د. عبدالله الطيب و محمد اليعقوبي

  • عندما تفشت العامية المعاصرة اضمحل أمر البلاغة
  • حيثما وجد القديم ينبغي المحافظة عليه لأنه يغذي الفصحى
  • ينبغي أن نبدأ بالقرآن في تعليم اللغة
  • المدارس العصرية لا تعدو أن تكون مصنعا للامتحانات
  • يخيل للناس أنهم إذا "تفرنجوا" فقد لحقوا بالركب

تبوأ الدكتور عبد الله الطيب مراكز علمية وتعليمية مرموقة في السودان، فمنذ أن حصل على الدكتوراه في الآداب من بريطانيا عام 1950 عمل في التعليم العالي، وشغل منصب عميد كلية الآداب، ثم مدير جامعة الخرطوم، وقام بتأسيس كلية (بكفو) في نيجيريا، وقد تحولت الآن إلى جامعة، وهو عضو عامل بمجمع اللغة العربية بالقاهرة منذ عام 1961، وهو فضلا عن ذلك كاتب وشاعر.

أدار الحوار محمد اليعقوبي من القطر العربي السوري، وهو شاعر، وباحث في التراث العربي واللغة العربية.

  • الموضوع الذي سيطرح على بساط البحث هو هموم الشباب العربي مع اللغة العربية، أو ما يعانيه هؤلاء الشباب من مشكلات و تعلم اللغة والنطق بها. الواقع الثقافي مؤلم، فالتخلف اللغوي امتد إلى كل نواحي الحياة، بدءا من المجالات العلمية التخصصية، وانتهاء بالأدباء المعاصرين، ففي المجالات العلمية نجد الباحثين والعلماء يتقنون الإنجليزية والفرنسية ويتحدثون بهما في محاضراتهم الجامعية، وفي المجالات الأدبية نجد معظم الباحثين والكتاب يحاولون الإفلات من قيود اللغة والنحو والصرف، ويحاولون الإفلات من الأساليب العربية الصحيحة. وفي الحياة العامة نجد العامية قد تفشت في. كل مكان، وهذا واقع مؤلم، لابد لنا من البحث في الأسباب التي أوصلت إليه، لعلنا نجد الحلول. هل لكم من تصور لهذه الأسباب؟.

- ترجع هذه العلل التي أشرت إليها إلى جهل باللغة الفصيحة، والى استعمال اللغة التي لا هي بالفصيحة ولا هي بالعامية. أما الذي جر إلى الجهل بالفصيحة فهو أن الفصيحة كان لا يعلمها و الماضي إلا العلماء، وهؤلاء قلوا الآن، ودالت دولتهم إلا قليلا. والذين خلفوهم متخرجون في المدارس العصرية، وهم ليسوا علماء بالمعنى القديم. منهم أهل الصنائع، ومنهم أصحاب شتى الحرف، والفرق بينهم وبين أمثالهم، ممن عاشوا في الأزمنة القديمة، أن الأولين كانوا يحترمون العلماء، في حين يرى هؤلاء أنهم هم العلماء، أما الذين كانوا علماء، أو أن البقية الباقية منهم، إن هي إلا أثار شيء بلي، أو ينبغي له أن يبلي. فمن الأسباب إذن أن عدد العلماء قل، والمدارس لا تعلم اللغة العربية، وإنما تعلم أشياء أخرى قد يتم الوصول إليها وقد لا يتم، وهذه من قضايا العصر.

أما وسائل حلها فذلك أمر قد لا يستطاع في وقت وجيز، ولكنه ينبغي أن يواجه، وعندما قلت: إن اللغة التي تستعمل الآن ليست لغة فصيحة وليست عربية عامية، لأن العامية كانت لغة البداوة، حتى سكان الحضر في الأقطار العربية لم يتخلوا عن بداوتهم، سواء أكانت بداوة مترحلين أم بداوة مزارعين من الفلاحين، فإن أرض الفلاحة أيضا تسمى بادية. أن أهل الحضارة وأهل البادية في الأقطار العربية المختلفة كانوا يتكلمون لغة عربية، ولكن في العصر الحضر دب إليهم أسلوب الصحافة الافرنجية عن طريق وسائل الإعلام، فأثر هذا في العامية، إذ قلت ذخيرة العوام اللغوية. فقد كان العامي في زمن مضي إذا أراد أن يصف ما حوله، وكان بليغا لم تعيه الكلمات، ولم تعيه الأفعال التي يصف بها، أما الآن فهو لا يستطيع أن يتحدث إلا بما يسمع من المذياع أو يقرأ في الصحف، وهذا محدود، ففي كثير من الأحيان يترجم من أسوأ اللغات الأجنبية، لأنه يترجم - أحيانا - من لغات أجنبية شعبية، ومما يذكر في هذا المجال أنه عند أكثر الفرنجة لا تتوافر البلاغة عند عامة الناس، بل عند علية القوم، أما الذي يكتب للعامة في أوربا فيكتب بلغة أضعف، وعلى مستوى أقل كثيراً مما يتداول بين الطبقات العليا منهم.

ونحن في الأقطار العربية لم يكن الأمر بيننا كما هو عليه عند الأوربيين، إنما كان الناس يتباهون بالبلاغة في القرى وفي المدن، وعندما تفشت العامية المعاصرة بدأ أمر البلاغة يضمحل، وهذا مهم لأن البلاغة التي تمكنك من القول الفصيح تنبعث من النفس ومن روح الأمة، فمتى ضعف هذا الروح قل الدافع إلى البلاغة، وأصبح الناس يعبرون بألفاظ كأنها أطر لأفكار تدور في المجتمع دوراناً بدون دلالة واضحة.

الفصاحة والبادية

  • تحدثتم عن اللهجات العامية، وعن دورها في إضعاف اللغة العربية، وقسمتموها إلى لهجات عامية قديمة (بدوية) ولهجات معاصرة.

- أنا لم أتكلم عن اللغة العامية القديمة، فهي لم تضعف اللغة الفصحى، لأن مكانها كان بين الأميين. وليس بين أهل البادية، فإن لغة هؤلاء فصيحة، ونحن نعلم أن العرب كانوا إذا أرادوا تربية أبنائهم على الفصاحة يرسلونهم إلى البادية.

كان هذا في البادية القديمة، ولكنني تكلمت الآن عن البادية المعاصرة، أو البادية التي كانت في القرنين الماضيين، لأننا نعلم أن المائة الرابعة للهجرة كانت البادية فيها غير فصيحة، فعندما كان المتنبي جالسا بين البدو تحدث أحدهم معه، وقال له: إن الإنسان يحير في كذا، فقال له صاحبه (يحار). وهذه الحادثة رواها ابن جني، فالبادية دخلها الضعف واللحن في فترة مبكرة، ولكننا لا نتحدث عن هذا، بل عن اللغة العامية التي يتحدث بها العامة في الوطن العربي، قبيل هذه الحقبة الزمنية التي نعيشها، أما الآن فقد بدأت تطغى لغة السينما والمذياع والصحافة، وهي لغة كأقراص الدواء.

  • هل أنتم تنادون بالرجوع إلى العامية القديمة؟

- أنا لا أنادي إلى الرجوع للعامية القديمة، إن ما أنادي به هو أن يدرس الناس اللغة الفصيحة كما كانت تدرس، أن يبدأوا بالقرآن، وأن يتمكنوا من ذلك، أما اللغة العامية القديمة فقد دثرت إلا ما ندر. أنا أقول هذا ولا أعرف اللهجات العامية في بلاد الشام أو في العراق، ولكنني كنت في السوق في بلدتي، وكان أحد الناس يتكلم مع آخر، ويقول له: إن فلانا قتلته "العيمة"، فكلمة العيمة عرفت أن معناها شهوة اللبن، لأنني قرأتها في كتاب الأمالي للقالي. ولكن هذا المواطن لم يقرأها في "الأمالي ". بل أخذها بالتلقي، ثم تتبعت كثيرا من الكلمات الفصيحة، فوجدت أن معظمها مازال يدور في أحاديث الناس، ولكن المدارس قتلتها.

خزانة الفصحى

  • هل ينبغي أن ننادي بإحياء الفصحى؟

- أن تدعو إلى إحياء الفصحى، ذلك هو ما نقوم به الآن، ولكن حيثما وجد هذا القديم ينبغي المحافظة عليه، لأنه يغذي جزالة الفصحى.

  • ألا يهبط هذا بمستوى القرآن الكريم؟

- كلا، إن القرآن الكريم هو المثل، فالعلماء في كل الأقطار العربية كانوا يعلمون العامة السيرة النبوية باللهجات المحلية، فكانت السيرة منغمه بأغان عامية، وهذا يثقف العوام دون أن يهبط بمستوى الفصحى، لأن الذي علمهم هذا كان قد قرأ السيرة الحلبية وسيرة ابن هشام..

  • أليس الواجب أن نعلمهم الفصحى بدلا من تعليمهم العامية؟ ذكرتم في بداية الحديث أن سبب ضعف المستوى اللغوي يرجع إلى قلة العلماء، وأول سبب من أسباب قلة العلماء هو كثرة المتكلمين بالعامية أو المتعلمين بها.

- هاتان نقطتان مختلفتان، فأنت تتحدث عن تعليم اللغة العربية الآن، وأنا أتحدث عن الطرق التي كانت تستخدم في التعليم قديما، وأقول: إننا لم نوجد لها بديلا. كان شيوخ التعليم في ما مضى لا يستطيعون تعليم الناس كل ما ينبغي أن يتعلموه، فيختصرون الطريق بإفهامهم ما يستطيعون فهمه، وكان مستوى الفهم، باللغة جيدا، لذلك كانت المحصلة من كل ذلك جيدة، أما الآن فلا يوجد هذا وليس له بديل.

فالقرآن الآن تدرس منه آيات في المدارس، وهذه الآيات القليلة لا تكفي زادا في اللغة. كان الطلاب قديما يشرعون بتعلم القرآن في سن الرابعة، ثم يمضون فيه، فما أن يبلغوا سن السابعة حتى يكونوا قد حفظوا كثيرا منه، بحيث لا يقل حفظهم عن جزأي "عم " و" تبارك "، فلا يخلو أحد من معرفة أو إلمام بنظم الفصحى ورنتها وطريقة نطقها، أما الآن فأنت في المدرسة تبدأ بأسلوب غريب على الصغير، لأنك تبدأ بحروف هجائية، وبجمل علمانية، ليس لها صلة بحياة الطفل. وهذه البداية أضعف من البداية القديمة، لأنك في القديمة تغري الطفل بأن ينتسب إلى جيل الكبار الذين سيكونون في المستقبل، ولذلك يقبل برغبة وهو يعلم أن هذا الذي تعلمه إياه ليس هو اللغة الدائرة في حياته، ولكنه لغة الكبار ولغة الدين ولغة التكليف بالمسئولية، ولذلك هو يسمعها ويسمع الأذان وقراءة القرآن، فعندما تأخذه بهذه اللغة تأخذه بترغيب، لأنه يريد أن يكون كبيرا.

ولكنك الآن تبدأ بتدريسه الألف، وهي تعادل مثلا اكتب، والراء تعادل مثلا رأفة، فهذه الكلمات لا يآلفها، ولا يتحدث بها في المنزل، فلا يغريه بها إلا انتماؤه إلى قطع يتلقاها من مدرس، فيحدث بين هذه اللغة التي تعلمه إياها وبينه نوع من النفور، فأنا أرى أن هذه البداية خاطئة، إذ ينبغي أن نبدأ بالقرآن.

العيب في المناهج

  • في ما يتعلق بمناهج تدريس النحو العربي، هناك مناهج قديمة وأخرى حديثة. أما القديمة فهي تدعو الى التمسك بالألفية وشروحها، والأجرومية وشروحها، وغير ذلك من المنظومات والكتب التعليمية. الحياة الآن أصبحت معقدة جدا، فالطالب الذي يدرس اللغة العربية يدرس إلى جانبها الفيزياء والكيمياء وعلوم الحياة. هل تصلح أمثال هذه الكتب لتدريس النحو العربي في الوقت الحاضر؟

- أنت أجبت عن السؤال، ووضعتني في موضع حرج، فإما أن أقرك على رأيك أو أخالفك فيه. الذي ينبغي أن ينتقد ليس تعليم النحو، بل منهج الدرس في جملته. أنا أتحدث عن مناهج الدراسة في بلدي (السودان)، وهي قريبة مما يعمل به في بلدك، وفي مصر وفي غيرها: أولا يبدأ الناشئ، في سن متأخرة، والتعليم الإلزامي في أكثر الأقطار العربية يبدأ في سن السادسة أو السابعة، ولا يؤمر الصغير بالصلاة في سن السابعة إلا وقد حفظ شيئا من كتاب الله، ففي منهج العرب القديم كان الطالب يلتحق بصفوف الدرس قبل تلك السن بكثير، فالصغير آنذاك لم يكن يتعلم القرآن وحده، بل كان يتعلم أشياء كثيرة من البيئة المحيطة، لأنه يحتطب يوما، فيعرف أنواع الشجر، ويحرث يوما، فيعرف التربة وما إليها، وتأتي مواسم الأمطار ومواسم الزراعة، فيكلف الصغار بالخروج مع غيرهم، وهنا يعرف أشياء كثيرة، ويتدرب على استعمال أدوات كثيرة. باختصار: كان التعليم الذي محوره القرآن كالمروحة، له جوانب أخرى كثيرة تدخل فيه، فيتلقاها الناس بلا كلفة. وكل هذا الذي كان يتعلمه الفتى من مناهج التعليم القديمة لا يوجد منه شيء في المدارس العصرية التي لا تعدو أن تكون مصنعا للامتحانات.

يدخل الطفل المدرسة وكان أهله قد عقدوا العزم على أن يكون طبيبا أو محاميا أو مهندسا، فيأخذ في الركض ورأء هذه الغايات، وكأنها كرة تطاردها كلاب في ميدان سباق، فصغارنا يطاردون الغاية، وهي إما وظيفة أو مكتب لدى مؤسسة حكومية. ليس الأمر كذلك في البلدان المتقدمة. زرت مدرسة في بلد أجنبي، فرأيت أولادا بين سن السادس والتاسعة، ووجدت بين ألعابهم قطارا حديديا، يقوم الصغار بتسييره، إن تسييرهم للقطار يعلمهم أشياء كثيرة، وذلك من طبيعة التعليم التلقائي. ذهن الصغير يستوعب أشياء كثيرة، ولكن ينبغي أن تعرض له بطريقة تجعله راغبا فيها، مقبلا عليها. إن ما ينبغي أن نؤكد عليه هو أن نعلم الصغار لغتهم في سن مبكرة تعليما جيدا، لأن الطفل عندما يكبر ينفصم عن اللغة إن لم يكن قد تعلمها تعليما جيدا، فهو إن لم يكن قويا باللغة العربية لا يستطيع أن يعلم غيره الهندسة إذا صار مهندسا، ولا الطب إذا صار طبيبا، ولا أي علم من العلوم والتقنيات الحديثة. لذلك كله أقول: إن المرحلة المبكرة من عمر الطفل هي التي ينبغي لنا فيها أن نعنى بتعليم اللغة، وأنا أقصد في المرحلة المبكرة، ما دون سن السادسة، فحفظ القرآن وتعليم النحو يرسخ في ذهن الأطفال.

وجهة نظر

  • أنا مع تدريس الألفية والأجرومية، ولكن ينبغي أن يقصر تعليمهما على المتخصصين بدراسة اللغة العربية. مع ازدهار الحضارة الحديثة لا تستطيع أن تأتي بطفل يلعب بالحاسب الآلي وتطلب منه حفظ الألفية؟

- على العكس من ذلك، أنا أقول: إنه سيحفظها بسرور، لكن الصعوبة تكمن في أن يتعلمها ويحفظها وهو كبير، لأنه حينئذ سيتلقاها بمشقة، ويعلمها بنصف التحصيل الذي أخذها به. كان تعليم العربية في سن مبكرة هو الأمر المألوف، ولقد تراجعت اللغة الآن على السنة المتحدثين بها، لأن الذي كان مألوفا لم يعد كذلك الآن.

تقريب النحو إلى الناشئة

  • كيف نجعل النحو العربي قريبا من نفوس الناس، سهلا على أفهامهم؟

- لا يتم ذلك إلا بالتعليم في سن مبكرة، وبذل بعض الجهد. عملت في التعليم أكثر من أربعين عاما. وفي إحدى مراحله كنت أعلم قصة "عمدة كاستربريج " لتوماس هاردي الكاتب الإنجليزي، وهي قصة مبسطة، ولكن الطلبة كانوا يرجعون إلى القاموس للبحث عن معاني خمس كلمات في السطر الواحد، فقلت لهم وقد كانوا يشكون من صعوبة تعلم العربية: لو بذلتم بعض هذا الجهد الذي تبذلونه لتعلم اللغة الإنجليزية لا كله، لأصبحتم أقوياء في لغتكم، فمعلقة امرئ القيس لا يوجد فيها أكثر من كلمة أو كلمتين غريبتين في السطر الواحد، وفي اللغة الفرنسية شاهدت الطلبة يحفظون عن ظهر قلب الاتصالات المختلفة للفعل الواحد، وللأفعال الشاذة، وهي غاية في الصعوبة والعسر، ولا يرأف بهم معلمهم أو ييسر لهم ذلك. حتى إذا سرنا إلى العربية نجد أن الشكوى ترتفع لدى حفظ أي باب من أبواب النحو.

الناس لا يعرفون الصواب

  • الأمر الغريب الذي لاحظته هو أن هناك مهندسين وأطباء واقتصاديين يقفون في ندوات عامة، فإذا تكلم أحدهم بالعربية لحن وأخطأ أخطاء كبيرة، بينما نراه إذا قرأ ورقة بالإنجليزية لا يخطئ ولا يلحن.

وإذا صدر عنه أي خطأ بادر هو إلى تصحيحه بنفسه، وقد يؤاخذه الناس على الخطأ، في حين أنه إذا أخطأ في العربية لا يسأله أحد ولا يلومه أحد.

- لأن الناس لا يعرفون الصواب في اللغة العربية، لقد حضرنا الزمن الذي كان الناس فيه يتكلمون بالفصحى ولا يلحنون، وإذا لحن أحدهم صوب نفسه، أو حفظ ذلك عليه، ثم عشنا وسمعنا اللحن دون أن يخطأ صاحبه ولا ينبه ألحن الشخص أم لم يلحن، وهذا كله نفسي، لقد حدث انصراف عن العربية، وهذا ما ينبغي أن نبحث عن أسبابه. إن الانصراف عن العربية انصراف عن الحضارة العربية، ومنشأ ذلك هو الضعف في مقاومة السيطرة الأجنبية، وإن البون بيننا وبين القوى الأجنبية قد صار بعيدا بعدا لا نستطيع أن ندركه، فيخيل للناس أنهم إذا تفرنجوا فقد لحقوا بالركب.

  • كأن العربية صارت علامة تخلف، والوطن بالإنجليزية أصبح علامة تقدم، فإذا تحدث بعضهم بالعربية خفض من صوته، ويرفعه إن تحدث بلغة أعجمية (أجنبية).

- ينبغي أن يعلم الناس قيمة اللغة العربية، وأن يدركوا أنها حملت الحضارة والعلم والثقافة العربية طوال قرون من الزمان، ينبغي أن يزال الشك من نفوس أولئك الذين لم يعرفوا فضل العربية.

أود أن أضيف إلى هذا القول بأن كتب التراث ينبغي أن تخدم عند إعادة نشرها. أنا أتحدث مثلا عن مقدمة ابن خلدون، فقد ترجمت إلى الإنجليزية، ووضعت لها الهوامش والشروح، في حين لا تحظى بمثل هذه العناية بلغتها العربية ما عدا طبعة علي عبدالواحد وافي. أنا أقول: ينبغي لكتب التراث أن تشرح ويزال الغموض عنها حتى يستطيع الناشئة قراءتها دون عسر.

  • يمكننا أن نقول: إن هذا العسر في قراءة كتب التراث هو الذي يحول بينها وبين أن يقرأها الناشئة.

- رحم الله عبد السلام هارون، فقد أخرج كتاب الحيوان للجاحظ إخراجا ممتازاً، فشرحه ويسر أمر قراءته، ولكن كم هي الكتب التي خدمت على هذا النحو؟ لأنهم قطعوا الصلة بالماضي

  • نرى الآن عدداً من الكتاب والشعراء يناصرون حملة العداء التي يشنها دعاة الحداثة على النحو والصرف واللغة، والسبب في ذلك أنهم قطعوا الصلة بينهم وبين الماضي، فما رأيكم بهؤلاء المنادين بالحداثة؟

- أنا رأيت في اللغة العربية أنك إن زغت عنها فقد زغت عن منهج الحضارة العربية. بدأت دعوة الحداثة بعد أن جهل الناس اللغة العربية، ومن جهل شيئا عاداه، ثم وجدوا من ينطق بلسان هذه العداوة، وهذا موضوع طويل، ولكنني أود أن أقول: إن الشعر في العربية لا بد فيه من الوزن، وأنا أعني بالوزن الموسيقا والإيقاع، لأن الإيقاع هو نفسه تعبير، بغض النظر عن الألفاظ والبيان، فالشاعر يغني كما يغني الطير، وهو لذلك يعبر ببيان هو الإيقاع، ويؤلف بين الكلام وفصاحته وبين الإيقاع، وهذا يقتضي صناعة ومعها موهبة، وهذا التأليف بيت الإيقاع وبين البيات هو الذي كان يفتن الناس فيتوهمون أن مع الشاعر شيطانا، لأن فيه بلوغ غاية مذهلة، حيث يستطيع الإنسان أن ينطق بمنطق الطير، وبمنطق البشر معا، لذلك توجد في العربية على وجه الخصوص درجات في التعبير فهناك نوع من الكلام هو السجع ونيس شعرا، ويوجد الرجز، بعضه شعر وبعضه الآخر لير شعرا، ويوجد بعد ذلك الشعر بأوزانه المختلفة، فالذين تعلموا الشعر من العرب تعلموه حين غنوه أو سمعوه يغنى. وإلى وقت قريب كان الشاعر إذا أنشد قصيدة ترنم بها. وكنا نسمع شعر المديح النبوي يتغني به. وتعلم الناس الأوزان من الأنغام التي سمعوها، لكن كثيرين من أبناء الجيل المعاصر لم يسمعوا غناء الشعر، فلم يعرفوا أوزانه معرفة طبيعية، فجهلوه، ويريدون غناء ولا سبيل إلى الغناء، فيقولون أشياء يظنونها نغما وهي ليست نغما.

  • هناك مشكلة أخرى، وهي أن الطفل منذ بداية دخوله المدرسة في كثير من الأقطار العربية يدرس اللغة الإنجليزية أو الفرنسية، فيتلقى العربية والأعجمية (الأجنبية) في أن واحد. أنا أرى أن هذا يحمل مسئولية كبيرة في إفساد العربية لدى هذا الجيل الناشئ.

- هذا الكلام فيه صحة كثيرة، وهي أن اللغات يفسد تعلم بعضها تعلم البعض الآخر، ولكن في الوقت نفسه تجد كثير من الصغار يتعلمون أكثر من لغة في بلدان أحرى غير عربية، كما هو قائم الآن في بعض بلدان إفريقيا، وأرى أن الملكة البشرية واسعة، تستطيع أن تستوعب أشياء كثيرة، إذا وجدت المعلم الجيد الذي يستطيع أن يعلمها بصبر وأناة، ولكن الذي يتم الآن هو أننا ندرس صغارنا لغات أعجمية (أجنبية) في سن مبكرة وهذه اللغات مخدومة، لديها مكتبة واسعة للصغار، وهذا غير موجود للعربية، فيكون حظ الناشئ من هذه اللغات أكبر. ثم إن هناك مشكلة أخرى، تتصل بالمعلمين، فهؤلاء- في معظم بلدان العالم- يرون أن مهنة التدريس لا تدر عليهم رزقا وفيرا، ولذلك لا يلتحق بالتدريس أحد إلا بعد أن ييأس من المسالك الأخرى. لذلك هبط مستوى تدريس العربية والتدريب بها.