محمد الماغوط.. شاعر الأسئلة والحزن (شاعر العدد)
محمد الماغوط.. شاعر الأسئلة والحزن (شاعر العدد)
«سأدخن همومي وجراحي كما لو كنت في نزهة على شاطئ البحر ووراء القضبان أعقد لقصائدي شرائط وجدائل مدرسية بيضاء وأطلقها من النافذة، ثم اتابع خطوات السجان وهو يذهب ويجيء أمام زنزانتي كأنها آثار قلمي».
وفعلا فعل محمد الماغوط كل ذلك قبل أن يضع النقطة الأخيرة على السطر الأخير في قصيدته الأخيرة، ويغادرنا ساخرًا من كل شيء، عاريًا من كل شيء، وغير واثق إلا من قدرة الشعر على اجتراح معجزات لم يعد بها مكان في زمان رمادي لا يحب المعجزات ولا يحترم المؤمنين بها وحتى عبر القصيد وحده.
رحل محمد الماغوط إذًا، بعد أن كتب كثيرًا من الشعر الذي لا يشبه أي شعر آخر وبعد أن عاش حياة مزدحمة بالمعاني والمواقف والكلمات المفاجئة حتى لمن اخترعها، ربما لأنها كانت دائمًا تأتي في سياق الدهشة الشعرية القادرة على التجاوز بطاقتها الذاتية بعيدًا عن رؤى الآخرين وأفكارهم ونظرياتهم ومجلاتهم التي بشروا بواسطتها بالشعر الجديد.
كان الماغوط الذي رحل في الثالث من أبريل العام 2006 وهو مازال في أوائل سبعينياته شاعرًا قادرًا على تجاوز نفسه الشاعرة في كل كتاب جديد بل في كل قصيدة جديدة، وربما كل كلمة من كلماته التي ينتقيها بعناية وحرفية بالرغم من أنها تبدو عفوية إلى الدرجة التي قد يشك بوجودها في معجم اللغة أولئك المتشككون بكل ما هو خارج هذا المعجم.
لكن الماغوط المنشغل بمتابعة وقع خطوات السجان وهو يذهب ويجيء أمام زنزانته كأنها آثار قلمه، لا يعير انتباها لكل ذلك، بل لعلنا لا نبالغ كثيرًا إذا قلنا إنه ومنذ أن قرر أن يكون شاعرًا كان! وبهذا فلم يجد أمامه بدًا من أن يضع قلمه محورًا لكل شيء، وهدفًا لكل شيء وربما سببًا لكل شيء أيضًا. في قصائده الكثيرة ومسرحياته الساخرة وسيناريوهاته الموغلة في الحياة، حاول الماغوط أن يرسم ذاته الحزينة في ضوء القمر، مستعيدًا في كل كلمة يدونها جزئية من جزئيات الوجع المهيمن على الروح، مستفيدًا من قدرته الخرافية على استرجاع لحظات الحياة كلها، بأحداثها المهمة، ودقائقها غير المهمة، وألوانها المتناسقة والمتنافرة وأصواتها الصاخبة والهادئة، ومعانيها الضاربة في غيابات البشرية في تعميد ذلك الرسم بماء الموهبة الخالصة لوجه الشعر والإبداع والحقيقة التي ظل يبحث عنها طويلاً عبر إنتاج المزيد من الأسئلة.
لكن شاعر الأسئلة والحزن رحل، وظلت أسئلته الحقيقية دون أجوبة حقيقية، وظل الحزن الكبير عنوانًا للشاعر الذي كان يؤمن بأن الفرح ليس مهنته، ولذلك حاول تكريس ذاته للكتابة مهنة وموهبة، بداية ونهاية، قرارًا وخيارًا، فتوزعت روحه القلقة على كل محطات الكلام شعرًا ونثرًا، قصيدة ورواية ومسرحية ومسلسلاً تلفزيونيًا، وفيلمًا سينمائيًا ومقالاً وخاطرة، وقبل كل شيء وبعد كل شيء حزنًا متشظيًا بين الأسطر، وسخرية صاخبة اقترحت له أحد أهم عناوينه الإنسانية البارزة باعتباره الشاعر الساخر جدًا في جغرافيا عربية لم تعد تحتفي بالشعر، أو تعترف بالسخرية.
وُلد الماغوط في مدينة سلمية التابعة لمحافظة حماة السورية في العام 1934، وفيها بدأ رحلة التعليم الذي لم يكمله لفقر عائلته واضطراره للعمل مبكرًا. إلا أن موهبته الشعرية الدافقة لم تكن بحاجة للمدرسة، فقد تفتحت نصوصًا نثرية بدأ نشرها في بداية الخمسينيات ، قبل أن تأخذه الحياة السياسية والحزبية إلى دهاليزها ثم إلى السجن. وفي السجن تعرف إلى زميله في الزنزانة المجاورة أدونيس الذي قدمه فيما بعد إلى جماعة مجلة شعر في بيروت، وتعرف في بيته على سنية صالح شقيقة زوجة أدونيس والتي رافقت الماغوط لاحقًا في رحلة زواج انتهت بموتها ضحية لمرض السرطان. ولأن سنية كانت إحدى أجمل أيقونات قصيدة النثر العربية فقد كان لوجودها في حياته الأثر الكبير على إصراره على كتابة تلك القصيدة. وقد اعترف الماغوط أكثر من مرة بفضلها الحياتي والإبداعي عليه كما لم يفعلها شاعر عربي قبله ربما.
ولأن الماغوط لم يعد أمامه ما ينتظره أو يتذكره أو يحلم به، وفقًا لاشتراطات المرض القاسية، واقتراحات الدواء الأكثر قسوة، فقد رحل مفضلاً أن يبحث له في خضم الموت عن مهنة تليق بالشعراء بدلاً من الفرح المتأبي والحزن المستكين.
والماغوط الذي كتب كل ما روي له، وقص دفاتره على شكل زورق وأشرعة وصوار، ثم ألقاها في عباب المجهولِِ لم ينصرف إلى الصحراء بأسئلته اللحوح، فقد كان الموت واقفًا على باب غرفته ذات الجدران الملايين بانتظار رأسه الممتلئ حتى آخره بالأحلام والأمنيات.
فهل مات الماغوط فعلا؟ هل انتهت تلك الرحلة المضنية التي بدأها الشاعر الحزين مشتبكًا مع الحياة في كل تضاريسها الزائغة والحقيقية منغمسًا في ذهول الحبر، وحرقة الدمع ورهافة الشعر الجميل حيث الحرية هي اختصاصه الوحيد؟ ربما لكن ما بقي من الماغوط كثير جدًا أكثر من دواوينه، ومسرحياته ومسلسلاته، أكثر من مقالاته أكثر من كل كلماته فقد بقي فيه ما توزع في اقتراحات أجيال من الشعراء تأثروا بحزنه كما تأثروا بقصيدته وانداحوا في بحر أحلامه كما انداحوا في بحر كلماته، وحاولوا التجاوز لأنهم تعلموا منه أن التجاوز فعل أصيل من أفعال الشعر والحياة أيضًا.
ولم يكن الماغوط من أولئك الشعراء الذين لا يرون أنفسهم إلا شعراء ، بل كان يعيش حياته المقسمة في جسوم كثيرة من الشعر والمسرحيات الشعبية التي أراد بها مخاطبة وجدان المواطن البسيط أولا، والمسلسلات التلفزيونية التي قدم من خلالها دراما مختلفة عن السائد..وأخيرًا من الصحافة التي كانت عمله النمطي الثابت الأول.. والأخير.
وفي إطار كل ذلك ترك عددًا كبيرًا من المجموعات الشعرية منها: حزن في ضوء القمر، وغرفة بملايين الجدران، والفرح ليس مهنتي، وسياف الزهور والهندي الأحمر... وغيرها، ومسرحيات مثل: العصفور الأحدب، والمهرج، وضيعة تشرين وغربة، وكاسك يا وطن وغيرها، بالإضافة إلى عدد من الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية.
رحل الماغوط إذن بعد أن ساهم في جعل الحياة أكثر خفة وبساطة، وبعد أن ساهم في جعلنا أكثر قدرة على احتمالها، ولكن قبل أن يضع النقطة الأخيرة على السطر الأخير في قصيدته الأخيرة الأثيرة!.