الفضيلة الواجبة محمد الرميحي

الفضيلة الواجبة

حديث الشهر

تنتشر في بلادنا العربية والإسلامية مزايدة غير عاقلة حول رسالة الإسلام والمسلمين، هذه المزايدة تنتعش في جو محموم يتصف في أغلبه بعدم الثقة وفي مجمله بالتربص، محاطا بالجهل أو التجهيل، يفتقد في معظمه فضيلة واجبة هي فضيلة الحوار والدعوة الحسنة.

ويعزز هذا الغلو مجموعات بشرية صغيرة تأخذ على عاتقها تطبيق ما تراه - إن حسنت النوايا - أو ما يراه غيرها من المنظمين والمخططين، في القيام بأعمال ترهب المجتمع فكريا أو عمليا وتشيع عدم الاستقرار فيه، وتأخذ الحق بالباطل.

مظاهر نراها في بلدان كثيرة حولنا تجعلنا جميعا نمعن النظر في هذه الظاهرة، ليس فقط عن طريق شجبها وبيان مضارها على المسلمين جميعا، ولكن أيضا من أجل مناقشتها بشكل علمي وموضوعي، علنا نصل إلى مسالك معقولة للإقناع والاقتناع.

فضيلة الحوار، هي التي تنقصنا قبل أية "فرائض غائبة" يشير لنا بها هذا الفصيل أو ذاك.

ولعل الندوة التي عقدت في مطلع الأسبوع الثاني من فبراير الماضي، تحت عنوان (ندوة مستجدات الفكر الإسلامي والمستقبل) وبعنوان فرعي هو (الفكر الحركي الإسلامي وسبل تجديده) وكانت تحت رعاية وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت، لعل هذه الندوة التي أعد لها إعدادا حسنا من قبل منظميها مشكورين، وحضرها قادة فكر ورأي منظرون وممارسون في الشأن الإسلامي الحركي، هي منطلق مقبول لبدء حوار علني وصحي لا من أجل ترسيخ مسار اجتهادي للإصلاح كما تراه هذه الفئة أو تلك، وإنما أيضا من أجل عزل تلك الفئة ذات الغلو المدمر، التي تريد أن ترغم الجماعة الاجتماعية في هذا البلد أو ذاك على السير في طريقها الوحيد، مهما كان ضارا ومفارقا للمنطق، بعيدا عن الزمن والعصر، وإلا استخدمت ضد المجتمع ككل وسائل متطرفة تصل في أعلى مراحلها إلى الإرهاب والقتل والتدمير.

ولعل الحكمة السائدة والتي يمكن أن ننطلق منها في النقاش هي ما أشار إليه باحث في إحدى أوراق الندوة (طاهر جابر العلوي) عندما قرر "أن العقيدة بحمد الله راسخة في النفوس، فالكل (المسلمون) معلن شهادة التوحيد متقبل لما هو معلوم من الدين بالضرورة.

كما أن مبادئ الإسلام على مستوى العبادات والمعاملات والسياسات الشرعية مقررة وواضحة في العديد من المراجع والمصادر، وكذلك أركان العقيدة من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره موضع اتفاق".

ولعل مفهوم ما تقدم أن القاعدة الإسلامية العريضة هي- اليوم- قاعدة سليمة وصحيحة، وإن احتاجت إلى اجتهاد فهو اجتهاد الفكر السمح المبني على الحوار والتجاور والمعايشة لا على النفي والإلغاء وادعاء العصمة، حوار مبني على إعمال العقل لا تحكم العاطفة، وعلى القبول لا التعصب.

تحديد المفاهيم

أحد المفاهيم الرئيسية التي علينا أن نمعن النظر والتدقيق فيها هو ما يشاع - خطأ - في الكتابات السيارة حول "الإسلام السياسي" ويجد الخائضون في الموضوع - في بعض الأوقات من غير علم - مادة غزيرة لإذكاء التشابك بين القاعدة الإسلامية العريضة في أي بلد من بلدانها، وبين دعوة ما أو منهج للإصلاح تدعيه جماعة وتسعى من أجل تحقيقه، باتباع هذا الأسلوب أو ذاك. ويفضل أحد المفكرين الجادين - هو تركي الحمد - في موضوع له نشر في يناير الماضي أن تسمى جماعات دعوة الإصلاح هذه ب "الحزبية الإسلامية" وهو ما اتفق عليه بنص كثير من أوراق الندوة التي أشرنا إليها. وهذه الأحزاب تمثل المنخرطين فيها والمتعاطفين معها - كل في اجتهاده - دون أن تكون بالضرورة ممثلة لعموم الجماعة أو الأمة الإسلامية، بمعنى أن الطرح أو الخطاب أو الاجتهاد الفكري، وما يتفرع من هذا الطرح من أهداف وغايات قصيرة وبعيدة المدى، إنما هو طرح خاص لهذه الأحزاب من حيث فهمها البشري وتفسيرها وتأويلها للمبادئ العامة في الإسلام.

إن تحديد هذا المصطلح وقربه إلى الدقة يحقق أغراضا إيجابية عديدة، من بينها أن الاختلافات ما بين هذه الجماعات سواء كانت اختلافات اجتهادية سلمية أو صراعية أو بين الفرق الصغيرة المنبثقة من الانشقاقات داخل الجماعة الواحدة نفسها، هذا الاختلاف أو الصراع الذي يمكن أن يظهر نتيجة تفاوت رؤيتها في داخل التنظيم الواحد، أو بين التنظيمات المختلفة، يصبح محصورا مهما اشتد في اختلاف الرؤية ويجب ألا يكون خروجا عن الإسلام، والذي هو أعم وأشمل وأرحب من اجتهادات ضيقة لبشر في فترة زمنية معينة قد يصيبون وقد يخطئون في اجتهادهم، كما أن تبني هذا المفهوم الاصطلاحي (الأحزاب الإسلامية) يعزل أو يظهر الجماعات المتطرفة والتي تغلو في تفسيراتها وممارساتها إلى حد الخروج بالعنف عن الجماعة والمجتمع. ولعل الاطمئنان إلى هذا المصطلح هو أولا تأكيد واقع معيش لا لبس فيه، وثانيا تشجيع الحوار فيما بين هذه التحزبات وبعضها، وبينها وبين فئات المجتمع الأخرى، كما أنه أخيرا ليس بمصطلح سلبي كما يتبادر إلى ذهن البعض، حيث إن عصرنا هو عصر التعددية والديموقراطية والحوار المعتمد على فكرة أساسية، هي أنه ليس هناك طرف بشري أو مجموعة إنسانية، مهما بلغت من الحكمة تملك الحقيقة الكاملة، نظرا إلى أن العالم باختلافاته وتغيراته غير القابلة للحصر، لا يمكن الحكم عليه وفق مقولات ذهنية مسبقة، غير قابلة للنقاش.

الواقع المعيش

الاتفاق على مفهوم (الحزبية الإسلامية) هو خطوة لا غنى عنها، لتطوير العمل السياسي والاجتماعي في بلدان إسلامية كثيرة، بدلا من التخفي وراء شعارات ليست دقيقة، ومشوشة لوعي الجمهور العام، وقد يكون هذا الحزب تيارا أو فصيلا وطنيا لديه رؤية إسلامية، ولكنه بالتأكيد لا يحتكر الحكمة المطلقة لأن في السياسة متغيرات وفي الدين ثباتا، وإن نظرنا حولنا نجد الأمثلة تلو الأمثلة على خطورة خلط المفاهيم، فبعد أن خاض الشعب الأفغاني حربا شعواء ضد غزاة بلده، وتكاتفت كل القوى الإسلامية الوطنية والخيرة في أفغانستان جبهة واحدة تحمل لواء الإسلام، من أجل تحقيق جلاء ناجز واستقلال تام، من هيمنة سلطة الاتحاد السوفياتي السابق على أرض أفغانستان، ودحر من تعاون معه من الأفغان. وقد ناصرهم في ذلك دول وشعوب وتنظيمات عديدة، وما أن تحقق النصر حتى ظهرت الخلافات والصراعات بين تلك الفئات - التي كانت متضامنة - إلى درجة الاقتتال فيما بينها، وكل فريق يسمي نفسه بالإسلام، وكل فريق يرى الآخر خارجا عن الإسلام، وحقيقة الأمر أنه صراع دنيوي واجتهادات دنيوية، على الحكم والسلطة في مجتمع واحد لا سبيل إلى حلها إلا بالحوار المباشر في ظل قواعد متفق عليها وهي أن الوطن للجميع.

وتتعدد هذه الظاهرة باختلاف حدتها وضراوتها في شكل الاشتباك ودرجته، بين فئات كثيرة في بلدان كثيرة من العالم الإسلامي، تشتد عداوتها لبعضها فتقتتل فيما بينها، وتخرج فئة منها أخرى عن المجتمع، فتخرب وتعبث فسادا للأمن، مستخدمة وسائل العنف المختلف وكلها تتبنى العلاقات الصراعية بدلا من فضيلة الحوار، وقد اختطت بعض الجماعات في البلاد العربية هذه السيرة - في تبني طريق العنف - جزءا من تاريخها الماضي، ففي الدراسة القيمة التي قدمها عبد الله فهد النفيسي في ذلك المؤتمر الذي سبقت الإشارة إليه يقدم لنا الباحث - وبصورة نقدية - كيف جرب الإخوان المسلمون في مصر التعامل بالعنف وكيف جربوا التعامل بالسياسة فتغلبت الحكمة الأخيرة على التصور الأول.

فيوجز أن (الإخوان يتميزون عن باقي الجماعات "الهجرة والجهاد أو غيرهما من الحركات الأصولية اليوم " بقبولهم النهائي لموضوع التعدد الحزبي وإقامة نظام مؤسسي، مواز لنظام الدولة).

إلا أن الواقع أيضا يقول لنا إن العديد من التنظيمات لا تقبل حتى الآن بموضوع التعددية أو التعايش، والاعتراف بأن الخلاف فيما بينها، أو فيما بينها وبين بقية فصائل المجتمع هو خلاف في كيفية تحقيق المصلحة العليا للوطن في ظل سلطة وطنية، وأن الوصول إلى أهداف الإصلاح هو بالإقناع والحوار الذي يشكل قاعدة العمل السياسي، وليس بالقوة والبطش والإرهاب والعمل السري.

ولا نقول إن عدم قبول التعددية لدى هذه الفئات هو ظاهرة غير صحية لدى الأحزاب السياسية الإسلامية فقط، ولكن يبدو أن عدم القبول بهذه القاعدة وانتشار رفض الرأي الآخر يتخلل البناء الفكري العربي مهما كان الشكل التنظيمي له، سواء كان يساريا أو ليبراليا. ويذهب البعض إلى أن عدم القبول هذا هو عدم قبول (بنيوي) في الثقافة العربية والإسلامية، وهو - في نظري - حكم متسرع قد تؤكده المشاهدة في واقعنا الحالي وحوادث التاريخ المعاصر، ولكنه لا يثبت للاختبار عندما نسبر غور البيئة الاجتماعية والسياسية من جهة والشواهد التاريخية السابقة من جهة أخرى.

عدم القبول بالتعددية - تفسير جزء منه في نظرنا - هو ضيق حرية التعبير بأشكالها المختلف فكلما ضيقنا على حرية التعبير والحوار الحر، تصاعدت درجة التبرم والاغتراب وصبت في شبكات السرية والتنظيمات الأحادية، من أجل تغيير حتى ولو بالقوة، وحتى لو لم تتضح أهدافه النهائية ومقاصده، وعندما تصل تلك القوى الداعية إلى التغيير إلى السلطة تتمثل كل سلوكيات السلطة السابقة عنها في كتم الحريات والتضييق على الفكر. وعلى العكس تماما فمع وجود حرية التعبير يصبح التغيير سهلا ميسورا بالإقناع من خلال قنوات يرتضيها المجتمع.

وعدم القبول بالتعددية في مجتمعاتنا - وفي تفسير جزء آخر منه - هو الوضع الاقتصادي الضاغط في مجمل بلداننا - ولا نقول كلها - من هجرة ريفية إلى المدينة وضيق سبل الرزق وازدياد رقعة المعوزين والاختلالات الاجتماعية البارزة، عدا تدني مستوى الوعي حتى بين من نسميهم متعلمين، فيكون المخرج هو التعصب، ونزف شبابنا إلى حلقات التعصب تلك جاهزين لتلقي أفكار ثابتة وقطعية تدعو إلى المفاصلة والانعزال.

البناء الفكري

لايزال البعض من التنظيمات والأحزاب الإسلامية يعاني من تناقض في طرحه الفكري، ولعل أهم قضية فكرية مطروحة هي: من يمثل الأمة؟ فعلى رغم دعواها العامة إلى وحدة الأمة المسلمة، يتوجه البعض منها إلى منطقة قريبة من التسامح، فيقول إن الخلاف في الفروع هو رحمة للأمة ويقبل بالآخرين في إطار الحوار معهم، ويتطرف بعضها الآخر ليقول إن طريقة تفكيره هي المنهج الصحيح، وما عداه يجب أن نحمل السلاح ضده. وبين هذين الموقفين مواقف كالطيف تبتعد أو تقترب من أحدهما.

وفي بعض الدراسات - خاصة عندما يقوم بها أحد من غير الملمين إلماما كافيا، لا بالدعوة ولا بالمنهج الفكري السليم - تجدها تحمل التناقض بين صفحاتها، وهي لا تأخذ بمبدأ أن كل إنسان يؤخذ من قوله ويرد عليه إلا الرسول صلى الله عليه وسلم وأن الحكمة - كما يقول الإمام أبوحامد الغزالي: "مضنون بها على غير أهلها، أي أن شرط فهم الموضوع وهضمه جيدا سابق على التصدي للخوض فيه ودعوة الناس إليه، بل هي تتبنى انتقائية شديدة من التراث تدلل بها على ما تريد في منظومة فكرية مغلقة على نفسها، لا يسمح لأي شيء مهما صلح من خارج هذه المنظومة أن ينفذ إليه، هذا التفكير ينتهي إلى الأحادية ونبذ الآخر وتحطيم الجسور مع الغير وعزل النفس، مهما حاول الآخر تجسير الفجوة والالتقاء في منتصف الطريق.

مثل ذلك ما ينتقده (النفيسي) و (العلوي) في تلك الندوة الفكرية الشاملة، فيصفه الأول ب " الحزبية البارزة" ويفسره الثاني بقوله: "إن مفهوم التنظيم الأحادي والذي يؤدي به إلى أن يتوهم أنه تجسيد الأمة وإرادتها ووعيها في إطار الحركة، لا شك أنه مفهوم يسئ تقدير الأمور، أو لا يدرك تشعب المسئولية وعمقها، ولن تؤدي به الأوضاع لأن يكون بديلا للأمة في حركتها الجماعية، بل سيتحول بالضرورة إلى فرقة ليست متميزة نوعيا وتضاف إلى عداد الفرق الموجودة والمتصارعة القائمة منها أو البائدة).

ويستطرد العلوي بالقول: " تبدأ كل أحادية - تنظيمية أو فكرية - بالشعور بأنها مدعوة دون غيرها لإصلاح الأمور، وهذا الادعاء يحمل في ذاته شعورا بامتلاك الحقيقة كاملة، إما عبر الجهل بتعقيدات الواقع أو الجهل بالحقيقة نفسها حيث تبسط على ذلك النحو".

بالمخالب والأظفار

لعل الأحادية تقودنا آجلا أو عاجلا إلى عصمة القيادة، والتي تقودنا بدورها إلى نبذ التعددية وإلغاء الآخر، وقد جربت شعوب أخرى عصمة القيادة، فقادتها إلى الحروب والمجاعات والعزلة، بل دمرت اقتصادها وإنسانها.

وليس ببعيد تجربة الاتحاد السوفياتي والقيادة الهرمية شبه المعصومة، وقد كانت تستمد سلطتها من خطاب دنيوي، وكذلك هي النازية والفاشية في ألمانيا وإيطاليا فيما بين الحربين العالميتين.

ويرفض بشكل مطلق وعقلاني المستنيرون أي ادعاء لعصمة في قيادة بشرية، مهما توافر لها من قدرات ويصفها (العلوي) في تلك الدراسة السابق الإشارة إليها بالقول: "فالمسلمون ومهما كانت جوانب انحرافهم وأسباب ضعفهم يعيشون - وفي أسوأ الأحوال - الحدود الدنيا من الإيمان وأركان الإسلام، إن لم يكن في مجموعهم ففي غالبيتهم، ولم يجعل الله لأحد أو لفئة عليهم سلطانا، فمن ظهر ليدعي تمثيل الأمة بغير وجه حق، يبرر به استخدام العنف في المعارضة أو الحكم، واستخدام العنف هو أكبر تجسيد لنفي الآخر، إذ يبدأ نفيه فكريا ثم جسديا، فإذا كانت الحركات الدينية الأكثر حكمة ومسئولية ترفض العنف وتنبذه، فإن ادعاء بعضها امتلاك الحقيقة والصواب من شأنه إعطاء مشروعية لمن يلونهم ولمن هم أدنى حظا في الفكر والممارسة أن يتناولوا العلاقة مع الغير بالمخالب والأظفار، بل إن الغير حتى في داخل التنظيم يعامل بنفس الأسلوب متى أبدى رأيا مخالفا، إذ لا شرعية لتعدد أو لتنوع في مثل هذا المناخ الفكري ".

الفقرة السابقة واضحة في أن الخيار الذي لا مناص منه هو الحوار، الفضيلة الواجبة التي أسلفنا الحديث عنها، إلا أن هذه الفضيلة لا تروق لقادة التعصب ومناصريه الذين تبنوا نظرية الاقتحام والانقضاض على المجتمع، فهم في نصوصهم انتقائيون ولتاريخ أمتهم جاهلون، إلا أن ذلك لا يعني صدهم أو القعود عن حوارهم والبيان تكرارا بأن الحوار والحرية قد طورا النظام المعيش في العالم من حولنا إلى نظام أفضل وأعدل وأكثر رحابة وتسامحا وقبولا للاختلاف، وحري بنا إن أخذنا بهذه الوسيلة أن نسير إلى أهدافنا الحضارية الكبرى بخطى حثيثة غير معوقة.

فضيلة الحوار المطلوبة ليست مقصورة على طرف واحد، الحوار مطلوب من الجميع لبيان سبل الحق وسبل الباطل، ولن يحيد عن طريق الحوار إلا من ظلم نفسه.

المرأة

ولا يمكن التعرض لتلك الندوة دون الحديث عن المرأة، فقد اختصها بحث مقدم من سيدة وثلاثة تعقيبات - اثنان منها من سيدات أيضا - وهي خطوة بذاتها تعني الاهتمام بمشاركة المرأة في حوار من هذا النوع، ولا شك أن الباحثة التي تدلل على مكانة المرأة العالية في الإسلام بأنها كانت أول مسلم وأول شهيد والأغزر علما (السيدة خديجة والصحابية أم عمار وأم المؤمنين عائشة على التوالي)، كما أن القرآن الكريم خاطب الإنسان بصفته الإنسانية في كثير من المواقف، إلا أن النقد يبدو جليا في أسطر الكاتبة (منى يكن) فهي تتبنى فكرة (أن الرجال في الأحزاب الإسلامية يحاولون أن يسيطروا على توجيه النساء، ولا يدعون لهن الفرصة الكافية للتعبير عن أنفسهن وبروز المواهب والقدرات النسائية الخاصة، لتقود العمل بمعزل عن تحكم الرجال).

وتضرب الباحثة مثلا إيجابيا على دور المرأة في إيصال مرشحي الحركة الإسلامية في لبنان إلى المجلس النيابي دليلا على ما تستطيع المرأة أن تقدم من خلال هذه التيارات في المجال السياسي، كما في مجالات اقتصادية واجتماعية أخرى.

ومن الواضح أن خطاب الباحثة في الورقة المقدمة حول المرأة، كان خطابا محدودا، لم يتعرض لقضايا المرأة التي كثر الحديث والجدل حولها بين التيارات الإسلامية، من شكل ملابسها الخارجية إلى نشاطها الاجتماعي الواسع، وهي قضايا كثر الحديث - بل والجدل- حولها، ومازالت معظم قضاياها غير مستقرة.

الأهداف القريبة والبعيدة

المراقب لحالة العالم الإسلامي والعربي اليوم يجد نفسه أمام عدة ظواهر مركبة ومفرطة في التعقيد، لا يمكن القطع بتبسيطها أو إيجاد حلول ومخارج لها سهلة ميسرة، ومن يعتقد ذلك فسوف يجد نفسه إما غارقا في تفاصيل عديدة أو مستهجنا لمقدرات شعوب بأكملها.

فهناك أبعاد حضارية وإنسانية دولية وإقليمية واجتماعية تحف بقضايا الأمة كلها، تحتاج إلى متخصصين وممارسين، كما تحتاج إلى منهج شورى ومؤسسات لها قواعد متفق عليها من الجميع، لإعمال الفكر وتحديد الأهداف والمناهج مرحلة إثر مرحلة. أما الشعارات البراقة، والخطاب السياسي المعبئ، فقد يصلح لفترة زمنية محدودة ولكنه لا يصلح في المدى المتوسط والطويل لإصلاح حال الأمة.

فسرعان ما ينفض من حوله الناس، وهو هاجس لا يخفيه بعض النشطين في هذه الحركات. إلا أن تصاعد التطرف واستخدام العنف من مجموعات مختلفة في بلدان عربية وإسلامية مختلفة، يسبب القلق بل والريبة. ومسئولية إطفاء هذا التطرف تقع على كاهل الجميع، ولكنها أيضا مسؤولية أولية لهذه الأحزاب الدينية، أولا بسبب مصلحة مباشرة تجنيها، فإن رجل الشارع في حالة تكاثر هذه الأعمال المتطرفة وتصاعدها لا يستطيع التفريق بين من يريد العمل السلمي والسياسي، وبين من يريد الانقلاب على المجتمع بالعنف، فيصاب الجميع بأضرار التعميم والمساءلة، ويؤخذ الكل بجريرة البعض. وثانياً لأن هذه الجماعات المتطرفة تعتمد على الاجتزاء من النصوص والاختيار، ويملك الآخرون من النصوص الأخرى - المعطلة لنصوص التطرف - الكثير. تغير التفكير عملية طويلة وشاقة ولكنها واجبة لحماية مصالح الأمة ككل.

أما المرحلة الأكثر تعقيدا في مواجهة التطرف بأشكاله المختلفة فهي تعود إلى إصلاح مناهج التعليم والإعلام، ودون تطوير فكر نقدي في هذه المناهج ستظل هاتان المؤسستان (التربوية والإعلامية) في مجتمعنا عشا صالحا للتعصب.

 

محمد الرميحي