قراءة في مجموعة طالب الرفاعي «سرقات صغيرة»
قراءة في مجموعة طالب الرفاعي «سرقات صغيرة»
مع «سرقات صغيرة» يواصل الروائي والقاص الكويتي طالب الرفاعي سعيه القصصي، محاولًا توسعة عالمه بما يضيء من زوايا وما يقترح من معالجات، لتشهد مجموعته الجديدة خطوة ينفتح معها الحقل القصصي وتتعدد مداخله، محددة مسارها على طريق قصصي لطالما أكد أهميته وهو يراود عالمًا خاصًا لا في بعده الاجتماعي وطبيعة العلاقات المؤثرة فيه فحسب، بل في مذاقه الخاص الذي شكّلت قصة طالب الرفاعي القصيرة مدخلًا حيويًا من مداخله، لا تعوزه الجرأة في النظر إلى المجتمع الخليجي والتقاط كوامنه، هذا المجتمع الذي لايزال بحاجة لمزيد من الكشف السردي إذ لا يمكن لمجتمع أن يحقق من دونه مواجهة متقدمة مع الذات ووعيًا عاليًا بها، كما لا يمكن تحقيق المواجهة والوعي بغير نص قصصي يتوافر على سمات جماليّة تؤكد خصوصيته وامتيازه وتمنحه الفرصة للنزول إلى الأعماق الخفية للتجربة الإنسانية في هذه المنطقة من العالم.
توطّد قصة طالب الرفاعي مع كل مجموعة جديدة علاقتها مع مراجعها، وتحقق أعمق اتصال ممكن مع ما تنبثق عنه وما تتطلّع للإحالة إليه، وهي، في الوقت نفسه، تمنح ما تتعامل معه من قضايا اجتماعية استقلالًا بنائيًا يؤمّن للنصوص القصصية تواشجًا وتواصلًا وارتباطًا داخل حقل الكاتب وهو يجدّد رصده لما يتشكّل من حوله من وقائع وأحداث بما يضيف في كل مرة تفصيلًا نصيًّا لرصيد النظر والمعالجة، ولعل واحدة من أهم ميزات حقل طالب الرفاعي وفاؤه لخصائص الكتابة القصصية لديه، هذه الخصائص التي ينشغل النص القصصي عبرها بمحمولاته النصية بالدرجة التي يُعنى فيها بنسيجه القصصي، فهو يتأمل مجتمعه ويضيء متغيراته بالأهمية التي يتأمل فيها خصائصه الكتابية، فليس ثمة انشغال أوضح في حقل الكاتب من انشغاله بما يحدث حوله من تحولات هيأت لحقله القصصي على امتداد عقدين من السنوات مساحة من المراقبة والالتقاط، عززت حضور بيئته المحلية التي راهن على قدرتها في تشكيل «وثيقة تحمل صدقها الفني وطزاجتها على مرّ الزمان»، مثلما أمنّت له فرصة لمراقبة كتابته القصصية وقد شكّلت مجموعاته بتنوع موضوعاتها وثراء معالجاتها نسيجًا قصصيًا متداخلًا، تنمّي كل مجموعة فيه صلتها بالمجموعات الأخرى، وتمدّ كل قصة من قصصها خيطًا من الصلة مع غيرها من قصص الكاتب، لتكون القصة القصيرة خطًا في لوحة متواشجة الخطوط، وحلقة في سلسلة متداخلة الحلقات، وخيطًا في نسيج تفضي القصة فيه إلى ما سواها، على الرغم من محدودية عالمها واكتفائها، فتنمّي نظرة داخل الحقل القصصي وتضيء جانبًا وتوطّد اتجاهًا.
وإذا كانت مجموعات الكاتب السابقة قد عنيت بجوانب مختلفة من الحياة الخليجية مثل العمالة الوافدة العربية والأجنبية، بالنظر إلى طبيعة حياتها وموقعها في المجتمع الخليجي ومعاناتها في سبيل لقمة العيش، أو استحضار موروث البيئة المحلية في الكويت، أو رصد طبيعة التحوّل الحضاري، كل ذلك معززًا بقناعة الكاتب «بوظيفة الفن الاجتماعية، وبأن يكون ضميرًا مخلصًا لأناس مطحونين بدولاب الحياة الدائر»، فإن «سرقات صغيرة» تقترح مساحة مضافة تعزز قناعة الكاتب في الوقت الذي تتطلّع للارتقاء بصياغة النص القصصي، مواصلة عنايتها اللغوية عبر أداء مختزل، بسيط التركيب، تضفي كثافته على الجملة القصصية حسًا إنسانيًا، مثلما تمنحها معاني مضافة تظل من أهم خصائص القص القصير، فضلًا عما تنتجه المجموعة من وحدة جمالية تتجلى مع عتبات الكتاب، مرورًا بعناوين القصص وجمل الاستهلال فيها، فقصص المجموعة، عامة، تكشف عالمًا محددًا في وظيفته وموقعه وتجربته الإنسانية هو عالم الجَد، بما يرصده من علاقات زمنية، مثلما تمنح الجَد فرصة للنظر إلى العالم وكشف تناقضاته، الأمر الذي يُعلنه الإهداء، عتبة الكتاب المبكرة بعد العنوان، وهو يتوجّه لأحفاد الكاتب: «لكم محبتي.. وبكم امتدادي الأحب»، ليتماهى الكاتب مع شخصيات أغلب قصصه، بوشاية من الإهداء، وهي تعالج موضوعة الجَد بما يُهيأ لها من نظر متأنٍ تستمد أهميته من طبيعة علاقتها مع «الزمان»، فلا يحيا الجد في زمن منغلق واحد ولا يعيش تجربة منفردة، إنه صورة الزمان في تعدده وتداخله وتعقيده وقد تشكلت في أهاب إنساني، تضاء من خلاله حالات إنسانية متعددة وتكشف مواقف متباينة، بما يمكننا من تأشير موضوعة الجَد بوصفها موضوعة أساسية تنتظم من خلالها مقولات المجموعة وتتواشج قصصها، لكن ذلك لا يعني بالضرورة انشغال القصص جميعها بموضوع واحد، أو انغلاقها عليه، إنما تتبين جمالية المجموعة عبر قدرتها على تنويع تعاملها مع موضوعاتها المركزية، ومن خلالها تنوّع قدرتها على النظر إلى مختلف موضوعاتها.
تمتد مجموعة «سرقات صغيرة» إلى ست عشرة قصة قصيرة كُتبت بين عامي (1999 ـ 2008)، تتوالى القصص داخل المجموعة دونما فاصل سوى عناوينها، فلم يقترح الكاتب تبويب قصصه في أقسام أو أجزاء توحّد كل مجموعة من القصص بناء على ما يجمع بينها من موضوعات، بما يوحي بأن القصص جميعها تنشغل بموضوع واحد، تُعنى كل منها بمعالجته معالجة خاصة تمنح القصة حضورها ضمن قصص المجموعة وتؤمّن لها شخصيتها، وإذا كانت موضوعة الجَد هي الموضوعة الأساسية للمجموعة، فإن القصص تنوّع منظوراتها وتعدد معالجاتها لتضيء أوسع مساحة ممكنة، بما يمكّننا من توزيع القصص بحسب انشغالاتها إلى ثلاثة أقسام تشكّل موضوعة الجَد رابطها الأساسي، هي:
- القسم الأول: مجتمع الاستهلاك.
- القسم الثاني: الرغبات المقموعة.
- القسم الثالث: ظلال الزمان.
وإذا كان الكاتب قد تعامل مع موضوع القسم الأول في أكثر من مجموعة قصصية سابقة، كاشفًا طبيعة الاستهلاك التي تهيمن على المجتمع الخليجي وتستحوذ على اهتمامات إنسانه وتوجّه حياته في ضرب من مفارقة قاسية، ليعود للتعامل معه في مجموعة «سرقات صغيرة» عبر ست قصص هي: «جناح ملكي، بالونات، فووووق، ابتسامات، المدير العام، ستائر»، فإنه مع القسمين الأخيرين يُنصت لصوت الإنسان الخفي مراقبًا هواجسه في عالم من الرغبات المقموعة والأمنيات المستحيلة التي تبقي على الدوام شيئًا ما غير مكتمل ينبض مثل جرح في دواخل الإنسان، مثلما تعبّر عن مخاوفه وهي تتجلى في لحظات الصمت والعزلة على امتداد ست قصص أخرى، هي: «ذبابة، غرفة خائفة، برواز، عطر ليمون، رمي الكلام، الكلب»، ليشكّل القسم الثالث بقصصه الأربع «سرقات صغيرة، خاتم، جدار، سالم الصغير» ذروة المجموعة وخلاصة إضافتها لحقل طالب الرفاعي القصصي وهي تلتقط ظلال الزمان على أرواحنا عبر تجليات الشيخوخة وتفصيلات حياة أناسها، فلن تعني موضوعة الجَد النزول بخطى موهنة إلى أرض الشيخوخة والاكتفاء بمراقبة العالم بعينين كليلتين، بل تختصر عبر التقاطات قصصية دقيقة ومركّزة، دورة كاملة للحياة بأفراحها الخاطفة وإشراقات عواطفها التي تومض في عوالم ذكراها سرقات الفرح الصغيرة مقابل سرقات الألم التي تقدّم عبرها قصة «سرقات صغيرة» نشيدها الخفيض بمواجهة أصعب الأسئلة وأشدها عنفًا وانغلاقا، أسئلة الموت التي تتخاطف على أرض القصة فتخطف في كل حضور لها واحدة من الشخصيات، مخلّفة هوّة عميقة في روح «ناصر» ـ الشخصية المركزية ـ وهو يستعيد أدوار الابن والأب والجد في دورة حياته الواسعة، لتبدو سرقات الموت الصغيرة علامات شاخصة على مجرى أيامنا.
تضيء جملة الاستهلال في قصة «سرقات صغيرة» مجرى القصة وتنظم مسار الوعي فيها، وهي تلخّص حالة التضاد بين الهروب من «النوم» والرغبة فيه: «عشت عمري أخاتل النوم الخبيث، لكنني في الأيام القليلة الماضية صرت أتحايل عليه كي يأخذني فيأبى»، وهي بحسب بناء الاستهلال في قصص طالب الرفاعي تشكّل جملة مركزية في بناء النص القصصي، مثلما تنتظم لحظة مؤثرة في مجرى زمنه، فما ينشأ من تقابل ضدي في قسمي الجملة سيهيمن على امتداد النص، منظمًا انتقالاته من موت إلى آخر، من المخاتلة إلى التحايل، لتُعدّ سيرة ناصر متوالية غياب أو متوالية سرقات يبدو هو شاهدها الوحيد بما يخلّفه فعل مراقبة الموت في نفسه من ألم وخوف: «من ليلتها وأنا أكره النوم الخبيث، أحاذر أن يسرقني كما سرق عمر أبي».
تنفتح قصة «سرقات صغيرة» لتلاحق سيرة ناصر من الولادة حتى ترقّب الزائر المجهول في لقطات قوامها استعادة لحظات فقدان متكررة، ناصر (الجد) يعيش عبر لحظته القصصية زمنًا متراكبًا يراقب فيه أولاده وزوجاتهم وعيالهم، مثلما يستعيد وجوه أحبة غيّبهم النوم في لجته المعتمة.
«مرارًا سألتني شريفة:
ـ لماذا تستيقظ منذ الفجر، ما الذي ينتظرك؟!
أخبرها أنني تعودت الاستيقاظ باكرًا، أخفي عنها لعبة الخوف والسرقة بيني وبين الموت. لكنها لا تقتنع».
وللوجع والوحدة نصيبهما في قصة «خاتم» التي تتمرأى فيها صورة الجدّة مع صورة الجد في القصة السابقة وهي تعيش «حسرتها على أهل غادروا، وزمان أحبة انقضى»، لتؤمّن القصة صلتها مع باقي قصص المجموعة، لاسيما قصص القسم الثالث منها، إذ تتكشف السرقة الصغيرة بعد أن يهتزَّ عالم الجدّة الرتيب جرّاء فقدان خاتمها واتهامها الخادمة بسرقته ـ بما يلتقي، على نحو ما، مع موضوع رواية إسماعيل فهد إسماعيل «بعيدًا إلى هنا» التي تكون الخادمة فيها محط اتهام باطل بسرقة مماثلة ـ تنقلب السرقة الصغيرة في قصة «خاتم»، وهي تراوغ الموت والوجع والوحدة، فالابن الذي سرق الخاتم سرقة بيضاء، بحسب تعبيره، أعاد للأم بعضًا من تعلّقها بالحياة، الحياة التي تنكسر فيها روح الخادمة وهي تلملم أغراض حقيبتها المبعثرة بحثًا عن الخاتم.
مع قصة «الجدار» تعمّق المجموعة إحساس شخصياتها بالعزلة وتوسع شعورها بالرتابة والانكسار وتكشف غربتها وهي تنتقل من الإنسان إلى ما يحيطه، فالجدار يعيش أزمة تُفتتح معها القصة بصوته الخاص: «مللت حياتي. صباحات متشابهة تجرُّ خلفها أيامًا متكرّرة، وعمر يسير إلى حتفه»، ليشكّل الاستهلال مع العنوان نسيجًا جماليًا ينفتح على لحظة التوتر والاحتدام، يُجيد الجدار مراقبة العالم معبّرًا عن شعوره بعزلته، بسكون وحدته وصمته الحجري، شعور الغربة العميق يُعبَّر عنه من خلال صوت العامل الوافد ذابل النظرة والهمّة، كدر الوجه كما لو أنه في جنازة، وهو يعيش غدر الزوجة مع مذلة الغربة وتعبها، مع صوت العامل يحقق الجدار تواصله محوّلًا إحساسه بالعزلة إلى لحظة تعاطف تمنحه بعدًا إنسانيا مؤثرًا، منتقلًا من عالمه الداخلي المقفل على ألمه الخاص إلى العالم الواسع، فلا ملاذ لكائنات الوجود وأشيائه إلا بالمشاركة الوجدانية والتواصل الإنساني: «انهمك العاملان بحفر حفرة، بقيت في حبسي أراقبهما، وأصيخ السمع لهمس العامل بمرِّ شكواه عن زوجته، لكن شيئًا من لوعته وحزنه ما لبث أن انتقل إليّ. وددت لو أبتعد بنفسي قليلًا عن الجدار المجاور».
بدخول النخلة، جارة الجدار الجديدة، إلى القصة تعيش الأخيرة تحوّلًا في إيقاعها تؤسسه طبيعة الانتقالات الزمنية، مثلما تنظمه الجملة القصصية في ميلها إلى الكثافة والاختزال، لتدوّن القصة، عبر التقاطات سريعة وتحوّلات، مسارًا زمنيًا طويلًا من العلاقة بين الجدار والنخلة، وهي توغل سنة بعد أخرى في ترفّعها وتدللها وإعراضها وصولًا للحظة الوجع التي انغرس شوك النخلة فيها خادشًا وجه الجدار. أيام ثقيلة تمرّ، وشهور عمياء من دون ذكريات تنفرط خلالها سنوات عابرة، ذلك ما يحكيه الجدار، ومن خلاله يحكي حسرته.
«ـ ما أمرّها من حياة؟!»
إنها همسة الجدار التي تتجلّى وقد تحوّلت مشاعر التحسر والألم إلى كره للوحدة والصمت والحبس والوجع وصولًا للحظة الانتفاضة والسقوط، سقوط الجدار والنخلة معًا، وقد أنجزت القصة جملتها التي تراقب فيها عمرًا يسير إلى حتفه، وأقفلت دائرتها التي يتصل الاستهلال فيها بالخاتمة، فلم تكن القصة، بهذا التصوّر، غير خطى الجدار المحسوبة لنهاية رصدتها جملة الاستهلال وأنبأت بها، وهي تنتج تمثيلها عبر أنسنة عناصر الطبيعة وكائناتها مثلما تنتجه مع الشخصية الإنسانية، فالمعنى يظل موصولًا بين المجالين الإنساني والطبيعي، يغذّي أحدهما الآخر ويمنح جملته عمقًا ووضوحًا، وذلك دأب القصص المجموعة في كتاب وهي تقترح سبلًا متعدّدة للاتصال والتعاضد في تطلّعها لإضاءة المجموعة وبلورة معانيها، فلا يمكن لقصة أن تنتج مقولتها بعيدًا عن مقولات باقي القصص، تلك حكمة الكتاب القصصي التي تؤاخي بين نصوصه في فضاء واحد، تُسهم آليات التأليف والتبويب والترتيب في تنظيم إنتاج المعنى. هل ستكون مقولة السقوط والانكسار هي مقولة القصة الفاصلة أمام مرارة الحياة وعسر علاقاتها؟
يظل مثل هذا السؤال حاضرًا، وربما تقاطع مع شعور عميق بالتعاطف ينشأ في دواخل الشخصيات الإنسانية وفي أعماق القصص، محافظًا على حضوره حتى مع نصوص القسم الأول وهي ترصد لحظات ضعف الإنسان أمام سحر السلعة وهيمنتها، فيتخذ التعاطف أشكالًا مختلفة مع الشخصية المسكونة بهوس الاستهلاك، أسيرة المظاهر الاجتماعية الجوفاء، وقد أحالتها أخلاقيات مجتمع الاستهلاك إلى ما يشبه القيم في ثباتها وقوّة حضورها، تنبثق لحظة التعاطف من تقاطع زمنين: زمن العلاقات الجديدة غير المتوازنة وهو يمضي بالإنسان بعيدًا عن ذاته، وزمن الألفة والتوادد الذي يظلل القصص على الرغم من تركيز بعض منها على طبيعة المفارقة في السلوك الإنساني.
أما في القسم الثاني الذي تعاني شخصياته جرّاء رغباتها المقموعة، فإن التعاطف يتشكّل مع الجملة الدقيقة المكثّفة وهي تلقي ما يكفي من الضوء على الملامح الإنسانية لتلمس، كأنما بريشة لا ترى، مياه الشعور التي تتموّج مع اندفاعها الأحاسيس والرغبات، وبهذا التصوّر تؤسس قصة «سالم الصغير» تقابلها مع قصة «الجدار» وهي تنشئ عناصرها الضدية مع استهلال النص القصصي، الذي يفتح أفقًا للحياة مادته ضوء الشمس في لحظة إشراقه: «ضوء الشمس في الخارج بدأ يفرش السماء بالنور»، لتكتمل جملة الافتتاح بجملة إخبار تجيب عن طبيعة الجملة الأولى وسر انبثاق الضوء فيها: «اليوم عيد ميلاد أبو بدر».
تنتمي القصة منذ البدء إلى مناسبة عيد الميلاد بما تعنيه من استمرار وتجدد وما تعلنه من فرح بالحياة واحتفاء بعناصرها، على الرغم من موقف «أبو بدر» الذي يأوي إلى صمته وكتبه وطقوسه اليومية بعيدًا عن المناسبة ومعانيها، الأمر الذي ينتج مستوى من العلاقة لا يخلو من الخوف والتوتر مع زوجته التي تنهض بمهمة رواية القصة:
«حين ألومه على طول سهره، يسكت لثوان، قبل أن تلتقي نظراتنا، فيبثني وبعض أسى يلفّ كلماته:
ـ سأنام كثيرًا.
تخيفني جملته، ترشُّ الحزن على قلبي، يملأ الدمع عينيَّ، أبعد البكاء خوف أن يكون فأل سوء، وأسكت لا أعرف كيف أردّ.
في كل سنة نختلف يوم عيد ميلاده، يكره هو المناسبة، لا يود أن يذكّره أحد بها، ويتضايق من أي احتفال».
تحرّك الزوجة القصة بما يضيء مشاعرها ويكشف حسرتها جرّاء أمانيّ غير متحققة، تعيش زمن اختبارها الأخير مع الدخول الفاعل للطفولة، فلن يغير موقف الجد الرافض غير فرح الأحفاد وانتمائهم الخالص للحياة، ليبدو الرفض، مع ختام القصة وتبدّل إيقاعها، قبولًا، مثلما يتحوّل الانقطاع استمرارًا وتواصلًا مع صوت «أبو بدر» وهو يعبّر عن لحظات الفرح بوصفها أجمل ما في الحياة.
تأمل العلاقات الإنسانية في لحظات خاصة، حميمة واستثنائية، هو أهم ما تقدمه سرقات طالب الرفاعي الصغيرة وهي تقترح تقابلاتها النصيّة وتعيش تعاضدها بما لا يتوقف عند القسم الثالث «ظلال الزمان»، على الرغم من مركزية قصصه داخل المجموعة، بل تتواشج القصص خارج القسم كما في قصتي «جناح مكي» و«ستائر» وهما لا تكتفيان بمعالجة ثيمة متقاربة يُترك المريضُ فيها، الجد في القصة الأولى والزوجة في القصة الثانية، لتنشغل العائلة بمناسبة دخول المستشفى أو إجراء العملية كأنها فرصة فرح واحتفال.
«ـ منذ أكثر من ساعتين ونحن نبحث في محلات الشوكولاتة.
قالت سعاد تخاطبني، وأضافت:
ـ حاولنا اختيار أفضل الأنواع لتقديمها لزوار بابا».
في لجة الاحتفال يضيع صوت الأب ويتبدد ألمه في سؤال لم يعد يسمعه أحد:
«لماذا يكبر الإنسان ويهرم؟».
السؤال الذي ينبض في قاع المجموعة ويصعد بصمت وهدوء مرتسمًا في فضاءات قصصها، لتوسع القصة حقل اشتغالها وهي تقدّم نسيجًا مركّبًا يؤمّن لموضوعاته تعددًا ولطبقاته تواصلًا وتعاضدًا، وهي تسعى لأداء الدور الذي اقترحه المؤلف وعمل منذ أولى قصة القصيرة على تحقيقه، حيث تكون الكتابة حيلة الكاتب الوحيدة في إدراك طبيعة العلاقة بين الحلم والحياة، مثلما تكون وسيلته للوصول عبر سحر القصة وتلميحها المقتصد إلى ضفة جديدة من الإدراك وهو يكتب «حياة فنية متمناة»، يعيش خلالها «كتابة الحياة، وحياة الكتابة».
-----------------------------
* ناقد من العراق.
-------------------------------------
وأنا طريح الفراش بين السيوف والرماح المبعثرة
فلسطين أريد شهدائي
إسرائيل أريد حطامي
أيتها الشواطئ أريد مرساتي
أيتها الصحراء أريد سرابي
أيتها الغابات أريد طيوري
أيها الصقيع أريد جدراني
أيها الشتاء أريد سعالي
أيتها العتبات أريد جدتي
أيتها العواصف أريد أشرعتي
أيها المطربون أريد تصفيقي
أيتها المراجيح أريد أعيادي
يا ملكات الجمال أريد تنهداتي وشهقاتي
محمد الماغوط
لؤي حمزة عباس*