جمال العربية فاروق شوشة

جمال العربية

"ها أنا .. وأخواتها"

شاع بين الكتاب والأدباء المعاصرين قولهم:

ها أنا قائل ما أعتقد.

وها هما يفعلان ما يشاءان.

وها نحن نرى ذلك الرأي.

وهي أمثلـة تجيء على صـورة غير صحيحـة من وجهة نظر علماء اللغة ونقادها، ممن يحرصون على الدقة والصـواب في الاستعمال، وكـان ينبغي لهؤلاء الكتاب والأدباء أن يقولوا:

هأنذا (ها أنا ذا) قائل ما أعتقد

وها هما ذان يفعلان ما يشاءان

وها نحن أولاء نرى ذلك الرأي

وعلماء اللغة ونقادها يذهبون في هذا الأمر إلى أن هاء التنبيه (ها) تدخل على الضمير بشرط أن يكون مخبرا عنه باسم الإشارة.

وينطبق هذا على بقية الأمثلـة باعتبار أنواع الضمائر مع التذكـير والتأنيث ومع الإفراد والتثنية والجمع.

وجمهرة النحاة واللغويين ينصون على أن الإخبار عن الضمير في مثل هذا التعبير بغير اسـم الإشارة (ذا وذي وذان وهؤلاء. . إلخ) لا يكاد يقال، أو أنه شاذ.

لكن الطريف أن بـاحثا مدققا هو المرحوم الأستاذ محمد شـوقي أمين- عضـو مجمع اللغة العربيـة في القاهرة- تصدى للأمر بحثا وتحقيقا ودراسة، وعرض لآراء اللغـويين والنحـويين، وانتهى إلى أن هناك من شواهد الشعر والنثر في تراثنا العربي مـا يشهد للاستعمال المعاصر على أقلام الأدباء والكتاب بالصحـة والصواب، وأن الإخبار عن الضمير- في مثل العبارات السابقة- لا يتطلب استخـدام اسم الإشارة.

من بين هذه الأمثلة والشواهد:

يقول أبوكبير الهذلي- وهو شاعر جـاهلي أدرك الإسلام-:

ولوعا، فشطت غربة دار زينب

فها أنا أبكي والفؤاد قـريح

ويقول العباس بن الأحنف:

وهـا أنـا من بعـدكم لم أزل

في دولـة الأحـزان والوجـد

ويقول إبراهيم الصـولي (كـما ورد في الجزء الأول من معجم ياقوت):

وكنت أعـدك للنـائبـات

فهـا أنـا أطلب منك الأمـانـا

ويقول البحتري:

هـا هـو الشيب لائما فأفيقي

واتـركيه إن كان غير مفيق

ويقول المتنبي:

فها أنا قد ضربت وما أحاكا

ويقول:

فها أنا في السماح له عذول

ويقول:

فها أنا في محفل من قرود

ويقول المعري:

فإن قعدت عنه الحوادث حقبة فهـا

أنـا فيما لا يشـاء قيـام

ويقول عبد الله بن عبد الرحمن الدينوري (في الجزء الرابع من اليتيمة):

مضى الإخـوان وانقـرضـوا

فهـا أنـا للـردى غـرض

ونصل في الاستشهاد إلى شعراء العصر الحديث، فنجد البارودي يقول:

فإن أكن عشت فـردا بين آصرتي

فها أنـا اليوم فـرد بين أندادي

ويقول ولي الدين يكن:

وكانت صبوة ونزعت عنها

فهـا أنـا لا أدين ولا أدان

إلى غير ذلك من الشواهد الشعرية التي تربو على العشرين، أما شواهد النثر فمن بينها ما ينسب إلى خالد بن الـوليد- وقد حضرته الوفاة- إذ قال: ثم ها أنا أموت على فراشي.

وفي كليلـة ودمنة لابن المقفع (ص 214 من طبعـة مطبعة المعارف) وها أنا قائم بين يديك.

وفي كتاب أخبار القضاة لوكيع (ص 342 من الجزء الثاني): ها هو الآن أقر

وفي مروج الذهب للمسعـودي (الجزء الثاني، صفحة 266).

وها أنا يا أمير المؤمنين

وفي الكـامل للمبرد (صفحـة 71 من الجزء الأول من طبعة مصر): قال:

ها هي عندي

إلى غير ذلك من شـواهد النثـر التي تشهـد بأن الإخبار عن الضمير المسبـوق بأداة التنبيه بغير اسم الإشارة جرى في العصور الأولى والعصور التالية على ألسنة الفصحـاء من فقهاء اللغة وأعيان الشعراء، وخاصة الأدباء على السواء. وعندما عرض الأمر على مجمع اللغة العربية في الجلسة التاسعة، ثم في الجلسة السادسة والعشرين من مؤتمر المجمع في دورته التاسعة والثلاثين كـان قراره: يجوز دخـول " ها " التنبيه على الضمير دون أن يكـون الخبر اسم إشارة نحو: ها أنا أفعل، وها أنت تفعل، مستدلين على ذلك بالشواهد العديـدة التي وردت في كـلام العرب الـذين يحتج بقولهم، مثل قول الشاعر- وهو أبوكبير الهذلي-:

ولوعا فشطت غربة دار زينب

فها أنا أبكي والفؤاد قـريح

ومن النثر ما ينسب إلى خالد بن الوليد: " ثم ها أنا أموت على فراشي (1- 165 عيون الأخبار).

وما ينسـب إلى المستورد بن علفة الخارجي: " وها أنتم تعلمون ما حدث" (1-48 الكامل للمبرد).

ولهذا لا حـرج على كاتب أن يكتب: ها أنا، وها أنت، وها هو، وما يشبه ذلك من الضمائر.

" لاميه العرب " للشنفرى
بقلم : فاروق شوشة

والشنفرى- ثابت بن أوس الأزدي- واحد من الشعراء الصعاليك الذين يمثل شعرهم صفحة متميزة في ديوان الشعر العربي القديم، من حيث فنية القصيدة والقيم التي تتبناها، ومـوقف الشاعر من القبيلـة والمجتمع، فهؤلاء الصعـاليك بطـوائفهم الثلاث: الفقراء المتمردون على فقرهم، والهجناء أو الأغربة- الذين ليسوا من أصل عربي نقي، والخلفاء أو المخلوعون الذين خلعتهم قبائلهم وأسقطت انتماءهم إليها لكثرة ما ارتكبوا من أمور أوقعت قبائلهم في نتائجها- هؤلاء الصعاليك يمثلون نبرة إنسانية شجاعة في ضمير الشعر العربي، وخروجا على قيم القبيلـة والمجتمع، ومطالبـة بحـق العربي المحتاج في مال العرب القادر. وتجمع الروايات على أن الشنفرى من طائفة الأغربة أو الهجناء، واسمه يقدم لنا دليلا على أصله فمعناه: الغليظ الشفتين، وغلظ الشفتين - كما يقرر علماء الأجناس- من سمات الجنس الأسود، كما تشير هذه الروايات إلى أن أمه كانت أمة سوداء أو من دم مختلط.

كما تحدثنا هذه الروايات عن فقد الشنفرى لتوافقه الاجتماعي مع قبيلته " الأزد " وانتقاله إلى قبيلة " فهم " المتمردة المشهورة بلصوصها وفتاكها، حيث اتصل به تأبط شرا، ووجد فيه تلميذا ممتازا فلقنه دروس الصعلكـة الأولى - بتعبير الدكتور يوسف خليف في كتابه عن الشعراء الصعاليك- ورأى الشنفرى أن فرصـة الانتقام من قبيلته " الأزد " قد سنحت له فصب عليها كل غزواته. ويتميز أسلوب الشنفرى بالخشونة اللفظية التي تمثل اللغة البدوية الجاهلية، والصياغة المحكمة، فضلا عن صدق التصوير والصراحة في التعبير عن واقع حياة الصعلوك.

وقد شكك البعض- ومنهم الدكتور خليف- في نسبة هذه القصيدة- لامية العرب- إلى الشنفرى، وإن كان كثيرون يرون أنها من شعره، وأنها تحمل بصماته الفنية وروحه الشعرية.

يقول الشنفرى:

أقيمـوا بني أمي صدور مطيكم

فإني إلى قـوم سواكم لأميل

فقـد حمت الحاجـات والليل مقمر

وشدت لطيـات مطـايـا وأرحل

وفي الأرض منأى للكـريم عن الأذى

وفيهـا لمن خاف القلى منعزل

لعمرك ما في الأرض ضيق على امرئ

سرى راغبا أو راهبا وهـو يعقل

ولي دونكم أهلون سيـد عملس

وأرقط ذهلول وعرفـاء جيأل

هم الـرهط لا مستـودع السر ذائع

لديهم ولا الجاني بما جـر يخذل

وكل أبي باسل، غير أنني

إذا عـرضت أولى الطـرائد أبسل

وإن مدت الأيدي إلى الزاد، لم أكن

بأعجلهم إذ أجشع القـوم أعجل

ومـا ذاك إلا بسطـة من تفضل

عليهم، وكـان الأفضل المتفضل

وإني كفـاني فقـد من ليس جـازيـا

بحسنى، ولا في قربـه متعلل

ثـلاثة أصحـاب: فـؤاد مشيع

وأبيض إصليت وصفـراء عيطل

أديم مطـال الجوع حتى أميته

وأضرب عنه الذكـر صفحا فأذهل

وأستف ترب الأرض كي لا يرى له

علي من الطـول امـرؤ متطـول

ولولا اجتنـاب الذام لم يلف مشرب

يعـايش بـه إلا لـدي ومأكل

ولكن نفسـا حـرة لا تقيم بي

على الذام إلا ريثمـا أتحـول

وأطوي على الخمص الحوايا كما انطوت

خيوطـه مـاري تغـاز وتفتل

وأغدو على القوت الزهيد كما غدا

أزل تهاداه التنـائف أطـول

فإما تريني كـابنة الرمل ضاحيا

على رقـة أحفى ولا أتنعل

فإني كمولى الصبر أجتـاب بزه

على مثل قلب السمع والحزم أفعل

وأعـدم أحيـانا وأغنى وإنما

ينـال الغنى ذو البعـدة المتبذل

فـلا جـزع من خلـة متكشف

ولا مـرح تحت الغنى أتخيل

ولا تزدهي الأجهال حلمي ولا أرى

سئـولا بأعقاب الأقـاويل أنمل

فأيمت نسـوانا، وأيتمت إلـدة

وعـدت كما أبـدأت والليل أليل

فقالـوا: لقد هـرت بليل كـلابنا

فقلنـا أذئب عس أم عس فرعل

فلم تلك إلا نبأة ثم هومت

فقلنا قطا قد ريع أم ريع أجول

فإن يك من جن لأبـرح طـارقـا

وإن يك إنسا ماكها الأنس تفعل

 

فاروق شوشة