الاختلاف أصل وقبوله مفتاح الأمل للتقدم

 الاختلاف أصل وقبوله مفتاح الأمل للتقدم

هذا نص جميل دلالته عميقة وينم عن روح شفافة اتسعت في جوانبها روح التسامح والتفاهم. حوار متخيل بين إنسان اختار طريق النجاة وآخر اختار طريق الهلاك ولكن أي نجاة مقصودة وهلاك متجنب؟ هذا ما يكشفه هذا النص:

«قال الناجي للهالك: كيف أصبحت يا فلان؟

قال: أصبحت في نعمة من الله، طالبًا للزيادة، راغبًا فيها، حريصًا على جمعها، ناصرًا لدين الله، معاديًا لأعداء الله، محاربًا لهم.

قال الناجي: ومن أعداء الله هؤلاء؟

قال الهالك: كلُّ من خالفني في مذهبي واعتقادي.

قال الناجي: وإن كان من أهل لا إله إلاّ الله؟

قال: نعم.

قال: إن ظفرت بهم ماذا تفعل بهم؟

قال له: أدعوهم إلى مذهبي واعتقادي ورأيي.

قال: فإن لم يقبلوا منك؟

قال: أقاتلهم وأستحلّ دماءهم وأموالهم، وأسبي ذراريهم.

قال: فإن لم تقدر عليهم ماذا تفعل؟

قال: أدعو عليهم ليلًا ونهارًا، وألعنهم في الصلاة، كلّ ذلك تقربًا إلى الله تعالى.

قال: فهل تعلم أنك إذا دعوت عليهم ولعنتهم يصيبهم شيء؟

قال: لا أدري! ولكن إذا فعلت ما وصفت لك، وجدت لقلبي راحةً، ولنفسي لذّة، ولصدري شفاء.

قال الناجي: أتدري لم ذلك؟

قال الهالك: لا ولكن قل أنت.

قال: لأنك مريض النفس، معذّب القلب، معاقب الروح، لأن اللذة إنما هي خروج من الآلام. ثم اعلم أنك محبوس في طبقةٍ من طبقات جهنم، وهي الحطمة نار الله اُلموقدة التي تطَّلِع على الأفئِدة، إلى أن تخلُص منها وتنجو نفسك من عذابها، إذا لقيت الله عز وجل كما وعد بقوله: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا .

ثم قال الهالك للناجي: أخبرني أنت عن رأيك ومذهبك وحال نفسك كيف هي؟

قال: نعم، أما أنا فإني أرى أني قد أصبحت في نعمة من الله وإحسان لا أحصي عددها، ولا أؤدي شكرها، راضيًا بما قسم الله لي وقدر، صابرًا لأحكامه، لا أريد لأحدٍ من الخلق سوءًا، ولا أضمر لهم دَغلًا، ولا أنوي لهم شرًا؛ نفسي في راحة، وقلبي في فسحة، والخلق من جهتي في أمانٍ، أسلمت لربي مذهبي، وديني دين إبراهيم عليه السلام، أقول كما قال:

فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ . إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . ( انتهى النص )

***

قد لا نفاجأ، نحن أبناء هذا العصر، من فحوى هذه الرسالة التي يقدمها لنا هذا النص، فقد اتسع الحديث وتكرر بإلحاح على حقوق الإنسان فتم تحديد حقه في الاعتقاد والتعبير وتنامت دعوة الحوار بين الحضارات والتشجيع على قبول التحاور بين المعتقدات، وأصبحت هذه الدعوة أصلا من أصول التعايش بين البشر. وهذا التوجه أدى إلى الانفتاح في مقابل الانغلاق، ومحاولة فهم الآخرين، ثم التفاهم معهم في مقابل الخصومة، وتضاءلت عند كثيرين رغبة تبديل المختلف أو إخضاعه وصولا إلى محاولة القضاء عليه ومَحْقه مطاردة وتنكيلًا.

وقد شهدت البشرية في كل العصور، وعصرنا مع الأسف منها، نماذج من محاولات القهر وإخضاع الآخرين لمنطق واحد، وعقيدة محاكم التفتيش نموذج صارخ.

ونعود للنص فنقول:

لا يذهب بنا الظن ابتداءً إلى أن هذا النص ينتمي إلى عصرنا، إنما هو نص قديم مغرق في القدم، يعود إلى القرن الرابع الهجري، زمن القامة الشامخة للفكر الإسلامي المتفتح عالميا، احتفظت به وقدمته لنا رسائل إخوان الصفا ( ج3. ص 312 - 313 )

نحن إذن نواجه رغبة قديمة ورسالة نبيلة أرسلها لنا تراثنا من ألف عام، وكانت هذه النظرة حصيلة حوار ونقاش رفيع المستوى قاده مفكرون يمثلون الآن أسماء بارزة في سماء الحضارة الإسلامية وتقدم دعوة أصيلة لسنا فيها صدى للآخرين، وليست قضية آتية من وراء البحار استيقظنا عليها مبهورين، ولكنها رغبة قديمة كامنة أدركها، ويدركها كل من يريد أن يقيم حضارة تعتمد على نبوغ البشر كلهم من دون تفريق أو إقصاء.

لذا يجب ألا يدهش مندهش من تلك الرؤية التي شاعت وانتشرت بين ثنايا الأقلام وألسنة المجتهدين عندما يرددون قول ابن عربي منتشين برؤيته السمحة الممتدة تظلل مساحة واسعة قائلا:

لقد صارَ قلبي قابلًا كلَ صُورةٍ
فمرعىً لغزلانٍ ودَيرٌ لرُهبَانِ
وبيتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائفٍ
وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآن
أدينُ بدينِ الحبِ أنّى توجّهتْ
ركائبهُ، فالحبُّ ديني وإيمَاني

وهذا أبو العلاء المعري الذي زهد في هذه الدنيا ووجه سهامه الناقدة إلى كل الجهات ولم يوفر مثلبا في عقيدة أو طائفة إلا واجهها منتقدا ومناقشا، أطل علينا بنظرته الرحبة في الدعوة لقبول الآخرين وطلب الخير للناس كلِّهم:

فلا هطلت علي ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلاد

ودعا إلى قبول الآخرين والعدل في معاملتهم:

الدين إنصافك الأقوامَ كلهمُ
وأي دين لآبي الحقّ إن وجبا؟

رؤية متحضرة

ولم تكن هذه الرؤية المنفتحة منحصرة في نطاق ضيق أو في إطار أو نتيجة لنقاش فكري متعالٍ منفصل عن معطيات الواقع آنذاك، ولكنها نتيجة لرؤية حضارية عثرت على الطريق السليم للتطور، فالحضارة الإسلامية لم تأخذ موقعها إلا لأنها سلَّمت في تلك الحقبة الذهبية بهذا الاختلاف، وقبلت حضوره برحابة صدر متوافقة مع ما كانت تسمح به درجة ذلك العصر قياسًا على حضارات مجاورة دمرها الأفق الضيق، فرأينا أصحاب الديانات الأخرى من مسيحيين ويهود، بل وعقائد أخرى كانت تملأ ساحة الدولة الإسلامية، تم قبولها واستيعابها، فكان منهم المعلم والمؤلف وكاتب الدولة وطبيبها المقرب ووزيرها المفوض والمؤتمن على خزانتها المالية. ولم تضق مدنها وأسواقها بتجارهم ولا حاراتها بالساكنين منهم فيها. لقد كان الأصل المعتمد هو القبول والتعايش ومن ثم التعاون.

هذه شهادة عالم من علماء المسلمين المعاصرين يصف في دراسة له هذا التعايش والانفتاح الفكري. يقول الشيخ محمد أبو زهرة عن كثرة الملل والنحل في البلاد الإسلامية: «فقد صارت الحواضر الإسلامية شرقا وغربا مزدحمة بأهل الملل والنحل، من كل صوب، فيها اليهودي والنصراني والمجوسي المانوي، والزرادشتي والمزدكي، والحراني، والدهري، والسني، وغير هؤلاء وهؤلاء، وكلهم اجتمعوا في صعيد واحد وأكسبهم ظل الإسلام حرية دينية يقيمون بها شعائرهم الدينية، من غير أن يمسهم أحد بسوء، وحرية فكرهم تجعلهم يتناقشون في كل ما يقع تحت أنظارهم من أمور دينية وغيرها، ماداموا لا يسبون دينا، ولا يقدحون شعيرة من شعائرهم «كتاب تاريخ الجدل ص 200».

إن هذا الموقف ليس اجتهادا فرديا، ولا جزيرة منعزلة من التفكير، ولكنه نتاج تراكمات إيجابية تشهدها الحضارات المقبلة على الحياة، والتي تحمل في داخلها رغبة حيوية في التغيير والتطور والتعامل مع أصفى الملكات عند الآخرين من المعتقد والعقل والشعور، إنها حالة ثقافية ومستوى من الوعي والمعرفة التقى فيها الفكر الديني وسماحته والمنطق العقلي ودقته بالإبداعي ومساحته الإنسانية. اجتمعت كلها لتقديم أنموذج دال على معنى الرقي الحضاري، والمستوى الرفيع الذي يجدر بالإنسان / الخليفة على الأرض، أن يطمح إليه بل يعمل لأجله بحماسة ونبل.

إن هذا يدل على أن النضج الحضاري الحقيقي إنما يتجلى في الرضا بالعيش المشترك والتعايش الآمن، والانفتاح الإيجابي، فكل شيء قابل للمناقشة والتفاهم والتقارب ويبقى الاختلاف سمة إيجابية فاعلة في حياة البشر.

هذا هو الأصل والقاعدة الذهبية الثابتة، أما الاستثناء فيأتي حينما تتدنى قيمة العقل وتُفْقد حكمة التصرف فتتوارى فكرة التسامح وتغيب رغبة الائتلاف فيسود أصحاب الفكر الواحد، والصواب الأوحد حينئذ يفقد التحضر أحد أهم شروطه، ومن ثم تتجمد حركة التطور، فيميل الميزان إلى الانحدار والتخلف، وهذا ما كان يحدث في سقوط الحضارات، ولم تكن الحضارة الإسلامية بمنأى عن هذا، فالذين حكَّموا الرأي الواحد هم أول المساهمين في إسقاط الدولة والقضاء على تمييز تلك الحضارة، فالوقوف في هذه المساحة الضيقة من الفكر لم يحقق يوما استقرارًا ولا عمرانًا، بل حققت عدم رضا وتمردا وثورة ودماء فتخلف.

الاختلاف سنة كونية

لقد تبين المفكرون منذ القدم التناقض والاختلاف، وأنه أصل، فالطبيعة قائمة على الأضداد، بدءا من الحياة في الجسد وحركتها الدائبة بين التنفس وعدمه، الحركة والسكون لا يمكن أن ينفرد أحدهما بتقديم الحياة. ومن ذلك امتدت سلسلة الأضداد، بدءا من الليل والنهار، عيش الإنسان داخل متناقضين مكان ثابت وزمن متحرك. وتتوالى في الطبيعة ثنائية الأضداد ومنها يكون الانسجام، ذكر وأنثى بفضل اختلافهما يتم التكامل البناء، وفي المادة يتم المزج بين ألوان الطيف السبعة فتتوالد من هذه الأطياف المختلفة ألوان وألوان تحمل جدة وجمالا، وفي السماع فهذه الموسيقى تجمع نبراتها المختلفة قصيرة وطويلة فيحدث انسجام وتوافق يطرب السامع.

إن العالم تحكمه هذه المعاني الكبرى، وهي تتمايز بعضها عن بعضها الآخر لأنها تتعارض وتتناقض بل إنها لا تكاد تحيا إلا إذا تناقضت: فلا وجود للصدق إلا إذا تعارض مع الكذب، ولا وجود للقوة إلا إذا تعارضت مع الضعف، وينهض التقدم على أساس رفض التخلف.

وعلى مستوى السلوك تبرز فكرة التوافق والتأثير المتبادل فتتحقق فكرة الوسط الذهبي الذي قال به القدماء، فالشجاعة وسط بين الجبن والتهور والكرم بين البخل والتبذير، فكل فضيلة تنيرها نقيضتها، ولا تتميز بقوة إلا من خلال إدراك هذا النقيض، وقس على هذا الصحة والمرض والايمان وعدمه.

وانظر بعد ذلك الى عناصر الاختلاف المتنوعة، فالاقتصاد اشتراكية تقابلها رأسمالية، وفي مستوى الحكم: الديمقراطية تخالفها الديكتاتورية أو حكومة فرد /حكومة نيابية.

لقد كان كشف النقائض أصلًا من أصول الفهم والتفكير الناضج، بلورها الفيلسوف هيجل وجعلها أساسا لفلسفته القائمة على الجدلية القائلة بالقضية ونقيضها ومركب القضية. وفي موضوعنا هذا نقول: الرأي ونقيضه ومنهما معا يتركب الرأي الثالث، وهكذا تعود السلسلة مرة أخرى لتواصل دورتها القائمة على هذا التقابل الثنائي، وهكذا هي دورة الحياة.

كيف نقبل، ونسلم بهذا الحكم الطبيعي فإذا جئنا إلى العلاقة الإنسانية كان التشبث بالوحدة الواحدة هو المربط الذي يتشنج عنده المتشنجون. أليس من الواجب أن يكون مرتكز الحقائق الوحيد الذي يحسن الاتفاق عليه البشر هو أن الاختلاف أصل في الوجود، لن يستطيع أحد أن يقضي عليه، ولكن الفعل الوحيد الممكن هو العمل على تقليصه وإزالة الشوائب منه وتوسيع مساحة التقارب بالتسليم الابتدائي به، والابتعاد عن الإخضاع القهري بين المتخالفين.

إن الوعي الناضج يؤكد أن الأصل هو الاختلاف، ويثنيْ في تأكيده على أنك لا يمكن أن تخضع الآخرين، بل ليس من حق أحد أن يقدم العداء والقهر، لا فعلا ولا قولًا ولا مضمرًا في النفس، ومن يفعل هذا فإنه كما قال الناجي في النص سيقع في الخطأ، وأنه مريض النفس، معذّب القلب، معاقب الروح في الحطمة حتى تنجو نفسه. أما من لا يريد لأحد من الخلق سوءًا، ولم يضمر لهم دَغْلًا، ولا نوى لهم شرًا؛ فنفسه في راحة، وقلبه في فسحة، والخلق من جهته في أمانٍ، فمآله أن يعيش في نعمة من الله وإحسان.

إن من يضع قفلا على قلبه، فيعجز عن مد مساحة التسامح، والتسليم بطبيعة الاختلاف الأزلية، مهما كانت درجته، حتى لو المخالف يقف عند حافة النقيض تماما، إنما هو يحكم على نفسه بالنبذ أولا، والكراهية ثانيا، والحرمان من أي إبداع أو فكرة إيجابية يكتسبها البشر أينما كانوا ومهما كان اختلافهم الفكري والعقائدي.

إن الواقف ضد فهم، ومن ثم قبول، عناصر الاختلاف إنما يعاند سنة كونية كانت معلومة ومكتشفة وتم التعامل معها منذ القدم، فالحاجة ماسة إلى تَبيُن الحقائق البارزة، ومن ثم الاعتراف بها باعتبارها أمرا ثابتا لا يمكن تغييره أو القضاء عليه، فالآخرون مختلفون عنك كما أنك بالنسبة لهم مختلف، فما سلّم به عقلك أو قبلته نفسك، هو ذاته بالقيمة والثبات نفسيهما عند الآخرين عقلا أو نفسا.

من يعتقد بوجهة نظر واحدة إنما هو يحتفظ بجزء من الحقيقة وينظر من جهة واحدة مهملا كل الجهات الأخرى فلا ينظر إلى المنظر كاملا.

نقبل أشياء كثيرة فإذا جئنا إلى أخص خصائص الإنسان، عقله وتفكيره واختياره تقدمنا لنزعها منه وإخضاعه، وفي هذا هلاك، كما أشار نص إخوان الصفا الذي جعل هذا المتعصب الذي يريد أن يبدأ حركة التغيير بالقول والإملاء فلعن وبذر جمرة الحقد ليصل إلى التصفية والقتل فكان هالكاً باختياره المتعصب، بينما صاحب الأفق المتسع ناجيا، في الدنيا والآخرة.
---------------------------------
* كاتب من الكويت.

 

سليمان الشطي*