السرد والخيال عبدالله أبوهيف

السرد والخيال

في: قصص عبد الحميد بن هدوقة

ما بين واقعية السرد وتحفز الخيال، وما بين كاتب جزائري وناقد سوري، تمضي بنا هذه المقالة، فكأنها تجمع أمامنا ما يبدو متباعدا.

عبدالحميد بن هدوقة من القصاصين العرب البارزين، فهو لم ينقطع عن كتابة القصة والرواية منذ منتصف الخمسينيات، وهو على مدار قرابة أربعة عقود من الزمن كتب عددا من القصص ليس كثيرا قياسا إلى هذه الفترة الطويلة لأنه عني بفنه القصصي تجويدا من جهة، مثلما شغل أيما انشغال بقصده القصصي، من جهة أخرى فقد رهن ابن هدوقة إبداعه كله لقضية وطنه، فعلى الرغم من بروز مقاصده احتفظ دائما بإتقانه وقابليته لضبط تجربته الفنية وهكذا نستطيع أن نقرأ في قصص ابن هدوقة حركة الواقع وصورة المجتمع في الجزائر الحديثة خلال نصف قرن من الزمن، فقد طوع قصته لحاجات التعبير عن الواقع المتغير، الذي شهدته وتشهده الجزائر من معركة الاحتلال إلى معركة الاستقلال، إلى معركة التنمية، إلى معركة الهوية القومية في إطارها الأعم.

منذ قصصه الأولى، كان ابن هدوقة وفيا لبيئته وقضايا وطنه، بل إنه مزج غالبا بين الموضوع الاجتماعي والموضوع القومي معتمدا بالدرجة الأولى على تثمير الوجدان الشعبي، وتبدو قصته (زيتونة الحب) (من مجموعته الأولى) مثالا طيبا لذلك، فهي قصة قرية جزائرية من خلال قصة بآية وسعد الله كما تجسدها شجرة زيتونة الحب، ويتجلى ذلك في المفارقة بين عالمين حيث يتجدد الرمز في المعتقد الشعبي. لقد شهدت الشجرة نمو الحب بين بأية وسعد الله، غير أن أفعى عطشى كانت في غار في الشجرة لدغت سعد الله فيبس في مكانه جثة هامدة ولكن الناس فهموا سبب موته على أن ماردا يسكن الزيتونة ويعشق بآية هو الذي قتل سعد الله ثم بدأ المعتقد الشعبي يجعل من حادثة الموت أسطورة، فتخيلوا أن القلبين المرسومين على الزيتونة يسيلان دما، وأن سعد الله حاضر في الزيتونة ويكلم بآية من الغار فتصافحه و( لم تلمس يدها يد سعد الله حتى خارت قواها ولفظت صيحة مبحوحة بالألم لفح حر الصيف صداها وجمدت في مكانها جثة هامدة).

فابتعد الناس عن الزيتونة وحازت مكانة مقدسة و (بقيت في العراء في ربوتها العالية الواصلة بين عالمين) إنها نوع من التفسير لعقائد العامة في بيئة جزائرية وهي تلتقي مع متواتر التراث الشعبي في البيئات العربية الأخرى عندما يتكون المقدس والمحرم في ذاكرة الناس.

المزج بين الواقعي والتخيلي

ويصور ابن هدوقة معنى الكرامة في قصص أخرى (من المجموعة نفسها) حين يربطه بالنضال ضد الاحتلال الفرنسي، في قصة (الجندي والليل) ثمة جندي يزور ضريحا ويجد فتاة تصلي فتذكر له قصة الضريح الذي يحوي رميم ضفدعة يعتقد الناس في قداستها، حيث حاكوا حولها أساطير بليغة، فالناس يقولون: "في هذا المكان كانت تعبد ولية صالحة ربها بمنجاة عن أعين الناس ولما دخل الكفار أرضنا حاربتهم حربا طاحنة وفي إحدى الليالي لسبب مجهول تشكلت في صورة ضفدعة فباغتها الكفار وهي في ذلك الشكل فقتلوها. ومن ذلك الحين صار ينبعث بالليل نور من هذا المكان فاجتمع أهل القرية واتفق رأيهم على أن يبنوا ضريحا ومسجدا ومضت أعوام وأيام وشاع أن هذا الضريح مستجاب الدعاء عنده فأتاه الزوار من مختلف الجهات للتبرك والتوسل شأنه شأن غيره من الأماكن المباركة في هذه البلاد".

وهناك تفسيرات أخرى للضريح الذي يضم رفات شهيدة ضحية عدوان آثم، ويردف ابن هدوقة ذكر الأسطورة بذكر والد الفتاة الذي قتله من قتل الضفدعة (قتله شرطي فرنسي وهو يصلي.. أغار عليه الجنود في إحدى الليالي) ثم يأخذ الجندي بيد الفتاة إلى بيتها في الظلمة ويعدها بان الجنود سينتقمون لأبيها ولكل رجل وامرأة في هذا الوطن الشهيد وبينما "كانت أشعة الفجر قد بدأت تلوح في الأفق وتبتسم فوق قمم الجبال وكانت قبة الضريح متوسدة شجرة البطم كالطفل النائم على صدر أمه".

من الواضح أن ابن هدوقة يبني قصصه على دعامتين الأولى هي "الملموسية" الواقعية لما يبدو غير واقعي أو فانتازيا أو وجدانيا لا يقبل منطقا. والثانية هي تنظيم السرد الواقعي مع إدخال تحفيزات ذهنية أو جمالية، فيمتزج الواقع بإيهامه، ولا سيما تدعيم المعتقد الشعبي في الذاكرة الجمعية وقد نفحها القاص قوة المغزى أو القصد المراد. على أن قصص ابن هدوقة الأولى ليست كلها مما ينطوي على هذه الطريقة في المزج الوجداني والموضوعي في رؤية الواقع.

حتمية تاريخية ومستقبلية

تابع ابن هدوقة تنقية خصائص أسلوبه في مجموعته الثانية، وكان قد أشار في مقدمة طبعتها الثانية إلى شيء من تاريخ كتابة القصة عنده معززا الرأي حول عنايته بالموضوع بالدرجة الأولى فالمجموعة تتوفر على قصص جزائرية تتعلق بحرب التحرير في معظمها بالإضافة إلى قصص تعالج موضوعات تونسية. ويصرح ابن هدوقة بمقاصده على نحو واضح فيرى أن معالجته إن عبرت عن شيء فإنها تعبر عن أن وحدة العروبة سواء على المستوى الإقليمي أو مستوى الوطن العربي الكامل هي أمر مصيري وأكاد أقول: حتمية تاريخية ومستقبلية معا.

ويوسع ابن هدوقة أسلوبه في قصصه التالية في المسارات نفسها، ففي قصة (الأشعة السبعة) يصنع الوجدان الشعبي قصصه ولكنه يمنح موضوعه بعدا رمزيا سيرافقه في عديد من قصصه وكنت حللت هذا الأسلوب في نقدي لقصته (الوصية) التي ألحقها القاص بهذه المجموعة وهي مكتوبة عام 1981.

وفي قصته (الأشعة السبعة) ينبثق الرمز من المأثور الشعبي: يفقد الطفل النطق والسمع عندما غرقت أمه في البحيرة، ولكنه يألف البحيرة لتتحول صورة أمه إلى شمس ترسل أشعة سبعة تمنحه الرضا والطمأنينة لعلها صورة الوطن المتجددة التي لا تموت تظل تمنح الأبناء القوة والمضاء على الرغم من تمكن عاهته منه لحين أو أحيان.

إن مثل هذا التلوين الأسلوبي والسردي لا يلغي خصائص أخرى غالبة، وأولها السرد الواقعي الذي جعل من غالبية قصصه وثيقة تاريخية وفنية عن تطور الجزائر في العقود الأربعة الأخيرة ومثال هذه القصص (حلم الصيف) التي تتناول وطأة الحياة في جزائر الاستقلال في ظل الإجراءات الاقتصادية القاسية كصرف العملة والعملة الصعبة والسوق السوداء وتوافر المواد التموينية وما إلى ذلك. وتصور القصة حالة زوجين يستعدان لرحلة اصطياف خارج الجزائر فيختاران تونس لقربها ولكلفتها القليلة نسبيا.

ويعرض ابن هدوقة للاحتيال على الأنظمة والقوانين الضاغطة على ذوي الدخل الضئيل ثم تنتهي القصة بحلم يتحقق هو إقامة الوحدة بين تونس والجزائر التي تكون خلاصا من هذه الضغوط.

في مجموعة (الأشعة السبعة) كما قلنا وقال مؤلفها عناية واضحة بالموضوع القومي وهو يتداخل مع الموضوع الاجتماعي، وتعد قصة (المسافر) مثالا لهذه القصص، هو وخطيبته وذكرى القصف الاستعماري، والحديث عن الموت والقرية تقرر أن يكون يوم العيد نهاية الولاء الإجباري وبدء العصيان الحر ثم ماتت خطيبته وأصبح مسافرا في كل مكان.

إن ابن هدوقة يمازج بين موضوعين من خلال استرسال تعبيري شديد الدلالة عن التداخل الذاتي والعام في رؤية المشكلات الاجتماعية والوطنية.

تعطي قصص مجموعته الثالثة صورة بينة عن النضج الفني والفكري لابن هدوقة فهو يطوع إمكانات السرد الواقعي لحاجات التعبير عن موضوعاته.

في قصة (الكاتب) وتبدو قريبة من تمثل عناصر السيرة في حياة ابن هدوقة نفسه يروي المؤلف جانبا من حياة كاتب جزائري لاجئ إلى تونس يمضي إلى دار النشر لتسليم مجموعته القصصية الجديدة والحصول على بقية حساب عن مجموعته القصصية السابقة، ويدور حوار مع الناشر مفاده أن قصصه متجهمة ولا تتحدث إلا عن الثورة والثوار وعندما يضطر لنشر مثل هذا الأدب فإنه "يقدم تضحية حقيقية. إننا في كثير من الأحيان لا نسدد ثمن الطبع إلا بعسر" فيمتنع الكاتب عن تسليم المجموعة ويستعد للخروج من غرفة الناشر الذي سلمه رسالة من أحد القراء ويقرأ الرسالة خارج دار النشر، كانت مرسلة من قارئة معجبة بقصصه عن اللاجئين "إنك ترى في الموت لأبطالك كمالا كأن الحياة شيء قذر يشوه سمعة الأبطال" ويتأثر الكاتب من الرسالة ويرجع إلى دار النشر ويسلم مجموعته الجديدة. "ومن ذلك الحين أدركت أن فكرة الهروب من الكتابة سيكون موضوعا لآخر قصة من حياتي،.

فقد حملت رسالة القارئة معنى كبيرا للكاتب وأعادت إليه الروح التي تذهب في قسوة الشروط ويتكرر هذا الأسلوب في قصة (الرجل المزرعة) التي تتوقف مليا عند بعض الجزائريين الذين يعملون في مزرعة ليونارد، ويصبحون جزءا من ممتلكاته فتقرر أسرة أن ترحل عن المزرعة اتقاء للظلم على الرغم من التغييرات الحاصلة ويعلم ليونارد بخطتهم للهروب من المزرعة، فيطلب منهم مغادرة المزرعة إلى العقاب وفي الطريق يستل ابن الأسرة الموسى من غمده والتفت وأغمده في صدر ليونارد، أما المفارقة فهي أن والده ركض لنجدته وصرخ بابنه أن يهرب من أمامه فقد سد أمامهم طريق الحياة "انج بنفسك إن استطعت النجاة" يسلك الابن طريقا غير طريق أبيه الذي يحمل ليونارد الجريح "كان الظلام يسود المزرعة ويغطي طريقها وطريقي. افترقنا في الظلام" .

هذه هي قصص ابن هدوقة سرد واقعي يخالطه أحيانا تحفزات جمالية تمنح رؤية الواقع مدى فانتازيا أو رمزيا، ولكنه في الأحوال جميعها لا يغادر عنايته بموضوعه بالأساس. وقد بلغ ابن هدوقة شأوا عاليا في النضج الفكري والفني فلون أسلوبه وعزز وجهات نظره المباشرة غالبا في محاولته الإحاطة بالتغييرات الاجتماعية والوطنية في بيئته وبلاده، ولا شك أن ابن هدوقة أمين لفكرته عن القصة حرصا على الموضوع، وحرصا على السرد الواقعي الذي يخدم هذا الموضوع ولو داخلته عناصر غير واقعية لتأثير أعمق على المتلقي، وقد استفاد كثيرا من المؤثر الشعبي والتاريخي في تدعيم سرده الواقعي بعد ذلك.

 

عبدالله أبوهيف







غلاف الكتاب