قراءة نقدية .. في فن القص بين النظرية والتطبيق حامد أبوأحمد

قراءة نقدية .. في فن القص بين النظرية والتطبيق

للدكتورة نبيلة إبراهيم

لعل فن القص هو أقدم فنون الأدب، ومن ثم تكثر الاجتهادات النقدية التي تعالجه، من حقبة إلى حقبة، ومن مدرسة إلى أخرى. وهذا الكتاب - في شقه النظري - يطوف بالكثير من تلك الاجتهادات. صدر هذا الكتاب في بداية العام الماضي 1992 عن مكتبة غريب بالقاهرة، وهو الكتاب الأول من "سلسلة الدراسات النقدية" التى يشرف عليها الدكتور عز الدين إسماعيل. وينقسم الكتاب إلى قسمين: قسم نظري وآخر تطبيقي. وقد وجدت أنه من الصعب جدا تناول الكتاب بقسميه النظري والتطبيقي في مقال واحد، ومن ثم فسوف يقتصر كلامي هنا على الجانب النظري.

ويشمل هذا الجانب النظري ثلاثة فصول: ما قبل البنيوية، وما بعدها، والبنيوية نفسها فيما بين هذين الفصلين.

يبدأ الفصل الأول "ما قبل البنيوية" من المدرسة الشكلية الروسية التي كانت تنطلق من مفهوم أن الأدب استعمال خاص للغة يبعدها عن استعمالاتها المألوفة، ومن ثم فإنها تركز على هذا الاستخدام الخاص للغة في إطار العمل الكلي. ولكن ما هو الفرق بين المدرسة الشكلية ومدرسة النقد الجديد؟ لعل أهم ما يميز بين المدرستين هو أن المدرسة الشكلية تستقر عند النص ولا تتعداه إلى ما هو قريب منه فضلا عما هو بعيد عنه، وبذلك تكون أول مدرسة نادت بأدبية النص الأدبي. ومما جاء به الشكليون أيضا دعوتهم إلى إهمال المؤلف، وإنكار القول بأن العمل القصصي يعكس الواقع، وإهمال البحث عن المعنى اكتفاء بالوعي القار في الشكل الذي يكون المادة الحقيقية لعمل القصصي. رفض الشكليون أيضا مفهوم المحاكاة وقالوا إن الواقع جزء من العمل الأدبي وليس كيانا خارجه، ومن ثم فإن المعنى لا يقع خارج العمل الأدبي، بل يتحقق في صميم مادة هذا العمل. ثم إنهم قد أهملوا البعد الاجتماعي. وهذه النقطة الأخيرة هي التي أدت إلى إنهاء الحركة الشكلية عام 1930 عندما ثار الفكر الماركسي ضدهم وأكد على ضرورة الاهتمام بهذا البعد. وكان جورج لوكاتش هو أبرز ممثلي هذا التيار المضاد للاتجاه الشكلي. فقد أكد على الطبيعة المادية والتاريخية لبنية المجتمع، واستخدم مصطلح الانعكاس كثيرا في أعماله النقدية، وإن كان الانعكاس عنده أكثر اكتمالا وحيوية وصدقا ودينامية من الواقع، ولا يتحقق هذا إلا إذا كان الكاتب يمتلك وعيا بالطبيعة الإنسانية والعلاقات الاجتماعية، ومن ثم فإن الأدب ليس هو الواقع وإنما هو صيغة خاصة للواقع المنعكس على مرآة الفكر.

الشكلية.. ومدرسة براغ

تطورت المدرسة الشكلية فيما بعد في اتجاهين: أولهما شخصية ميخائيل باختين الذي جمع بين الشكلية والماركسية، وثانيهما مدرسة براغ التي ضمت شخصيات مهمة مثل رينيه ويلك ورومان ياكوبسون. ما فعله باختين هو القول بأن الأيديولوجيا ليست بنية عقلية صرفة تتمثل في العقل انعكاسا للبنية التحتية الاجتماعية وانعكاسا للواقع المادي، وإنما تستكن الأيديولوجيا في وسيلة التعبير الأدبي وهي اللغة. فاللغة بوصفها نظاما من العلاقات تكشف عن البنيات الاجتماعية وصراعاتها، ومن ثم فهي في حد ذاتها تمثل واقعا. قد اهتم باختين بالقص، وتداخل الأصوات المتعددة فيه، كذلك كان أول من أشار إلى أن العمل القصصي لا يطرح معنى واحدا أو معنى ثابتا.

أما ياكوبسون فقد ربط بين الشكلية والبنيوية. فالبنية من وجهة نظر مدرسة براغ تتمثل في تضافر الوحدات الجزئية وعناصر الكتابة الأدبية، وتلاحم هذه العناصر وتلك الوحدات الجزئية ونموها حتى تكون البنية الكلية، وعندئذ تتحقق الوظيفة الجمالية. أما البنية عند البنيويين فيقع تصورها خارج العمل الأدبي، وهي تتحقق في النص على نحو غير مكشوف بحيث تتطلب من المحلل البنيوي استكشافها. ياكوبسون كذلك هو صاحب نظرية الاتصال، وكان عالما لغويا في المقام الأول. وقد تأثر برائد علم اللغة الحديث فرناندو دي سوسير وانعكس هذا على أبحاثه الأدبية وخاصة في مجال الشعر، إذ ركز على الجانب الوصفي مثلما فعل سوسير. كذلك هو صاحب نظرية "الوظيفة الشعرية"، ومعمق فكرة العلامة اللغوية التي تؤكد أن اللغة في حد ذاتها تتمتع بوعي خاص يعمل على جذب الانتباه إلى طبيعتها الخاصة ونظامها الصوتي والتركيبي الخاص، الأمر الذي يعزز وحدة الشكل والمضمون التي نادت بها المدرسة الشكلية. ولا شك أن أبحاث ياكوبسون قد تركزت حول الشعر.

أما الذي اهتم اهتماما خاصا بالقص من هؤلاء الشكليين البنيويين فهو فلاديمير بروب الذي خصص كل أبحاثه لدراسة جنس أدبي شعبي مستقل هو الحكاية الخرافية أو حكايات الجان. وكانت هذه الأبحاث تمثل المحاولة الأولى لوضع قواعد عامة للقص الخرافي الجمعي، وكانت محل تنقيح وتطوير من جانب من أتوا بعده من البنيويين من أمثال جريماس وبريموند. كان تحليل بروب نموذجا للنظرية الشكلية التي نادت بأن النص الأدبي ذو طبيعة خاصة، وأن أشكال الفن لا تفسر إلا من خلال قوانين الفن نفسه. ولهذا ينبغي عزل النص عن سائر المؤثرات الخارجية (الاجتماعية والتاريخية والبيوجرافية والنفسية) ثم التعرف عليه من خلال توصيف طبيعته الأدبية الخاصة توصيفا موضوعيا دقيقا، ومن خلال تتبع طرق استخدامه لأدواته الخاصة التركيبية. وقد كان كتابه "مورفولوجية الحكاية الخرافية" إضافة إلى الدراسات الرئيسية الحديثة بصفة عامة وإلى الأبحاث الشكلية بصفة خاصة. وقد استرعى نظر بروب أن هناك بنية موحدة في هذا القص الخرافي، فقام بتجربة، تشبه التجارب العلمية الدقيقة، على عينة كبيرة من الحكايات الروسية بلغت مائتي حكاية.

البحث عن محتوى الشيء

في هذا الفصل تتوقف مؤلفة الكتاب الدكتورة نبيلة إبراهيم في البداية عند تعريف البنية وكذلك البنيوية من خلال شرح روادها لفكرتها وفلسفتها ومن خلال أقوال بعض الكتاب الآخرين. فالبنيوية لا تبحث في محتوى الشئ وخصائص هذا المحتوى، بل تبحث في علاقة الأجزاء أو العناصر بعضها ببعض، بقصد الكشف عن وحدة العمل الكلية، وذلك من خلال نموذج يقدمه الباحث أشبه بالنموذج الهندسي أو الرياضي. أما المفهومات الأساسية لفكرة البنيوية فتتلخص في النقاط التالية:

1 - أن البنية من صنع المحلل أو الدارس لظاهرة ما أو لعمل ما، وليست هذه البنية سوى الكشف عن العلاقات المتشابكة بين عناصر العمل التي هي بنية العمل نفسه.

2 - أن البنيوية لا تبحث عن المحتوى أو الشكل، أو عن المحتوى في إطار الشكل، بل تبحث عن الحقيقة التي تختفي وراء الظاهر من خلال العمل نفسه وليس من خلال أي شيء خارج عنه.

3 - أنها تعنى بتوجيه العناصر نحو كلية العمل أو نظام العمل أوالشيء سوى حقيقته.

البنيوية والتفكيكية

لا شك أن إقحام جاك دريدا هنا فيه نوع من الخلط بين اتجاهين تقوم العلاقة بينهما على التخالف لا على الاتفاق، هما الاتجاه البنيوي والاتجاه التفكيكي. والأخير كما هو معروف، كان يمثل عملية رد فعل تجاه البنيوية وأطرها الثابتة. ولعل الدكتورة أحست في هذه النقطة ببعض الخروج عن الخط البنيوي فقالت بعد أن استكملت كلامها عن دريدا وبعد أن تساءلت: أليس هناك تشابه بين الأبنية: "هنا يتحتم علينا أن نعود إلى الأنثروبولوجيا البنيوية لكي نستكمل أبعاد مفهوم البناء". ثم أخذت تتحدث عن ليفي شتراوس بوصفه رائد البنيوين بعامة وعن علم الأنثروبولوجيا. والفكرة الأساسية الأولى في الأنثروبولوجيا البنيوية هي وحدة بناء العقل البشري. ويتمثل مفهوم التحليل البنيوي عند ليفي شتراوس في أنه إجراء لتصنيف مستويات الظواهر الاجتماعية وربط بعضها ببعض في مفهومات كلية واحدة، وعندئذ ندرك العلاقات بين هذه الظواهر في مستوياتها المختلفة من ناحية، كما ندرك العلاقات بين النتاج الشعوري وبناء اللاشعور من ناحية أخرى.

أما الروافد التي صبت في فكر ليفي شتراوس فتأتي من جيمس فريزر ومدرسته التطورية، وإميل دوركايم الذي كان معاصرا لكل من فرويد ودي سوسير (ولدوا فيما بين عامي 56 و 1858) وكل منهم كان رائدا لمدرسة مهمة: فرويد لمدرسة التحليل النفسي، ودي سوسير لعلم اللغة الحديث، ودوركايم لعلم - الاجتماع الحديث. فاللغة كنظام يقابلها نظام النفس الإنسانية عند فرويد، ونظام المعايير والمعتقدات الجمعية عند دوركايم.

حول تطور الفكر اللغوي

ونحن لا نتفق مع الدكتورة نبيلة إبراهيم في وصف الاتجاه التحويلي التوليدي عند نوام تشومسكي بأنه "بنيوية متطورة" ونرى أن فكر تشومسكي يمثل مرحلة مهمة من مراحل تطور الفكر اللغوي الحديث، صحيح أنه أفاد من بنيوية دي سوسير ومن الاتجاهات السابقة لكنه تميز بأشياء تجعل منه منظومة فكرية متكاملة، من بينها إدخال مفهوم الدلالة في التحليل وفي الوصف، وهو ما كانت تعجز عن فعله البنيوي، ومنها إدخال حدس الإنسان المتكلم في الدراسة، والقول بأن النص الذي يوضع تحت الدرس يتميز باللانهائية، وهذه اللانهائية تظهر عندما يتدخل الحدس، لأن الإنسان يولد مزودا بالكفاية اللغوية، وهذه الكفاية لا نهائية.. إلخ، ومن ثم فإن الثورة التي أحدثها تشومسكي في علوم اللغة ينبغي أن تدرس في إطارها الخاص، لا على أنها "بنيوية متطورة". وعلى أية حال فإننا لا نملك إلا أن نلتمس العذر لأي باحث في هذه المجالات الجديدة في ثقافة الغرب، فما بالك بالنسبة لنا نحن الذين نحاول فهم هذه الاتجاهات الجديدة وهضمها وتطويعها للبيئة العربية وللثقافة العربية. ولهذا كانت الدكتورة نبيلة إبراهيم صادقة جدا مع نفسها عندما قالت (ص 36): "على أننا لا نستطيع أن ندعي أننا عرضنا فكر شتراوس وغيره من البنيويين كاملا من خلال هذا العرض السريع، فقد كتب ليفي شتراوس وحده مؤلفات ضخمة، ومقالات مسهبة، مزج فيها بين النظرية والتطبيق".

على أننا نأخذ على الدكتورة أيضا أنهام تتوقف عند فن القص في هذا الفصل الثاني عن "البنيوية" إلا في الصفحات الأربع الأخيرة عندما تحدثت عن أ. ج. جريماس، وقالت إنه أفاد من تحليل بروب أكثر مما أفاد من غيره وحاول أن يصوغه صياغة جديدة في اتجاه البنيوية. ولما كان بروب قد اهتم بالحكاية الخرافية، نجد جَرِيمَايَ يستهدف التوصل إلى وحدات بنيوية تصلح لأن تكون أساسا للتحليل القصصي. وكان جريماس مهتما أساسا بعلم الدلالة Semantica، وله كتابان في ذلك هما "علم الدلالة البنيوي" و"عن المعنى" والمعنى عند جريماس لا يتضح إلا من خلال تعارضه مع الضد.

ما بعد البنيوية

معروف حاليا أن تيارات ما بعد البنيوية تمثلها مجموعة من الاتجاهات من أهمها نظرية الاتصال، والذرائعية الأدبية، والبلاغة الجديدة، والتفكيك، ونظرية التلقي. ويلاحظ أن الدكتورة نبيلة إبراهيم لم تتناول إلا نظرية التلقي، حيث أشارت إلى أن هذه المسألة امتدت بعد تودوروف حتى وصلت إلى الإهمال الكامل للمؤلف والاهتمام الكامل بالقارئ ويعد رولان بارت - بالرغم من بروزه في اتجاهات سابقة ومنها البنيوية - من أهم من نظروا لهذا الاتجاه الجديد. وقد حدد بارت الأدب بأنه رسالة تدور حول المغزى وليس حول المعنى، وأنه من أكبر الأخطاء التى يمكن أن يرتكبها الكاتب أن يعتقد أن اللغة وسيلة طبيعية وشفافة يستطيع القارئ من خلالها أن يمسك بحقيقة ثابتة واحدة. أما الكاتب الأصيل فهو الذي يدرك أن الكتابة صنعة، ومن ثم فهو يشرع في اللعب بها والتفنن فيها. ونظرية التلقي تجعل النص مفتوحا لقراءات متعددة وليس لقراءة واحدة ثابتة، حتى وإن تكن قراءة تسعى إلى التحليل العلمي بالمفهوم البنيوي الذي ساد من قبل. وبارت يرفض النظرة السابقة التي ترى أن المؤلف هو منبع المعنى في النص، وصاحب النفوذ الأوحد في تفسيره. فالنص ما هو إلا صدى لكتابات سابقة، وهو يقع في مفترق الطرق بين النصوص الأخرى. والقارئ حر في أن يدخل إلى النص من أي جانب منه، إذ ليس هناك طريق واحد يعد أسلم الطرق لمقاربة النص.

ويركز بارت عملية قراءة النص القصصي على الشفرات المتعددة فيه، وتتوزع هذه الشفرات بين الشفرة التأويلية، وشفرة الدوال، والشفرة الرمزية، وشفرة الأفعال، والشفرة الثقافية.

ومن أهم النظريات أيضا في هذا الصدد نظرية "القارئ في النص " أو "نظرية التأثير" كما يسميها أصحابها، وعلى رأسهم فلفجانج إيزر الأستاذ بجامعة كونستانس بألمانيا الغربية (أو ألمانيا الموحدة الآن). وترى نظرية إيزر أن عملية القراءة تسير في اتجاهين متبادلين من النص إلى القارئ، ومن القارئ إلى النص، فبقدر ما يقدم النص للقارئ يضفي القارئ على النص أبعادا جديدة قد لا يكون لها وجود في النص. أما الأساس الفلسفي لنظرية إيزر فيأتي من الفلسفة الظاهراتية، التي تعد رد فعل للفلسفة العقلية التي كانت تنشد الحقيقة المطلقة، في حين أن الحقيقة بالنسبة للفلسفة الظاهراتية نسبية، وهي لا تكون إلا عندما يدخل الإنسان في علاقات مع الأشياء، ومن ثم لا تتمثل حقيقة العمل الأدبي إلا من خلال تداخل القارئ مع النص.

وهكذا تنتقل بنا الدكتورة نبيلة إبراهيم من "ما قبل البنيوية " إلى " البنيوية " إلى " ما بعد البنيوية"، وبالرغم من الطابع المبتسر الذي يميز هذا العمل فإنه يعد حلقة مهمة من حلقات محاولات التعرف على الاتجاهات العالمية الجديدة في الفكر والثقافة والنظر الأدبي. ثم تخصص المؤلفة الجزء الثاني من كتابها للجوانب التطبيقية، ولكن كل فصل من هذه الفصول التطبيقية يحتاج إلى وقفات طويلة نتمنى أن تتاح الفرصة لمناقشتها في القريب إن شاء الله.

 

حامد أبوأحمد