النتائج البيئيّة لِحَرب الخليج

لقد انتهت الحرب في الخليج، ولكنها تركت وراءها كارثة بيئية عبرت الحدود الجغرافية إلى  دول أخرى، وستظل آثارها المدمرة على الإنسان والحيوان والنبات سنوات طوالا. ولأن الأمر يتشعب بين الهواء والماء وما تحته من أحياء فإن علاج هذه الآثار في حاجة إلى جهود المنظمات الدولية، لأنه فوق طاقة دولة واحدة.

لقد خلق الله الطبيعة متزنة، وجعل كل شيء فيها يجري وفق ناموس محكم، ودليل ذلك أن الحياة تمضي منذ خلقها الله على مدار ملايين السنين بلا خلل ولا اضطراب. ويتم ذلك في كل المخلوقات صغيرها وكبيرها، سواء كانت جمادا أو أحياء وبدءا من الذرة حتى المجرة.

ويأتي هذا مصداقا لقوله تعالى: سورة الحجر آية رقم 19 والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا  فيها من كل شيء موزون وقوله أيضا: سورة الرعد آية رقم 8 وكل شيء عنده بمقدار لكن عندما دس الإنسان أنفه في الطبيعة، وتعاظم أمر التكنولوجيا بعد عصر النهضة الصناعية الأوربية، ظهرت آثار هذا التدخل في أشكال متعددة.

ومنذ سنوات شرع العلماء في دق ناقوس الخطر، منبهين إلى الآثار الوخيمة التي ستلحق بالبشرية نتيجة الإسراف في العبث بالطبيعة.

ومن ثم بدأ الناس يرددون مصطلح "تلوث البيئة"، ولو أنصفوا ودققوا في التعبير،  لأسموه "تلويث البيئة"، لأن الله خلق كل شيء متزنا، والبشر هم الذين صنعوا هذا الخلل.

أبعاد كارثة الخليج

إذا كانت كارثة العدوان العراقي على الكويت قد استمرت سبعة شهور فإن عواقبها النفسية والبيئية لن تنقشع قبل سنين طويلة، فالشرخ النفسي الذي أصاب المواطن الكويتي، من جراء الجرائم العراقية سيظل قائما دهرا، ولن تمحوه خطب وقصائد وزيارات ولا تغير زعامات، وكذلك الآثار البيئية التي تعمد هذا العدوان افتعالها فوق أرض، وفي مياه، وفي جو الشقيقة الكويت، لن يزيلها العلاج قبل مضي عدة سنوات، وستمتد إلى القرن المقبل.

والجريمة البيئية العراقية، امتدت من الكويت وتجاوزت حدوده إلى عدة دول مجاورة. وهي تزحف في بطء لتمتد آثارها إلى قارات أخرى بعيدة، بل هي بلا شك ستؤثر على مناخ الكرة الأرضية كلها. ولذلك فهي تكاد تعادل في آثارها البيئية الكارثة النووية التي نجمت عن احتراق مفاعل تشيرنوبل السوفييتي عام 1986.

ولعله من سقط القول أن ننوه إلى أنه لا يمكن النظر إلى قضية تلوث البيئة، على أنها قضية ترفيه، يمكن أن تقل آثارها بمضي الزمن. ويمكن ألا ننفعل لدرء أخطارها مادام الكثيرون بعيدين عن مصدرها. فالحقيقة أنها قضية مصيرية، وآثارها ستكون وخيمة في المستقبل، لأنها آثار تراكمية وتتفاقم بمرور الزمن. وهي إلى جانب كونها قضية ذات آثار ملموسة لنا حاليا، تهدد صحتنا وغذاءنا، فإن لها أبعادا أخلاقية أيضا. إذ يجب ألا نورث الأجيال المقبلة قضايا صعبة أو مستحيلة الحل. بل ولها جانب سياسي أيضا، لأن قضية التلوث في مكان ما من العالم، تسقط أمامها الحدود السياسية والجغرافية، فهي تعبرها دون استئذان أو جواز سفر، ومن ثم فهي مشكلة دولية يجب أن تتجمع الجهود الدولية لعلاجها، ذلك أن قدرات دولة واحدة للتصدي لها ليست كافية، بل يجب أن تتصدى لها المحافل الدولية متمثلة في منظمات الأمم المتحدة.

لذلك فلا عجب أن نجد أنه قد انعقد في فبراير 1991 اجتماع ضم ممثلين من برنامج الأمم المتحدة للبيئة. ومنظمات اليونسكو، واليونيسيف، والايمو، والفاو.

وما زالت الجهود حتى الآن تتركز في عمليات جمع المعلومات والتنسيق بين هذه المنظمات لتضييق حجم الكارثة البيئية في الخليج، واحتواء أكبر قدر من آثارها.

وبنظرة فاحصة يمكن أن نرى أن هذه الكارثة البيئية تتشعب إلى أربع قضايا فرعية هي:

  • تلوث مياه الخليج بالنفط.
  • تلوث الهواء بحرق آبار البترول.
  • تلوث التربة بالحركة وبالألغام.
  • تلوث الغلاف الجوي بالطيران والصواريخ.

النفط فوق المياه

عندما اشتدت وطأة الغارات الجوية للقوات المتحالفة على الجانب العراقي، بدأت التصرفات العراقية تأخذ طابعا هستيريا، وتمثل أول هذه التصرفات في ضخ النفط من بعض الآبار لتنساب فوق مياه الخليج، فتدفقت كميات غزيرة منه مكونة بحيرات طافية امتدت آلاف الكيلومترات طولا واتساعا، ولأن مياه الخليج تقل فيها التيارات البحرية، فقد أخذت البحيرات في الاتساع والتشعب مهددة أغلب الدول الخليجية. وأصبحت شواطئ سبع منها مهددة بكارثة تزحف نحوها في بطء وهي السعودية وإيران، والبحرين، وقطر، ودولة الإمارات، بالإضافة إلى الكويت والعراق نفسه.

ولقد شاهد ملايين الناس على شاشات التليفزيون، صور الطيور البحرية وهي تستنشق الهواء بصعوبة وسط هذه البحيرات. وآلافا منها وقد تساقطت موتى والزيت يغطي ريشها بعد ما أصبحت عاجزة عن القفز أو الطيران. وكانت هذه أقل الآثار خطرا؛ لأن الأضرار التي أصابت الأحياء المائية تحت الماء، كانت ومازالت أشد هولا وأكثر فتكا بالأسماك والأعشاب البحرية والأحياء الدقيقة والشعاب المرجانية في القاع. وإذا ما تصور البعض أن هذه الأضرار يمكن إغماض البصر عنها ولو إلى حين، فإن الأهم هو الوضع الخاص لأغلب دول الخليج التي تعتمد على تحلية مياه البحر، للحصول على الماء اللازم للشرب وري النباتات.

ولذلك فإن بحور الزيت الطافية أصبحت مشكلة بالنسبة لمحطات التحلية فأعادت بذلك إلى الأذهان الآثار الضارة التي حاقت بالمنطقة عام 1983، في حادث مماثل عندما دمر العراق حقل (نورز) الإيراني ونتج عن ذلك تسرب 80 مليون جالون من النفط أثرت على محطات التحلية في المنطقة كلها مدة طويلة.

ولقد ردد بعض الخبراء، أن إعاقة بحيرات النفط لمحطات التحلية تعتبر محدودة، لأن أنابيب مآخذها للماء يمكن خفضها ويمكن زيادة المرشحات عليها.

لكن الحقيقة أن هذا الرأي أغفل عنصرا هاما في المشكلة، وهو الآثار الصحية الضارة للمواد التي تذوب من النفط في المياه المالحة. فالمعروف أن البترول مادة غنية بالعناصر والمركبات وكثير منها يذوب في الماء، وبعضها يتحلل بضوء الشمس ويتحول إلى مواد سامة. بل إن بعضها أشد خطرا على صحة الإنسان من النفط نفسه، ويعتبره الأطباء سببا مباشرا لحدوث السرطان. والأهم من هذا وذاك أن بعض عناصر النفط تتفاعل مع الكلور الذي هو عماد عملية تعقيم المياه عند  تحليتها، وتنتج عن هذا التفاعل مواد جديدة بعضها يحدث أمراضا معروفة.

وإذا كانت حياة الإنسان مهددة بهذه الأخطار، فإن الأسماك أيضا تعاني من نفس الأسباب وكذلك أغلب الأحياء المائية. وفي تقرير نشر أخيرا لمنظمة البيئة العالمية، أن التلوث قتل ما لا يقل عن 52 فصيلة من الكائنات البحرية والسلاحف والطيور البحرية وأن مئات الأطنان من القطران الذي ترسب على شواطئ الخليج ستحتاج إلى عدة سنوات للتخلص منها، بتكاليف لا تقل عن 4 مليارات من الدولارات.

الآبار المشتعلة

تطورت التصرفات الهستيرية العراقية قبل الانسحاب من الكويت، فأشعلت عن عمد نحو 600 بئر بترولية، تاركة وراءها أكبر جريمة بيئية عرفت في التاريخ. لأنها تدفع إلى الهواء دخانا أسود كل يوم. فهذا العدد الهائل من الحرائق مازال يدفع إلى الهواء بآلاف الأطنان من السناج الأسود المحمول على غاز ثاني أكسيد الكربون، وحفنة أخرى من الغازات بعضها سام وبعضها الآخر ضار بالصحة.

إن هذا العمل المجنون، يفوق آلاف المرات جريمة نيرون، عندما حرق روما، والذي يضرب بجنونه الأمثال.

ولقد ظنت القوات المتحالفة في أواخر أيام الحرب، أن إشعال آبار البترول، الغرض منه حجب الرؤية عن الطائرات المغيرة، وعن عدسات أقمار التجسس. لكن إمعان القوات العراقية في إشعال 85% من الآبار الكويتية أوضح النوايا العراقية السوداء، وانتشرت سحب الدخان الأسود إلى عنان السماء وامتدت ومازالت تمتد آلاف الكيلومترات بعيدا عن الكويت. حتى أنها أصبحت تحجب ضوء الشمس بضع ساعات من النهار في الكويت نفسها، وفي البحرين وإيران وقطر. ولقد شهدت العاصمة السعودية الرياض أخيرا، سحابة سوداء طولها 50 كيلومترا.

والآثار البيئية لهذا عديدة ووخيمة. أولها ما يقاسي منه سكان الكويت اليوم، فالرياح تدفع بهذا الدخان أحيانا، إلى مدينة الكويت العاصمة، ليظلل سماءها، فيحول النهار إلى عتمة يضطر معها المواطنون لإضاءة مصابيح السيارات ظهرا. وتشير الإحصائيات الطبية إلى ارتفاع نسبة أمراض الحنجرة والصدر والجهاز التنفسي والعيون، لدى سكان الكويت وخاصة الأطفال. ولا شك أن هذه الأمراض، تزحف ببطء أيضا إلى الدول التي تصل إليها هذه السحب حول الكويت.

لابد أن نضيف إلى هذه الكوارث البيئية، الخسارة الاقتصادية التي تتكبدها الكويت يوميا نتيجة احتراق ما يزيد على مليون برميل نفط هباء منثورا. وإلى شهر يونيو لم تفلح الجهود الفنية في إطفاء أكثر من 137 بئرا بتعاون مع أمريكا وكندا، وتزمع الكويت الاستعانة بمزيد من الخبراء من بريطانيا وإيران ومصر لتعجيل إطفاء مزيد من الآبار.

إذ إن عملية إطفاء آبار البترول تكنولوجيا دقيقة، والمتخصصون فيها نادرون، ويزيد من صعوبتها أن الرمال بين الآبار المشتعلة أصبح بعضها منصهرا، والعراق دس فيها قبل انسحابه ألغاما، ليزيد الأمر تعقيدا.

غير أن أخطر آثار اشتعال الآبار، يتمثل فيما يطلق عليه علماء الطبيعة الجوية اسم "الأمطار الحمضية"؛ لأن الغلاف الجوي أصبح يستقبل كميات هائلة من أكاسيد الكبريت والنتروجين وكبريتيد الأيدروجين، وكميات كبيرة من المعادن والمواد مثل النيكل والهيدروكربونات، ومواد متطايرة أخرى. وهذه كلها تشكل ظروفا مناخية لتكوين "الأمطار الحمضية" التي تجعل من ماء المطر مادة إهلاك للنبات ولا تصلح لشرب الإنسان، وتؤثر على التربة وعلى المباني والإنشاءات بجميع أنواعها.

وبعض أنواع هذه الأمطار أسود اللون، لم يعهده الناس من قبل، إلا في مناطق احتراق الغابات. ولقد حدث ذلك في إيران والعراق ودولة الإمارات وسقطت الأمطار السوداء، في غير موسم الأمطار، لأن ذرات الكربون التي تعلق في الجو، مع عامل الرطوبة، تعمل كنوايا لتكثف بخار الماء، فتتزايد كميات الأمطار.

وقد أوضح خبراء بريطانيون، أن سحب الدخان الأسود تصل إلى الأجزاء الشرقية الجنوبية من أوربا، وأن الفرص أصبحت مهيأة لسقوط أمطار حمضية، وأمطار سوداء، في أجزاء متفرقة من أوربا.

تلوث التربة

لقد شهدت صحراوات الكويت، والسعودية، والعراق تحركات كثيفة لعشرات الآلاف من المدرعات والآليات والسيارات سواء قبل اندلاع الحرب، أو خلالها أو بعدها. ولا شك أن مثل هذه التحركات التي استمرت طوال سبعة شهور قد فككت التربة الصحراوية، وأفقدتها سطحها المتماسك، وجعلته رمالا يسهل على الرياح تحريكها وإثارتها. وقد يتساءل البعض عن علاقة ذلك بالتلوث، لكن الحقيقة أن هذا هو الأساس في ظاهرة مناخية معروفة في منطقة الخليج هي هبوب عواصف ترابية يطلق عليها اسم "الطوز". وهي رياح محملة بغبار دقيق الحجم، وعندما تهب تنهار بسببها الرؤية الأفقية والرأسية نهارا وليلا، وتحدث للمواطنين ضيقا في التنفس. ويضطر الكثيرون عند هبوب "الطوز" إلى إضاءة مصابيح السيارات نهارا لتفادي المصادمات، وبعضهم يضع غلالات على أنوفهم للإقلال من استنشاق الغبار. لذلك ستجد الرياح التربة الصحراوية مفككة لتزداد شدتها وكثافة الغبار بها.

كما أن الألغام التي زرعها العراقيون على شواطئ الكويت وفي أنساق متتالية على الحدود، أصبحت تشكل لونا قاتلا من ألوان التلوث، لا يمكن أن نغفل أثره. لأن أغلب هذه الألغام تفجر عمدا، لفتح الثغرات والطرق في حقولها ومثل هذه الانفجارات تخلط مع التربة أنواعا وألوانا من الغازات والمواد التي تتفاعل معها لتتركها ملوثة بمواد غريبة ودخيلة عليها.

ماذا فعلت الطائرات والصواريخ؟

آلاف الغارات الجوية التي شنتها القوات المتحالفة على العراق وقواته في الكويت، قامت بها طائرات نفاثة كانت تمرح في السماوات تحت تفوق جوي ساحق. ومثل هذه الطائرات لها سقف ارتفاع عال يبلغ عدة آلاف من الأمتار وكثير من هذه الطائرات لها سرعات فوق صوتية. وبعضها له سرعات تزيد على ضعف سرعة الصوت، وتطلق قنابل وصواريخ تندفع بسرعات عالية من ارتفاعات شاهقة.

ومعنى هذا أن هذه الطائرات، وصواريخها، وقنابلها كانت تتحرك في طبقات ينتشر فيها غاز الأوزون. ورغم أن الأوزون يتركز في طبقة بين 28 و 30 كيلومترا تركيزا شديدا، فإنه تحت وفوق هذا الارتفاع ينتشر في الهواء بنسب أقل. ولا شك أن حركة الطائرات النفاثة في هذه الطبقات كانت تحدث خلخلة في الهواء، وتزيحه أمام الطائرات بعنف، فيما يطلق عليه علماء "ديناميكا الهواء" اسم "الموجات التصادمية". فإذا أضفنا إلى هذا أن هذه الطائرات، والصواريخ التي أطلقتها، كان يخرج منها غازات احتراق كبيرة الحجم وشديدة الحرارة، وشكلت ظروفا مثالية للتفاعل مع غاز الأوزون وتحويله إلى أوكسجين، وهذا ما يعبر عنه بالاصطلاح البيئي المعروف "ثقب الأوزون". أي أن الدرع الطبيعي الذي خلقه الله ليقي البشرية من أضرار الأشعة فوق البنفسجية، قد تبدد أغلبه بفعل الطائرات.  وكذلك الشأن بالنسبة لآلاف الصواريخ التي تبادلتها القوات المتحاربة في كل اتجاه. بل هذه كانت أشد فتكا بغاز الأوزون، لأن بعضها كان يطاول الطبقة التي يتركز عليها هذا الغاز. ولقد أدى إلى نفاد كميات متزايدة من الأشعة فوق البنفسجية لسطح الأرض، والتي تؤدي زيادتها إلى حدوث أنواع مختلفة من سرطان الجلد، تعرف في الطب باسم "ميلانوما" و "كارسينوما" بالإضافة إلى عتامة العين وظهور أعراض الشيخوخة المبكرة، وقلة المناعة.

الجنون يصيب الطقس

إن هذه الحفنة من أعراض التلوث البيئي، تشكل خطرا على الإنسان والحيوان والنبات. وتؤثر تأثيرات ضارة على التربة والإنشاءات. ولكن أثرها الأكبر هو أنها تجعل الطقس يصاب بنوع من الجنون يخرجه عن إيقاعه المنتظم الذي تعود الناس على انتظامه عبر مئات السنوات. لأن تزايد غاز ثاني أوكسيد الكربون في الجو، أصبح أهم عامل فيما تعانيه البشرية حاليا من تحولات طقسية، تجعل لطف الربيع مختلطا بحرارة الصيف، وبرودة الشتاء أشد قسوة مماعهدناه وتعودنا عليه.

بل هذا هو السبب الرئيسي في تحريك كتل الهواء المحيطة بالكرة الأرضية، وهبوب العواصف وحلول كثير من الكوارث الطبيعية كهطول الأمطار الغزيرة في صورة سيول، وحدوث الفيضانات. ويتبع ذلك انحسار حزام الأمطار حول الكرة الأرضية عن أماكن أخرى، فيصيبها الجفاف.