إلى أن نلتقي أبوالمعاطي أبوالنجا

إلى أن نلتقي

درس يحيى حقي

في بداية الستينيات كنت ضمن جيل جديد من الأدباء يتقدم إلى الحياة الأدبية بكتابه الأول أو الثاني، كنا نسعى إلى الأجيال التي سبقتنا وتمتلك سلطة الاعتراف بالأدباء الجدد، وكأننا نقدم أوراق اعتمادنا في دولة الأدب، في تلك الأيام كـانت مكاتب الاعتماد أو الاعتراف الأدبي- إذا صح التعبير- تتوزع بـين عدة اتجاهات أو تيارات يرفع كل تيار منها لافتة تعبر عنه، كانت هناك لافتة اليسار ومن أبرز ممثليها آنذاك محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس، وتركز على المضمون الاجتماعي في الرواية والقصـة باعتبار أن شكل القصة أو الرواية يتحدد في ضوء الرؤية الاجتماعية عند الكـاتب، وكانـت هناك لافتة اليمن وتركز على أهمية الشكل فـاتحة ذراعيها لأي مضمون باعتبار الشكل هو طريقنا الذي لا طريق سواه للتعرف على أي مضمون وتحديد قسماته ودوره، وبين هذين التيارين كـانت تتوزع ألوان ودرجات الطيف النقدي في المسافة بين اليمين واليسار، ولكن الشيء المشترك بين كل هذه التيارات هو أن كل واحد منها كـان يقترب من أي عمل أدبي بمنهج نقدي مسبق وجـاهز يرى في ضوئه هذا العمل الأدبي، فكـان هناك على سبيل المثال المنهج النفسي الـذي يؤثره الدكتور عز الدين إسماعيل والمنهج الفني الاجتماعي الذي يؤثره الدكتور محمد منـدور والدكتور عبد القادر القط، وكان هناك منهج الأداء النفسي الذي يؤثره أنور المعداوي. وفي تلك الفترة بالتحديد بدأ يحيى حقي يقدم مقالاته النقدية التي جمعها بعد ذلك في كتابه المعروف "خطوات في النقد " وكان من أهم ما يميز خطوات يحيى حقي النقدية أنها تجيء من كاتب لا يرفع لافتة معينة تشير إلى منهج نقدي معين، ولذلك فقد وصف النقاد الآخرون نقد يحيى حقي آنذاك بأنه نقد انطباعي لتعذر وضعه تحت لافتة معينة، ولم يكن معنى ذلك أن يحيى حقي لا يمتلك منهجا نقـديا، ولكنـه في الواقع لم يكن يمتلك منهجـا نقديا مسبقا وجاهزا من قبل يخضع له العمل الأدبي، ما كـان يمتلكه يحيى حقي من قبل هو رصيده الهائل من خبرة الحياة وخـبرة القراءة الأدبية والنقدية والثقافية الشاملة والعميقة، وبهذا الرصيد العظيم وحده كان يقترب من العمل الأدبي الذي ينقده بنوع شفيف ونادر من الحياد والبراءة ويبدأ يتلمس عناصر الجمال وجوانب الإبداع في هذا العمل، بناء على إدراك سابق لديه بأن لدى كل كاتب حقيقي مناطق جذب خاصة سواء في جـوانب النفس أم في جوانب المجتمع، تعكس نفسها في عملـه الإبداعي، وأن دوره كناقد يتمثل في أن يكتشف هذه المناطق، كـما تتضح في العمل الأدبي، ويصنع منها للكاتب خريطتين، خريطة تمثل ما هو مشترك بين الكاتب وأبناء جيله أو عصره وما أخـذه من تراثه، وخريطة تمثل ما ينفرد به الكـاتب ويمثل خصوصية رؤيته ونبرته وإيقاعه. ودائـما كان يحيى حقي يعطي جل اهتمامه النقدي للكشف عن ملامح هذه الخريطة الخاصة المتفردة لكل كـاتب! ويهدي لقارئه دليله الخاص للسير في دروب هذه الخريطـة، وهكـذا كان يأتي نقد يحيى حقي دائـما طازجا متفردا جذلا بفرحة اكتشاف ما هو جديد وخاص!

وفي الواقع أن استقلال النظرة النقدية عند يحيى حقي كان جـزءا لا يتجزأ من استقلال شخصيته الإنسـانية ونظرته إلى الحياة وموقفه منها، فأنت مع يحيى حقي لا يمكنك أن تتنبأ بتعليقه القادم أو برد فعلـه على موقف أو سلوك. لم يكن رجل القوالب والأنماط، إنه رجل يفكر في كل شيء، وكأنه يراه لأول مرة ويعنى به وكأنه لن تتاح له فرصة لقائه مرة ثانية، رحم الله يحيى حقي فقد كان وجها مضيئا للحرية وللإنسانية.

 

أبوالمعاطي أبوالنجا