هل للديمقراطية مستقبل في عالمنا العربي؟: د. سليمان إبراهيم العسكري

هل للديمقراطية مستقبل في عالمنا العربي؟: د. سليمان إبراهيم العسكري

لا يبدو لي أن الحديث عن الديمقراطية في العالم العربي يمكن أن يغيب عن ساحات ومنابر الإعلام والبحث الفكري والسياسي في المستقبل المنظور، خصوصًا أن الأحداث التي تتوالى في المنطقة سعيًا من أجل التغيير والتحوّل الديمقراطي لأنظمة الحكم في أغلبية الدول العربية اليوم تستدعي الكثير من النقاش والتفكير. وكنت قد تناولت في الشهر الماضي موضوع الديمقراطية متسائلاً عمّا إذا كان النموذج الغربي للديمقراطية في الغرب كما يعرفها العالم هي النموذج الوحيد والمناسب لكل المجتمعات مهما اختلفت القيم الاجتماعية والموروثات الثقافية في هذه المجتمعات وخصوصًا مجتمعاتنا العربية؟

  • حين نتناول الديمقراطية بالبحث والنقاش في عالمنا العربي لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أننا نتحدث عن نبتة وليدة، غضة، تنمو بحذر في تربة غير ممهدة لها، وليست شجرة وارفة الأوراق راسخة الجذور في أعماق تربة الثقافة العربية السائدة.
  • إن ما ينبغي التأكيد عليه في بحث سؤال مستقبل الديمقراطية في المنطقة العربية يتعلق بالكيفية التي يمكن أن تتحقق بها هذه الديمقراطية وبحيث تتوازن مع المشكلات الفادحة التي تتسبب فيها كل من ظاهرتي الفقر والأمية على المستويين الاجتماعي والثقافي.
  • لعل الكيانات السياسية الليبرالية الوليدة التي شهدنا نمو بعضها، ولو على استحياء، عقب الانتفاضات العربية، خصوصًا في مصر وتونس، ان تتمثل من تلك الخبرات في سعيها لاستقطاب الجماهير باختلاق خطاب سياسي جديد يوجه إلى رجل الشارع والمواطن لا إلى الغرب أو إلى المؤسسات المنافسة، يحول المثاليات السياسية من موقع التجريد والحماس إلى برامج عملية مباشرة على أرض الواقع.
  • إن التفاؤل المفرط في تصور أن التحول إلى الديمقراطية قد أصبح على الأبواب تفاؤل لا يسنده الواقع السياسي والاجتماعي القائم في جميع بلداننا العربية، فالطريق إلى الديمقراطية طريق طويل، يتطلب الكثير من العمل والجهد. فالديمقراطية لا تنشأ بقرار من حاكم أو مجلس، بل هي عمل دائم تتضافر له عقول المفكرين.

وحين نتناول الديمقراطية بالبحث والنقاش في عالمنا العربي لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أننا نتحدث عن نبتة وليدة، غضة، تنمو بحذر في تربة غير ممهدة لها، وليست شجرة وارفة الأوراق، راسخة الجذور في أعماق تربة الثقافة العربية السائدة.

وإذا كنت قد أشرت إلى أن الأساس العام لأي منهج ديمقراطي لا يمكن أن يشيد بطريقة سليمة إلا في تربة صالحة لنمو الحرية التي ينبغي أن يتمتع بها المواطن الفرد، بحيث تتوافر له الإرادة الحرة التي تمكّنه من معرفة ما يريد، وأن يمتلك الحرية التامة في اختيار ما يريد، كشرط أساسي ومبدئي لأي ممارسة ديمقراطية، فإنني أيضًا أود الإشارة إلى أن نتاج هذه الحرية لابد أن يكون يقين الفرد الكامل في التعددية، وأن اختياره لما يريد لا يعني نفي أي اختيار آخر لشخص أو جماعة سياسية كانت أو اجتماعية أو عقائدية.

خطاب متناقض

وبالرغم من الخطاب الذي تؤكد عليه الحكومات العربية في الدول التي تعرضت للتغيير أخيرًا في حرصها الدائم على الديمقراطية، وبالرغم من تعارض الممارسات مع هذا الخطاب، عبر القوانين الاستثنائية والممارسات التي تستعير وسائلها من النظم الديكتاتورية، لا من النماذج الديمقراطية، فإن أغلب تلك الحكومات قد حرصت على أن تزيّن الخطاب بهياكل مستعارة من الثقافة الديمقراطية مثل وجود البرلمانات، والدساتير، وأحزاب حكومية ومعارضة، كما هو شأن مصر - مثلاً - التي تمتلك مثل هذه المؤسسات ذات الطابع الديمقراطي منذ ما يربو على 06 عامًا، وكذلك الأمر في تونس وسورية واليمن، لكنها، في الممارسة العملية، ابتعدت عن النهج الديمقراطي، واكتفت بالإطار الشكلي لهذه المؤسسات وطوعتها لتأمين سياساتها لتؤكد لذاتها أن كل ممارساتها مبررة بالوسائل الديمقراطية المتعارف عليها.

إن مثل هذه الديمقراطيات الشكلية هي ما تمرّدت عليه الشعوب العربية اليوم في إطار سعيها للتغيير والمطالبة بالحرية والحقوق التي تساوي بين جميع المواطنين بلا تمييز.

إن تلك المؤسسات الشكلية للديمقراطية، وعلى مدى أكثر من ستين عامًا لم تعمل على ترسيخ ممارسات ديمقراطية حقيقية، وانتهجت الكثير من وسائل الالتفاف على رغبات الجماهير وحقوقها ومطالبها، بل تعود أيضًا إلى أن مفهوم الديمقراطية في الحقيقة ينبغي له أن يغيّر في الكثير من القيم والأعراف السائدة التي تشيع في المجتمعات العربية كممارسات اجتماعية، بينما تتعارض في طبيعتها مع جوهر المفاهيم التي تتأسس عليها الديمقراطية، ولذلك نرى اليوم في الكثير من البرلمانات العربية تحول تلك المؤسسات إلى سلطة أخرى فوق الشعب تشرع ما يتوافق مع رؤيتها هي وما ينسجم مع رؤية ومصالح السلطات الحاكمة، وليس رؤية ومصالح الشعوب الحقيقية.

تلك الديمقراطيات الشكلية السائدة في العالم العربي لم تؤد إلا إلى إنتاج قيم وأعراف ما قبل الديمقراطية وقيمها الحضارية كقيم المساواة وعدم التمييز بين البشر في الدين والعرق والجنس واللون.

بل إن ما نشاهده اليوم من بعض الظواهر في مجتمعات تمكنت من التخلص من حكم الفرد في العراق وتونس وليبيا - مثلاً - لا تؤشر إلى البديل الديمقراطي والمساواة في الحقوق السياسية والاجتماعية والثقافية، بل ربما هناك مؤشرات لا تخطئها العين البصيرة تشير إلى التراجع عن بعض المكاسب الجماهيرية التي تحققت في زمن ما قبل إسقاط هؤلاء الحكام الديكتاتوريين، خاصة في مجال حقوق المرأة، وفي نبذ الطائفية والمذهبية.

إن الديمقراطية الغربية التي أسقطت الإقطاع ونظامه السياسي ونجحت في تحويل المجتمعات إلى نظام ديمقراطي، ساهم في تشكيله العديد من رجال الفكر والفلسفة والعلم وغيرهم، أدت إلى العديد من التغييرات، ليس فقط في الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكنها أيضًا أدت إلى تغييرات عميقة في البنية الثقافية والفكرية في المجتمعات الغربية، وهذا هو جوهر التحوّل الديمقراطي.

إن ما ينبغي التأكيد عليه في بحث سؤال مستقبل الديمقراطية في المنطقة العربية يتعلق بالكيفية التي يمكن أن تتحقق بها هذه الديمقراطية، وبحيث تتوازن مع المشكلات الفادحة التي تتسبب فيها كل من ظاهرتي الفقر والأمية على المستوى الاجتماعي والثقافي. خصوصًا أنه حتى مَن يعرفون في أغلب المجتمعات العربية بكونهم متعلمين، ممن يقرأون ويكتبون، يخضعون اليوم للقبول باجتهادات وفتاوى في شئون حياتهم الحديثة لا تتناسب على الإطلاق مع العصر ومنجزاته ومتطلباته، ويستقبل جموع المتعلمين تلك الفتاوى باعتبارها مسلمات ونصوصًا غير قابلة للنقاش وتحكيم العقل فيها، فهل يمكن أن تترسخ الديمقراطية في مجتمعات تشكّلها مثل هذه الذهنيات؟ وهل يمكن لمثل هؤلاء الأفراد أن يحققوا شيئًا من الديمقراطية في المجتمعات التي ينتمون إليها؟

الدستور والتراث الفكري

إن هذه القضية ترتبط بإحدى أهم الخطوات التي تنتظرها كل المجتمعات العربية التي شهدت انتفاضات التغيير والمطالبة بالحرية وهي الخطوة المتعلقة بإنشاء الدساتير والكيفية، التي سوف تصاغ بها تلك الدساتير الجديدة وللقوى السياسية والفكرية والثقافية القادرة على إدارة تلك المجتمعات وقيادتها إلى بناء حياة ديمقراطية سليمة قابلة للبقاء والنمو والازدهار.

فإحدى الإشكاليات التي تعاني منها الذهنية العربية في العالم العربي إجمالاً أن التراث السياسي والثقافي الممتد على مساحة عشرات المئات من السنين الماضية تحول إلى ما يشبه القداسة، التي هي خارج النقاش والبحث وإعادة التحليل.

هذا التراث الذي أنتجته المجتمعات العربية والإسلامية في تلك الفترات التاريخية البعيدة، وهو ما يعني أننا بذلك قد منعنا أنفسنا من وزن الأمور بميزان العقل والمنطق فيما يتعلق بمصالحنا الذاتية، وشئون حياتنا في عصر يتسم بالكثير من توافر وسائل العلم واتساع القدرات العقلية عبر الوسائط المعرفية الجديدة التي أنتجت خلال العقود الأخيرة، مع الأخذ في الاعتبار أن ما أنتجه العرب والمسلمون القدامى قد أنتج في عصر كانت وسائل البحث العلمي فيه محدودة، مقارنة بالعصر الذي نعيشه، والذي ترتبط فيه العقول العربية والغربية معًا عبر شبكة اتصال معرفية عولمية هائلة وغير مسبوقة في تاريخ البشرية قاطبة.

إن هذه الظاهرة لها دلالة جلية ومباشرة على أزمة ثقة كبيرة في أنفسنا كعرب، وفي قدراتنا على التفكير العلمي والتحليلي لحل مشكلاتنا من واقع خبراتنا وما تراكم لدينا من معارف وعلوم، وبالتالي فالمطلوب، على وجه الضرورة، من الإنسان العربي المعاصر اليوم أن يبحث عن حلول عقلانية وعملية لمشكلاته وأزماته التي يعود الكثير منها إما إلى سيادة الأفكار التسلطية التي تشيع اليوم تارة باسم رجال السياسة وسلطات الحكم، وتارة باسم السلطات والمرجعيات الدينية.

تجارب ديمقراطية لافتة

وليس هذا المنطق بعيدًا عن تجارب قريبة منا ولا تنتمي للثقافة الغربية، كما قد يظن البعض، وهي التجارب الآسيوية التي اجتهدت وأخذت المبادرة للتفكير والابتكار لحل مشكلاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية للنهوض بمجتمعاتها وتحقيق مصالح مواطنيها، وأصبحت اليوم مصدر إلهام للكثير من الدول في التنمية والتطور العلمي والصناعي والتقني، بعد أن ضمنت تحولاً منهجيًا في الفكر السياسي السائد والتحوّل للديمقراطية كما هو شأن الهند وإندونيسيا وسنغافورة وغيرها من دول شرق آسيا. أو كما هو شأن تركيا التي كنا قد أشرنا إلى تجربتها الخاصة واللافتة في التنمية البشرية والاقتصادية وفي الحكم الديمقراطي التعددي في حديث سابق لنا هنا.

ولاشك في أن الكيانات السياسية ذات الطابع التعددي الليبرالي تتحمل مسئولية كبيرة في إمكاناتها على تحقيق التحول الديمقراطي، لكن الحادث أنها قد تعطلت طويلاً بفعل عوائق متعمّدة ومقصودة من قبل السلطات الحاكمة في مرحلة ما قبل الانتفاضات العربية، والتي لعبت دورًا كبيرًا في تفريغ هذه الكيانات من محتواها، وبالتالي من دورها الواجب في تأكيد التعددية السياسية، وإشاعة ثقافة الديمقراطية في المجتمع، واستقطاب الجماهير التي وجدت نفسها لقمة سائغة لتيارين لا ثالث لهما، هما تيار السلطة الحاكمة، بما توفره لهم من مصالح ذاتية مباشرة تضمن بها ولاءهم لها، أو لتيارات رفعت شعارات حالمة برّاقة، تبشر بإقامة مجتمع العدل والبركة، بينما تحولت التيارات الليبرالية الحزبية إلى كيانات هشّة غير فاعلة ولا تمتلك القدرة على الحشد والتأثير في الأفراد وفي المجتمع.

ولعل الكيانات السياسية الليبرالية الوليدة التي شهدنا نمو بعضها، ولو على استحياء، عقب الانتفاضات العربية، خصوصًا في مصر وتونس، أن تتمثل من تلك الخبرات في سعيها لاستقطاب الجماهير باختلاق خطاب سياسي جديد يوجه إلى رجل الشارع والمواطن لا إلى الغرب أو إلى المؤسسات المنافسة، يحول المثاليات السياسية من موقع التجريد والحماس إلى برامج عملية مباشرة على أرض الواقع يمكن أن تخلق لها قواعد شعبية واسعة تؤمن لها الأمان في لقمة العيش والحياة الكريمة.

بين ديمقراطيتين!

وبشكل عام إذا تأملنا تاريخ ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح الديمقراطية في العالم العربي، فسوف نجد تجربتين أساسيتين، التجربة الأولى هي تلك التي تأسست تحت سلطة الاستعمار الغربي للمنطقة وتم إلغاؤها كلها تقريبًا على يد الحكومات الوطنية التي تأسست عقب الاستقلال. أما التجربة الثانية فهي التجربة التي تأسست عقب الاستقلال، لكنها، تقريبًا, فشلت بلا استثناء لأنها قامت على سلب الحريات العامة، وشل القدرة على الاختيار للمواطنين وعملت على تركيز كل السلطات، أي السلطة السياسية والأمنية والمالية في يد الحكم الذي تحوّل من حكم وطني جاء على أنقاض عصر الاستعمار الأجنبي ليوفر الحرية والأمن والثروة للمواطن إلى سلطة مستبدة تحتكر الحرية والثروة والأمن لنفسها ضد المجتمع، لدرجة أصبحت أكثر سوءًا وبشاعة من حكم المستعمر الأجنبي، وهو ما أدى في النهاية إلى سقوط الكثير من تلك النظم على يد حركات تمرّد الجماهير العربية.

واليوم في ذروة الانشغال بالحديث عن الربيع العربي، بما يعنيه ويقتضيه ذلك من مناقشة لمفاهيم الحكم الجديدة ووضع أسس الديمقراطية الحقيقية البديلة، فإن أجواء من الغموض لاتزال تسود الدول التي تعرّضت للتغيير في ضوء ظهور أو صعود أو انضمام التيارات المحافظة إلى التيارات الشبابية والقوى العلمانية وغيرها من التيارات التي قادت حركات التمرد والتغيير، حيث إن هذه التيارات تحاول أن تقدم خطابًا متوازنًا بين الخطاب المحافظ المتشدد، أو الغائم القديم، وبين الوعود بالتعددية وإطلاق الحريات في حال مشاركتها في الحكم.

إن التفاؤل المفرط في تصوّر أن التحول إلى الديمقراطية قد أصبح على الأبواب تفاؤل لا يسنده الواقع السياسي والاجتماعي القائم في كل بلداننا العربية، فالطريق إلى الديمقراطية طريق طويل، يتطلب الكثير من العمل والجهد. فالديمقراطية لا تنشأ بقرار من حاكم أو مجلس، بل هي عمل دائم تتضافر له عقول المفكرين من فلاسفة وقانونيين وفنانين ومثقفين، ورجال سياسة واقتصاد ومال، لإعادة بناء مجتمعات خرجت لتوّها من رحم الديكتاتورية وسلطة الفرد الواحد.

 

سليمان إبراهيم العسكري