كاتب ومدينة: دير الزور عروس الفرات وجسرها المعلق جان ألكسان

كاتب ومدينة: دير الزور عروس الفرات وجسرها المعلق

تهت في شوارع مدينة دير الزور مرتين ، مرة وأنا طفل في الخامسة ، ومرة وأنا كهل في الخمسين والمحافظات النائية إلى المدن الكبرى وإلى دمشق العاصمة التي أصبحت مكتظة بنصف سكان سورية ، وها أنا أعود للرحيل إليها الآن عبر الكلمات.


ودير الزور هي المدينة التي كانت مرابع طفولتي، وهى مدينة في أقصى المنطقة الشرقية من سورية، وهي أقدم مدن حوض الفرات وقد عرفت منذ القديم بأسماء عدة، وعرفت في العصر الحديث بصفات عدة، فهي (عروس الفرات)، وهي (واحة البادية الشامية)، وهي (مدينة الجسر المعلق)، والتحفة الهندسية والمعمارية النادرة في قارة آسيا، وأحد أشهر الجسور المعلقة في العالم.


دعيت أخيرا لإلقاء محاضرة في المركز الثقافي العربي بدير الزور، وصل بي "البولمان" السياحي الذي ينطلق إليها من دمشق عبر طريق صحراوية جديدة تمر بمدينة تدمر الأثرية الشهيرة، قبل موعد المحاضرة بساعتين، وبدلا من أن أتوجه إلى الفندق أو إلى المركز الثقافي، وجدت نفسي أنطلق ملهوفا إلى شوارع المدينة وأزقتها بحثا عن بيتنا العتيق الذي كل ما أذكره عنه أنه كان مقابل مدرسة يوسف العظمة وخلف المبس العتيق.


تاهت قدماي في أزقة المدينة، ورحت أتذكر مرابع الطفولة، وكيف تهت ليلا وأنا في الخامسة من عمري خلف فرقة من الكشافة كانت تحمل المشاعل في احتفال ليلي، حتى عثر علي أحد حراس المدينة عند منتصف الليل في منطقة الدير العتيق.


وطال تجوالي في أزقة المدينة القديمة وفي شوارع أحيائها الجديدة، وعندما تنبهت إلى نفسي وعدت إلى المركز الثقافي كان موعد المحاضرة قد فات.



من الصحراء إلى الواحة

يتنقل زائر دير الزور الذي يزورها عن طريق البر (هناك خط جوي وخط حديدي يربطانها بدمشق) من جفاف الطريق الصحراوية إلى مدينة خضراء تقع على (زور الفرات). مدينة عربية أصيلة تحمل صفات البادية العربية من كرم وشهامة، ويعمل سكانها في الزراعة والتجارة وتربية الماشية.


وفي زياراتي المتقطعة للمدينة التي رعت من حياتي الطفولة واليفاع، أفاجأ مرة بعد أخرى بأن الأحياء القديمة فيها أصبحت محدودة المساحة أمام التوسع العمراني الحديث على ضفتي النهر، وحتى مشارف البادية، والذي ترافق بزراعة عدد كبير من الغراس التي أصبحت أشجاراً وارفة مثل شجر: الغرب، والنخيل، والصفصاف، والزيزفون، والمشمش، والرمان، بالإضافة إلى الصنوبريات والأشجار المثمرة، حتي الحمضيات استنبتها أهالي دير الزور وأعطت ثمارا يانعة.


الصدمة الوحيدة التي تلقيتها وأنا أزور دير الزور بعد هذا الاغتراب الطويل هي إزالة أهم معلم من معالمها الأثرية، لصالح التوسع العمراني الحديث، وهو حي الدير العتيق، حيث تتراكم آثار عدة حضارات متعاقبة في تل يتألف من أنقاض مدن كثيرة، الواحدة فوق الأخرى، وقد بنيت كل واحدة في عهد بعيد عن الأخرى، بسبب الحروب التي تعاقبت على المنطقة، والتي كانت تؤدي إلى تقويض المدن. أما عن أسماء المدينة فقد ذكر الجغرافي اليوناني بطليموس في القرن الثاني الميلادي، أسماء عدة مدن على الفرات، ومنها أسماء توقع العلماء أنها للمدينة التي تسمى الآن "دير الزور" ومن هذه الأسماء: (برتة -ادارة -جديرته) واللفظة الأخيرة آرامية وتعني حظيرة الأغنام.


أكثر من دير ويوافق موقع دير الزور أيضا (دير الرمان) الذي ورد في معجم البلدان لياقوت الحموي، ويروي المعمرون من أهل المدينة أنه كان بدير الزور رمان ممتاز، انقطع بسبب توالي الخراب الذي كانت الغزوات تلحقه بالمدينة وبأشجارها.


وكانت توجد عدة أديرة على ضفاف الفرات درست بسبب الحروب ولم يبق سوى (ديرنا) الذي اجتذب الناس المشردين بسبب الحروب إليه، كانت لفظة (الدير) مجردة وشائعة لدى القبائل المجاورة، فهم يقولون - حتى اليوم - إنهم ذاهبون إلى الدير أو قادمون من الدير، ويعنون مدينة دير الزور الحالية، والنسبة إلى الدير هي (ديري) وجمعها (ديريون).


في القرن التاسع عشر، كانت المدينة تعرف باسم (دير الشعار) أي (الشعراء) وهي صيغة جمع محلية، ومنشأ التسمية هو أن شعراء عديدين من أبناء الدير، كانوا يقصدون شيوخ العشائر، يمدحونهم بشعرهم، وفي أبناء دير الزور استعداد فطري قديم ومتوارث لنظم الشعر، وذلك لدى الرجال والنساء، ومن شعراء دير الزور المعروفين الشاعر الكبير محمد الفراتي أحد رواد الشعر الكلاسيكي في سورية. وهناك من سمى دير الزور (دير العصافير) لكثرة ما فيها من عصافير وطيور وبلابل، ثم غلب اسم دير الزور، والزور هو المنطقة الظليلة الممتدة ما بين البادية ونهر الفرات. الباحث في تاريخ دير الزور، ماضيا وحاضرا، لا يحتاج إلا إلى مراجعة الموسوعة الفراتية الضخمة التي وضعها العلامة والباحث والمؤرخ الفراتي عبد القادر عياش، فقد وضع عن المنطقة والمدينة مائة وخمسين مؤلفا تعتبر أكبر موسوعة من نوعها، بالإضافة إلى قيامه طيلة حياته الحافلة بجمع قطع أثرية مختلفة من آثار المنطقة وتبرع بها لتصبح متحفا تراثيا وحضاريا يحمل اسمه، ولا بد من التنويه بأن مؤلفات الباحث الكبير الراحل كانت أحد المصادر الأساسية لموضوعي هذا عن مدينتي دير الزور.


الجسر المعلق

هو أحد الجسور المعلقة المعدودة في العالم، والوحيد من نوعه، في قارة آسيا. وقد قامت شركة فرنسية عام 1925 بتعهد بنائه على الفرات في موقع بالمدينة، يربط (الشامية) وهي المنطقة الواقعة إلى يمين الفرات ب (الجزيرة) وهي المنطقة الواقعة إلى يساره. وقد أتمت الشركة بناء الجسر في ست سنوات حيث أنهت بناءه عام 1931 بطول 450 مترا وعرض ثلاثة أمتار وستين سنتيمترا، وعلى كل جانب رصيف بعرض أربعين سنتيمترا، في حين ترتفع كل ركيزة من ركائزه الأربع من قاع النهر إلى 36 مترا، وبلغت تكاليفها آنذاك مليونا وثلث المليون من الليرات السورية، وهو مبلغ ضخم في حسابات تلك الأيام. وهناك حادثة طريفة يرويها أهلنا عن الجسر، وهي أنه عندما انتهى بناؤه، ولأنه معلق، خاف الناس من السير عليه نظرا لاهتزازه تحت سير الآليات وحتى أقدام المشاة أو الإبل، ولكي يطمئنهم المهندس الذي صمم الجسر، أعلن استعداده لأن يجلس في زورق هو وأسرته تحت الجسر مباشرة، وأن تسير عليه قافلة مؤلفة من عشر سيارات من طراز (ستروين) كانت متواف آنذاك، وهكذا كان، وعبرت القافلة الجسر بسلام، وأصبح من تلك اللحظة ممرا للسيارات وللمشاة. قبل سنوات، وفي إحدى زياراتي فوجئت بمنع الآليات من المرور على الجسر، بعد أن بنيت عدة جسور حديثة وعريضة على الفرات، وأصبح الجسر مخصصا للمشاة والمتنزهين بعد أن أعيد طلاؤه وتمت إنارته بطريقة حديثة، مما يجعله في الليل شعلة من النور تنعكس لوحة رائعة على مياه النهر.

وما أزال أذكر حتى الآن، وبسبب ضيق الجسر وطوله، أن اتصالا هاتفيا كان يتم بين موظفين على الضفتين لتنظيم مرور السيارات بالدور حتى لا تلتقي سيارتان متقابلتان فوق الجسر الذي لا يسمح بمرور أكثر من سيارة، فتضطر إحداهما للتراجع إلى الضفة التي أتت منها.


تكامل زراعي - صناعي

وعلى الرغم من أن دير الزور منطقة زراعية فقد طورت فيها الصناعة في ربع القرن المنصرم، وأصبح فيها معامل ضخمة للورق والغزل والنسج، بالإضافة إلى الصناعات التقليدية كحياكة العباءات والبسط والسجوف والشفوف والخناجر والسيوف والسكاكين وصناعة الحلي الذهبية والفضية والفؤوس والأشصاص والآلات الزراعية والأواني النحاسية والفخارية والخشبية وسروج الخيل والأعنة والعقل (جمع عقال) واللباد والأحذية المحلية (الكلاشات) وصنع الفروات من جلود الخراف ودلال الماء لسقاية المزروعات وصناعة السلال ونقر الرحى والأدوات الموسيقية الفلكلورية كالربابة والدف والمزمار المفرد والمزمار المجوز والطبل. وتقترب الفنون الغنائية والموسيقية الفراتية من فنون العراق والخليج.


فرسان وسباحون

قطعت عرض الفرات سباحة وأنا في السابعة من عمري، ولم يكن ذلك أمرا مدهشا أو معجزة، فهناك أطفال قطعوا النهر سباحة وهم في الخامسة، فجميع أهالي دير الزور يجيدون السباحة، كما يجيدون ركوب الخيل، فهم سباحون وفرسان، ومنذ أن تأتي العطلة الصيفية، يهرع جميع أطفال دير الزور إلى نهر الفرات، وإلى صيد السمك، وعندما يشبون يمتطون ظهور الخيل.

كنا أصدقاء النهر، لا نخاف اتساعه ولا مياهه العميقة، بل كنا ننسى في الصيف منظره المرعب في الربيع وفي شهر نيسان (أبريل) بالذات عندما كان يفيض بسبب ذوبان الثلوج في منابعه بتركيا حيث كان يهدر تحت الجسر فترغي أمواجه وتزبد، ويمتد على الضفتين في بعض المناطق عدة كيلومترات حيث يخرب الزرع ويهدم البيوت، وقد أصبح ذلك المشهد المرعب لفيضان النهر مجرد صورة قديمة وباهتة في الذاكرة بعد بناء سد الفرات.

 

جان ألكسان







أحد شوارع دير الزور





النخيل على ضفاف الفرات





الجسر المعلق تحفة هندسية ومعمارية ولقطة أخرى للجسر المعلق ليلا





صيادو السمك النهري على ضفاف الفرات





الصيد عند الشروق





العباءة الزي المنتشر بين نساء دير الزور





طفلان من دير الزور يرتديان اللباس الديري التراثي





منطقة الكسر على الفرات حيث يسبح الأطفال في مرح يستمتعون بجمال الطبيعة





الفرع الأيمن من الفرات في مدينة الزور