ما بعد الحداثة.. ومصير التنوير محمد السيد سعيد

ما بعد الحداثة.. ومصير التنوير

أثار مصطلح "الحداثة" جدلا واسعا في الأوساط الثقافية العربية في السنوات الأخيرة، وبينما هذا الجدل في ذراه، إذ بمصطلح "ما بعد الحداثة" يجيء، فيتقادم المصطلح الأول ليحتدم جدل آخر، وتنشأ أسئلة جديدة. وهذا المقال، يمضي بنا من الجدل الأول إلى الجدل الأخير، ويتطلع إلى إجابة لأهم الأسئلة.

معركة حامية الوطيس تدور الآن في الفكر الأوروبي والغربي عامة حول مصير الحداثة. فقد بزغ اتجاه يدعو إلى إسدال الستار على الحداثة كمجرد مشهد عابر في العرض المسرحي الممتد للتقدم الثقافي. يقول هذا الاتجاه إن الحداثة قد استنفدت أغراضها، وإن قيمتها المعرفية بهتت أو ربما صارت أصباغا على لوحة لم يعد لها ملامح أو هوية، وإن التعبير نفسه فقد رنينه ومضمونه التنويري في وقت واحد.

هذا الاتجاه يطلق على نفسه تعبير ما بعد الحداثة. ولكن أطرافه لا تشترك فيما هو أكثر من هذا التعبير post - modernism إذ إنها تمتد إلى مدارس شتى وفي مجالات متنوعة، من الفلسفة، مرورا بمختلف أجناس الإبداع وانتهاء بالتطبيقات الاجتماعية التي تعين خصوصية الحضارة الأوروبية، وتميزها عن غيرها.

أحد تيارات ما بعد الحداثة يستعير النقد الموجه للحداثة الأوروبية من جانب مفكري آسيا وإفريقيا. ومن المفيد أن نبدأ بعرض أفكار هذا التيار. إذ يخلع عن التجربة الأوروبية في التقدم عالميتها أو مزاعمها بشأن الصلاحية لكل المجتمعات أو في كل الأنظمة الثقافية الكبرى. ويجري هذا النقد كما يلي:

لا يمكن فصل تجربة الحداثة الأوروبية عن مجمل التاريخ الأوروبي، وذلك باعتبار الحداثة إنتاجا فريدا يتسم بالخصوصية الثقافية. ذلك أن الحداثة طرحت في الأصل كتجاوز للعصور الوسطى الأوروبية وللتشكيلات الإقطاعية التي تبلورت في أوروبا الغربية لنحو عشرة قرون من القرن الرابع حتى القرن الرابع عشر الميلادي. وقد فككت التجربة الحداثية الأوروبية أواصر المجتمع الأوروبي الغربي التقليدي وتحديدا التعبيرات الثقافية عن "تقليدية" هذا المجتمع بالذات. وتشمل هذه التعبيرات هيمنة الدين على الدنيا، وإقامة نظام شامل لفهم العالم وتفسيره، وتعيين مكانة الإنسان فيه على أساس من الفكر والمنطق الأرسطوطاليسي بشكليته وتراتبيته الجامدة والهندسية للموجودات المفصلة بهوياتها والقابلة للتمييز بالإحالة إلى جوهرياتها، ووفقا للتفسير الكنسي للمذهب الأرسطولي، لم تكن هناك هوية مستقلة للطبيعة أو لمكان الإنسان في العالم الطبيعي، لأن التراتبية الجامدة للموجودات أحالتها كلها إلى المطلق بصورته المسيحية الأوروبية.

انطلاقا من هذا التاريخ الأوروبي نزعت الحداثة إلى معارضة مفاهيمها على نحو مطلق مع معطيات التقليدية، وصورت ذاتها كقطيعة كاملة مع العقل والمجتمع التقليدي. فوصفت التقليدية بأنها بالضرورة جمعية تفرض التجانس بالقوة وتنكر خصوصية الفرد. وفي المقابل، تصبح الحداثة فردية تحرر الفرد من الجمعية الكئيبة وتمنحه هوية بلا حدود، سواء على صعيد العقل والتفسير، حتى في مواجهة الدين، أو على صعيد الممارسة الاجتماعية بجوانبها السياسية والاقتصادية والأخلاقية. وكذا وصفت التقليدية بأنها تتعلق بمعايير فضفاضة diffuse إبهامية، والتقليدية تنسب مكانة الشخص إلى "العزوة" أو المنزلة التي يكتسبها منذ لحظة الميلاد وفي المقابل فالحداثة تتعلق بالأداء الفردي، كل الأفراد يتمتعون في الأصل بحقوق متساوية، ثم إنهم يتميزون بعد ذلك وفقا لأدائهم وإنجازاتهم ومحصولهم من المعارف والخبرات والمهارات التي يعكسونها في الحياة، وحالة التقليدية تدور حول الخصوصية. كل الظواهر والمعارف خاصة، متميزة لها كلياتها الظاهرة والباطنة والمجتمع كله معلق بخصوصيته وتمايزه عن غيره من حيث عوامل الهوية، والمعايير التي تنطبق عليه لا يجوز تطبيقها على غيره، مما يعطيه امتيازا خاصا به لا يعمم على الآخرين. أما الحداثة فهي عالمية إنسانية وعمومية وشاملة، وهي تبحث عن المشترك الشائع أو النمطي في كل الظواهر، ولا تعطي لأي جماعة أو هوية ميزة عن غيرها، إلا بقدر إنجازاتها ومواهبها المكتسبة.

وجهات نظر أخرى

الفكر الإفريقي الحديث يعترض على هذه الثنائيات الجامدة، فقد تكون المعارضات بين هذه الثنائيات جائزة على صعيد المنطق المجرد، ولكنها لا تعد استنباطا مقبولا من التاريخ المتنوع لكل الثقافات. فتاريخ الثقافات غير الأوروبية قد يكون حقيقة متصلة لا تعرف القطيعة ولا تفسح مكانا للمتضادات الثنائية. والتقدم ليس معلقا بالضرورة بمحاكاة الحداثة الأوروبية، ولا ينبغي أن يتحقق باقتلاع خصائص الثقافات الأصلية. فبعض هذه الثقافات يوحد بين الخاص والعام، المطلق والنسبي، الإلهي والطبيعي. وبعض هذه الثقافات يعترف بكل من الغامض والمبهم والفضفاض من ناحية والجلي الواضح والمحدد من ناحية أخرى. وقد يعترف بعض هذه الثقافات بالمنزلة الموروثة ولكنه لا يغلق الباب أمام الاجتهاد والإنجاز. وإذا كانت بعض هذه الثقافات قد أسست تراتبية اجتماعية جامدة فإنها قد لا تقتصر على بعض مستويات المساواة، وهكذا.

الاتجاه ما بعد الحداثي يرغب إذن في إنكار ثنائية التقليدي والحديث بالنسبة للتطبيقات الاجتماعية. والمصادر الإفريقية والآسيوية لهذا الاتجاه تهتم بإفساح المجال أمام اختيارات أكثر رحابة للتقدم ولا تقوم بالضرورة على القطيعة مع الماضي أو مع الميراث الثقافي لمجتمعاتها. وهي كذلك لا تقبل النموذج الارتقائي للانتقال من الوضع الحالي للمجتمعات الإفريقية والآسيوية، وهو النموذج الذي يجعل المجتمع الأوروبي هو الصورة النموذجية لمستقبلها فهذا المستقبل لن يتحقق عبر القطيعة مع الماضي فحسب، وإنما أيضا من خلال وضع أهداف كمية للتقدم باستخدام مقاييس مثل معدلات النمو للناتج وللصناعة، وغير ذلك من أهداف. وعلى النقيض، فإن هذه المصادر تطرح المسائل الكيفية الكبرى المتعلقة بصور المستقبل في مقابل المسائل الكمية الطبيعية التي تعنى بقطع المسافة الزمنية اللازمة للحاق التقدم في المجتمعات الغربية. المسائل الكيفية تبدأ بطرح السؤال: ما هي التطبيقات الاجتماعية والثقافية اللازمة لتطوير حضارات مستقلة عن الحضارة الأوروبية، ولإشباع الحاجات الحقيقية المادية والثقافية والروحية للناس، بغض النظر عما تعنيه عملية الإشباع هذه قياسا على الإنجازات المادية الأوروبية؟.

وبطبيعة الحال، الفكر الأوروبي المتأثر بهذه المصادر لا يطرح مفهوم ما بعد الحداثة بنفس الطريقة. وإنما يكيف هذا النقد للحداثة تبعا للظروف الغربية. فهو أولا ينفي ثنائية الحداثة والتقليدية حتى بالنسبة للتاريخ الأوروبي. فالمجتمع التقليدي الأوروبي - في نظر مدارس ما بعد الحداثة - لم يكن ساكنا أو راكدا أو جامدا على النحو الذي صوره منظرو الحداثة. ومن ناحية ثانية، ترى هذه المدارس أن تجربة الحداثة الأوروبية وصلت إلى طريق مسدود، فالتعلق الأحادي بالتقدم التقني أفضى إلى إهمال الحاجات الروحية والثقافية، وترك القيادة والتوجه للثورات التكنولوجية، جعل من الممكن دفع المجتمعات الغربية إلى التوحش، والوسوسة بالتقدم المادي ساهم في تعميق اختلال وتحيز منفلت ضد الحاجة للانسجام المجتمعي بين الناس والناس، وبينهم وبين الطبيعة. وإذا كان من الضروري أيضا الاعتراف بتنوع تطبيقات الحداثة، فقد كان من الأولى فتح الباب أمام اختيارات ثقافية أوسع تتجاوز المرتكزات التقليدية للحداثة وتعيد القيادة للثقافة والوعي والقيم بحيث يكون التقدم واعيا بأهدافه.

العقلانية وما بعد الحداثة في الفلسفة

أهم ما جاءت به الحداثة هو مبدأ العقلانية rationalism وهو مبدأ ينقل الفعالية البشرية من محيط الإيمان إلى محيط المدركات المنطقية والحسية. وينطلق مبدأ العقلانية من الثقة الكاملة بالعقل وقدرته على المعرفة والإحاطة بالعالم الطبيعي. وإصدار الحكم على القضايا والمفارقات والمعضلات المعرفية والاجتماعية، ولكي تتاح الفرصة للعقل فلا بد أن تنسب كل قضية أو مسألة إلى قاعدة منطقية. وأن يعمل على مادة خام من المعلومات المحصلة من الحواس، وقد شكلت هذه المتطلبات قاعدة الإيمان المطلق بالعلم كمنهج للمعرفة، وصار دور الفلسفة هو تدقيق اللغة وضبطها، وتكون بالتالي قوام كامل من المعتقدات العلمية "العقلية لما أهمها النسقية، والملاحظة، والتصنيف والقابلية للاختبار التجريبي لإثبات حقيقة أو زيف أي فرضية أو نظرية، وحياد الذات العارفة أو "موضوعيتها"، والتعامل مع كميات وليس نوعيات، وبالتالي قابلية الظواهر للتحويل الكمي.

ووفقا للمعرفة العلمية الكمية بطبيعتها صار الدور المحدد للذات الإنسانية هو الاختيار بين أمثليات optimality كمية وتعظيم هذه الأمثليات من وجهة نظر المصلحة الفردية.

والواقع أن هذا المفهوم للعقلانية الحداثية كان قد تعرض لنقد شامل في كل الحقبة الرئيسية للتطور الثقافي والعقلي الأوروبي. وربما يكون النقد الموجه له من جانب مدرسة فرانكفورت هو الأكثر شمولا ومصداقية، حيث إنه لم يسقط الفكرة العلمية وإنما حاول تعزيزها. وينصرف هذا النقد إلى الانفصام الذي أحدثته تجربة الحداثة الأوروبية بين القيم والعملية المعرفية، إذ أدى هذا الانفصام إلى تحول العلم إلى أداة طيعة في يد كل الأغراض، بما فيها الأغراض الشريرة والتدميرية. ويلفت منظرو مدرسة فرانكفورت النظر إلى التحالف الوثيق بين المؤسسة العلمية "العقلانوية" والمؤسسة العسكرية والحزب النازي في ألمانيا، وما أدى إليه هذا التحالف من دمار مادي وأخلاقي للبشرية في سياق الحرب العالمية الثانية. فسدت العقلانية الحداثية بسبب تحولها إلى عقلانية ذرائعية لا تتساءل عن أغراضها وموجاتها والأهداف التي تخدمها وساقت العلم في نفس الاتجاه. وبالتالى دعا منظرو مدرسة فرانكفورت إلى عقلانية أرقى وأعلى من العقلانية الذرائعية.

أما منظرو ما بعد الحداثة فيلفتون النظر إلى جوانب أخرى من مبدأ العقلانية الحداثي. فقد تحول العلم على أيدي العقلانية الحداثية إلى دولاب مفهومي مغلق، وأدت الثقة المطلقة بالعقل إلى نتائج زائفة حولت العلم إلى أيديولوجيا، أي إلى أنساق عقلية مغلقة تقوم على التأكد.

غير أن النقد الموجه للعقلانية الحداثية سريعا ما يتشعب إلى مدارس متعددة للغاية لا يكاد مصطلح ما بعد الحداثة يضفي عليها أي وحدة. فبعض مدارس ما بعد الحداثة تسعى لتطوير أفكار مدرسة فرانكفورت حول الحاجة إلى عقلانية أرقى وأخلاقية وإنسانية. وهناك مع ذلك مدارس أخرى تنظر للعقل ونتائجه المعرفية على أنها نسبية. وتدعو إلى إحياء المناهج الأخرى للمعرفة، بما في ذلك المناهج غير العلمية مثل التأويلية والظاهراتية وغيرها. أما الاتجاه الرئيسي بين مدارس ما بعد الحداثة فإنه يكتفي بإحلال نظرة لا أردية محل الأصولية العلمية، وخاصة في صيغتها الوضعية. ويركز هذا الاتجاه على مفهوم عدم التأكد وعدم - التعيين المعرفي. فنتائج العلم ذات طابع تأثيري وليست حقائق مطلقة. والعلم هو مسعى لإضفاء النظام على فوضى الظواهر. وتنشأ هذه الفوضى عن خصوصية الظواهر وعقم البحث عن قوانين جامعة أو تكرارية نمطية تصدق عليها فرضيات عامة أو قوانين جوهرية

الإبداع وما بعد الحداثة

على نقيض الصورة التي نأخذها عن العلم الحداثي، فالإبداع الحداثي يبدو قلقا غير متأكد من ذاته. وناقضا لكل الادعاءات ومناهضا لكل المزاعم. ويزيد ذلك كله من صعوبة فهم المقصود من الاحتجاجات ما بعد الحداثية. لقد بدأت تجربة الحداثة في مجالات الإبدل كمسعى مقصود لتحطيم القوالب الجاهزة والجامدة بهدف تحرير التجربة الإبداعية من القيود وإطلاق التعبير عن مضمون الشرط الإنساني المتحول. غير أن الإبداع الحداثي سريعا ما ينحاز إلى الشكل، وهو لا يني يحطم شكلا بعد آخر بعد أن يكون قد طور هذا وذاك. صارت الوسوسة بالشكل التعبيري أكثر أهمية وذات أسبقية واضحة في التجربة الحداثية في مجال الإبداع . أما المضمون فهو يتراوح حول ظاهريات وتجليات الوجدان الفردي المتصدع الذي لا يثق في أي حقيقة ولا يستقر على أي معطيات دون أن يؤاخذها. وهو في ذلك كله انعزالي، رافضي للمجتمع وللآخر، وناقم على التجربة الفردية ذاتها.

مفهومان للحداثة ومصير التنوير

يخلط النقد ما بعد الحداثة بين مفهومين للحداثة. الأول يشير إلى قوالب ونماذج محددة أنتجتها الحضارة الأوروبية عبر صيرورتها الطويلة منذ عصر النهضة، في المجالات المختلفة للفلسفة والإبداع والحياة الاجتماعية والسياسية الأوروبية والغربية بصفة عامة. وهذا المفهوم هو موضوع النقد الموجه باسم مدرسة ما بعد الحداثة. والنقد نفسه مشروع ومفيد بقدر ما ينقل المناقشة حول القضايا المحددة أو النماذج العيانية للتطور الثقافي والاجتماعي الغربي إلى مستوى أعلى، أو يقيد صلاحيته ويناهض نقله حرفيا من نطاق حضاري ثقافي إلى نطاقات أخرى تماما.

ولكن هناك مستوى أو مفهوما آخر للحداثة. وهو المعني حقيقة عندما تثار مسألة الحداثة في سياقها العالمي أو الإنساني العريض. فالتجربة الحداثية في جوهرها تعني إطلاق الاجتهاد الفردي والجماعي من القوالب الاجتماعية والثقافية الجاهزة. وبهذا المعنى فالحداثة هي مغامرة للإنسان في الكون الفسيح للاختيارات المعرفية والاجتماعية بكل مستوياتها. والنبراس الحقيقي للإنسان في هذه المغامرة هو العقل، والعقلانية.

قبول هذه المغامرة أو المخاطرة الإنسانية يعني دفع ضريبة باهظة هي التخلي عن السكينة الناشئة عن الانسجام المطلق بين الذوات الفردية في الكيانات الاجتماعية المغلقة بحلولها المستقرة لمعضلات الوجود وإشكاليات المعرفة والتأقلم مع الطبيعة. ومجرد قبول هذه المخاطرة يعني في الجوهر ديمومتها. بمعنى أن قضية الحداثة ليست في استبدال يقين معرفي أو اجتماعي بآخر، وإنما هي في قبول عدم اليقين نفسه.

ومن حيث إن الحداثة هي تجربة معرفية واجتماعية مستمرة. فإنها بحكم التعريف تنقل عدم اليقين على نحو دائم من مستويات أدنى إلى مستويات أعلى. غير أنه في سياق ذلك تكون الشخصية الإنسانية قد أتيحت لها فرص كاملة للتفتح واكتساب حساسيات ومعارف جديدة أرقى. فعدم اليقين بصدد الكون في نهاية القرن العشرين يحمل مضمونا معرفيا أرقى بما لا يقاس من قرن مضى، ناهيك عن مضاهاة هذا المضمون أو المحتوى لعدم اليقين عن قرون غابرة.

وفي سياق هذه العملية المتواصلة للمغامرة المعرفية والاجتماعية يطرح الإنسان أسئلة جديدة تتواكب مع مستويات أرقى من المعارف ودرجات أشد من التعقد الاجتماعي والنفسي والوجودي للإنسان أو الشخص الإنساني كفرد وكجماعة. إن المجتمع يصير أشد تعقيدا ويطرح معضلات إعادة وحدته وتجانسه باستمرار. وهو ما يشكل دافعا لاستمرار المغامرة بالاجتهاد حول حلول لهذه المعضلات، وهي حلول مهما اكتنفها من عدم اليقين تستجيب لإمكانات وحوافز عقلية واجتماعية وشخصية أرقى. وتوسع الطريق أمام تكوين حساسيات ومواهب أكثر شمولا وأغنى محتوى.

وهنا نجد قلب حقيقة التنوير. فالمعنى الحرفي للتنوير هو إنارة عوالم من المعطيات والظواهر كانت من قبل محبوسة في الظلام. والإنارة لا تعني بالضرورة قطف الحقيقة مثلما تقطف الثمرات. وإنما تعني فرصة أعظم وأشمل لتفتح الموهبة والحساسيات العقلية وغير العقلية للشخص الإنساني. وإذا كان تفتح العقل هو جوهر الطريق للتنوير فإنه لا يطمس بالضرورة الحساسيات غير العقلية. إنه في الحقيقة يهذبها ويرقيها ويصل بها إلى مستويات أعلى مع رقيه هو.

ويصدق نفس الأمر على التجربة الاجتماعية الحداثية القائمة على التنوير. فالمغامرة الحداثية - بمعنى إطلاق الاجتهاد - لا تعني بالضرورة تحطيم التقاليد ولا التراث الثقافي للمجتمع. فالمغامرة من حيث هي قائمة على نبراس العقل ليست قفزا في الفضاء. وإنما انتقال لمجال الاختيار إلى مستوى أعلى انطلاقا من المعارف القائمة. أي حصيلة الميراث الثقافي للمجتمع.

وهكذا، فالحداثة هي العملية المستمرة للتنوير، وهي تنطوي بالضرورة على إعادة اكتشاف مستمرة للميراث الثقافي للمجتمع وللإنسانية ككل، وإعادة تركيب لهما عند مستويات أعلى وأرقى.

لماذا ما بعد الحداثة؟

على ضوء هذا المفهوم الأخير للحداثة يصبح السؤال المنطقي: لماذا ما بعد الحداثة؟ وهل تنطوي على إنكار لقضية التنوير؟. نظن أن العقل والعقلانية قد ثار دوريا في سياق كل أزمة مرت بها الحضارة الأوروبية، والإنسانية ككل. ولهذا النقد ميكانيكية مميزة، إن التقدم بفضل الحداثة يصل دوريا بالإنسان إلى طائفة جديدة من المعضلات والمشكلات التي يقف أمامها العقل عاجزا لفترة تطول أو تقصر. وبعض هذا العجز ينشأ عن قيود العقل والعقلانية الذاتية والموضوعية. ونعني بالقيود الذاتية على العقل والعقلانية تلك التي تتكون في سياق أصول التفكير وإعمال العقل في حقبة معينة من تطوره. وفي سياق الأزمة العقلية والاجتماعية المتصلة بهذا العجز تثور الشكوك حول العقل والعقلانية لا حول أصوليات التفكير. ولشتات قوى اجتماعية وطوائف فكرية وثقافية معينة للحصول على إجابات عن الأسئلة المطروحة عبر الحساسيات غير العقلية وذات الطابع الإبهامي obscurantist. وهنا نصبح أمام مفترق طرق بين التخلي عن العقل والاكتفاء بالحساسيات غير العقلية، وبين استمرار التجربة الحداثية التي تعنى في هذا السياق بتطوير أصوليات عملية التفكير لنقل العقل والعقلانية إلى رحاب أوسع، وتمكنها بالتالي من البحث المجدي عن إجابات جديدة للمعضلات المطروحة.

ومدرسة ما بعد الحداثة تنحاز علنا للحساسيات الإبهامية غير العقلية وغير العقلانية، أما الحداثة فتعنى بتحرير التجربة أو المغامرة الاجتهادية للإنسان من القيود القائمة بما في ذلك قيود عملية التفكير ذاتها. ولكن ماذا يعني ذلك كله بالنسبة لنا نحن العرب؟ النقد ما بعد الحداثة يدغدغ مشاعر معينة بين المثقفين والمفكرين العرب من حيث يبرر لهم استمرار الخصومة مع الحداثة بمعنى التغريب.

ولكن النقد ما بعد الحداثي هو في الحقيقة نقد لا تاريخي بالنسبة لنا، حيث إننا لم نمر بعد بعملية الحداثة والتحديث، بالمعنى الأعمق للمصطلح. فهذا النقد يسوي في الحقيقة حسابات غربية، ولا يقدم لنا مشروعية تاريخية سواء بالنسبة لمجتمعاتنا ما قبل الحديثة أو لحاجتنا لتجاوز نماذج الحداثة الأوروبية.

فالمعركة الثقافية الرئيسية بالنسبة لنا هي المناظرة المتصلة بين التنوير من ناحية والتجهيل من ناحية أخرى. والتجهيل هنا هو مركز الاستبداد والتسلطية الاقتصادية والقمع والجمود الفكري والثقافي. وأمام هذه المعركة المتصلة لا نستطيع إعلان التحيز للتنوير كمنطلق للديموقراطية والتحرر الاقتصادي والسياسي والتجديد الثقافي الذي يعيد تكوين تراثنا القومي، من خلال إضاءته بهدف إبداع حلول جديدة لمشكلاتنا العصرية.

 

محمد السيد سعيد






النازية الجديدة في ألمانيا