إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي

نجيب محفوظ يدعو بدوام الثورة

في «أصداء السير الذاتية» لنجيب محفوظ، أستحضر حكاية موحية لبطلها وهو دون سن السابعة، وقد سيق إلى مدرسته مع الخادمة «يحمل في يده كراسة وبعينيه كآبة»، وحين وجد مدرسته مغلقة بسبب الإضرابات، انتشت أغواره وقال: «غمرتني موجة من الفرح طارت بي إلى شاطئ السعادة، ومن صميم قلبي دعوت الله أن تدوم الثورة إلى الأبد».

ومنذ تلك الآونة ونجيب محفوظ يمارس ثورته بحبر دواته؛ يجلس في مقهاه الأثيري «الفيشاوي» يسدد نظرة ثاقبة نحو أفق إنساني رحب وإن كانت تلفه سحابة سيجارته، فهو أكثر إشراقا وأملا، يؤوب إلى نفسه منصتا لنبض روحه الهائمة في أفضية نهر النيل وحي الجمالية وحي العباسية وحي شبرا والحلمية وقصر العيني وخان الخليلي، وبين رشفة فنجان وأخرى يتأمل «الحاج فهمي الفيشاوي» المعتد بفتوته، فتسكن شهامة هذا النبيل وقيمه القبلية والذود عن حمى الحارة، شخصيات رواياته «أولاد حارتنا» و«الحرافيش»... تلك التي تتدثر بقيم «الفتونة»النبيلة بما هي قيم ثورية لا تذعن للظلم والقهر والذل، وتقف إلى جانب البسطاء في وجه «بلطجية» الزيف والفساد والنفاق الاجتماعي والظلم.

وبنبرة ساخرة، يهزأ من فئة «الهباشين» المتسلقين «الانتهازيين» تلك التي تمسك بتلابيب قيم زائفة بما هي قيم النفاق والتزلف والتسلق والوصولية، تدوس كل من تحتها كي تصعد إلى القمة لكنها سرعان ما تكبو وتسقط، ويئن في صمت لأولئك الذين لم يجدوا «خلو» شقة يمارسون فيها حقهم الطبيعي في الحياة «ثرثرة على النيل»...، ويحتقر كل من يستغل الثورة ويسطو على مكتسباتها «السمان والخريف»، وكل من يخون قيم الثورة النبيلة كرؤوف علوان في «اللص والكلاب» ويشيد بقيمة الشباب في صنع الثورات بكل تأججهم وتمردهم وتوقهم للأفضل في «ثلاثيته»، ويجعل من الهلاك مصير الملك وغانيته الجميلة رادوبيس في رواية «رادوبيس»، هاته الأخيرة التي دفعته للسطو على ممتلكات شعبه إرضاء لنزواتها، وبصوت الحكيم الذي لا تخطئ له فراسة يصرخ «الثورات يدبرها الدهاة، وينفذها الشجعان ثم يكسبها الجبناء».

وأستغرب من سؤال سيد حجاب في أحد حواراته: «ترى ماذا لو عاش محفوظ، في ثورة يناير، كيف كان سيكتبها؟».

فنجيب محفوظ ابن الثورة وصانعها وكاتبها، تفتح وعيه مع ثورة 1919 وعاصر ثورة يوليو 1952، فكتب سلفا فصول ثورة 25 يناير بكل عنفوانها وألقها وعمقها وبنفسها الملحمي التراجيدي في كل رواياته، كتبها بنبض مصر المعتدة بتاريخها وحضارتها وتراثها، كتب الثورة مذ كانت فتيلا يحرق ببطء صدورهم بمشاعر الخوف واللاأمان والظلم والقمع، كتبها بأنفة شبابها الذين انبجسوا من سلالات «الجبلاوي» و«أدهم الشرقاوي» و«سليمان الحلبي»، وكل «الحرافيش»، لم يثنه منع كتبه ولا السكين التي صوبت نحو رقبته من المضي قدما، رافق الثورة بهدوء منذ كانت بذرة في نفوس أهلها، رعاها وشذبها وسقاها حتى كبرت واستقامت كشجرة يافعة يانعة في «ميدان التحرير» تؤتي أكلها في كل حين وتتفيأ ظلالها كل الأجيال القادمة.
------------------------------
* شاعرة من المغرب.

 

إكرام عبدي*