. وإنّ من الجمود جعل النحو في خدمة القاعدة لا في خدمة الاستعمال ونتيجة له، وهو أمر قلّما يرعاه المخطّئون.
-------------------------------
* أكاديمي من لبنان.

 

مصطفى عليّ الجوزو*