محنة الاحتلال وعذابات الطفولة

من دفتر الذكريات

"الحياة مجموعة من الخبرات المتنوعة، وليس بالضرورة أن تتشابه وتتكرر، إنما كثير من الخبرات منفردة تضيف معنى جديدا للحياة، وتعطيها لذة التراكم، وقد اختارت "العربي" مجموعة من المتميزين العرب ليروي كل بطريقته الخاصة بعضا من ذكرياته التي أصبحت دروسا في الحياة".

"رغب إليَّ الدكتور محمد الرميحي - رئيس تحرير مجلة العربي - أن أكتب حديثاً في باب (من دفتر الذكريات) وهو باب ظريف حقاً يستعرض كاتبه فيه إحدى الذكريات النادرة التي طافت بحياته، يقرؤها القارئ فيجد فيها راحة وعبرة، لأنها قصص واقعية خالية من التهويل أو المبالغة.

ولقد اجتهدت في أن يكون حديثي هذا من النوع الذي أشرت إليه. وأرجو أن أكون قد وفقت لما قصدت إليه، غير أنني أستميح القارئ إذا كان في حديثي ما يسبب له ألماً أو إزعاجاً. وأعتقد أن عذري سيكون مقبولاً لدى القراء. فإن الرزء الذي حل بنا ليس رزءا كويتياً، وإنما هو رزء عربي إسلامي أحدث جرحاً غائراً، أعتقد أنه لن يندمل إلا إذا حدث تغيير في كثير من الأمور لدى زعماء العرب والمسلمين.

وسيكون ما أقص على القارئ معتمداً على ما وقفت عليه بنفسي.

أجلس الوالد طفله في حجره، وأخذ يتأمل شعر طفله فوجده قد طال. وكان الذهاب في تلك الأيام العجاف - إلى الحلاق - لا يخلو من مغامرة، لأن المرور على نقاط التفتيش يضطرك إلى الوقوف أمام أناس لا خلاق لهم. إذ قد يخطر ببالهم مصادرة السيارة، فليس يوجد شيء يمنعهم عن ذلك. فرأى الوالد أن يتحاشى كل هذا الإزعاج بأن يقوم بحق رأس ابنه. وكان أكثرنا في تلك الأيام لا يذهب إلى الحلاق، ولكن يحلق رأسه عند أحد أقاربه تحاشياً من أولئك الوحوش. ولا تسأل عن الشكل الذي يكون عليه الرأس، فإن للحلاقة قواعد يعرفها المختصون بها.

وعلى كل حال فإن الرجل قام بحلق رأس ابنه، ويبدو أن رأس الطفل أصبح مشوهاً ككل شيء في تلك الأيام. واتفق أن احتاج الأب المسكين إلى أن يأخذ ابنه معه في السيارة لشراء بعض ما يحتاج إليه، لأن وجود الأطفال مع ذويهم ربما يستدر عطف الجنود ويمنع الأذى عنهم في بعض الأوقات.

وحين مرّ بنقطة تفتيش (السيطرة كما يسمونها) أوقفه الجندي، وبعد أن انتهى من تدقيق أوراقه الشخصية سأله: لماذا لم تصلح شعر الطفل كما ينبغي؟!

أجابه المسكين بكل صدق: هذا مقدار ما أستطيع أن أفعله، ولقد قمت بحلق رأس ابني، وهذا مقدار معرفتي. قال له الجندي: هذا ليس ابنك؟! ولابدّ أن تذهب إلى المخفر. فكان أن امتثل الوالد للأمر. واستغرق التحقيق مع الوالد ثلاثة أيام. ولا تسأل عما حدث لأبي الطفل وأمه من رعب في تلك الأيام الثلاثة. ولم يخلصا ابنهما إلا بعد أن دفعا الرشوة التي كلفتهما غالياً.

وأود أن يلتفت القارئ إلى أن مثل هذا الحدث لا يقتصر تأثيره على الأبوين وأقاربهما، وإنما يشيع في الحي كله، بل لعله يشيع في كثير من الأحياء. إذ إن هذه الممارسة وغيرها تحدث في نفوس المرابطين في الكويت في تلك الأيام آثاراً تختلف حسب كل نفس من حيث قوتها أو ضعفها، منهم من يتميز غضباً يدفعه إلى المقاومة قدر استطاعته وفي مجاله، ومنهم من ينكفئ في منزله مكتفياً بالتضرع إلى الله بأن يكشف هذا الكرب عن هذا الشعب الذي يسعى دائما إلى الخير.

ومأساة أخرى رأيت أن أختارها من بين مآسٍ كثيرة لاعتقادي أنها ترسم صورة عن الحالة في تلك الشهور العجاف.

استيقظنا بعد منتصف ذات ليلة إثر صراخ مفجع. وحين وصلنا إلى مكان الفجيعة وجدنا لفيفا من الأجناد قد تناثروا حول بيت جار لنا، وبعضهم صعد على السطح وبعضهم متمركز قرب البيت، في حين أن البعض قد تسلق المنزل مفتشاً، لم نلبث إلا هنيهة حتى وجدنا طفلاً يبلغ الحادية عشرة قد اقتاده أحد الأجناد يتبعه والده، دون أن يستطيع أحد حتى أن يسأل عن سبب هذا الترويع. وبعد أن دفع أهله الرشوة المطلوبة أطلق سراح طفلهم بعد يومين، ثم علمنا فيما بعد أن أحد الوشاة أبلغ المخابرات العراقية أن هذا الطفل تحدث بما لا يليق عن رئيس النظام العراقي، وما أكثر المآسي التي تشبه ما ذكرت.

وأعتقد أن فيما أوردته كفاية تؤكد للذين يرتابون في صدق ما نشر من كتب تذكر ما حدث في تلك الأيام.

على أني أقصد من وراء ما تحدثت به أن نندفع جميعاً إلى البناء وألا نفتح الطريق للإحباط، فإن كل شعب لا يستحق أن تطلق عليه صفة الحياة والقوة إلا إذا مرّت به الشدائد واستطاع أن يرتفع على جراحه بحيث يصبح همه أن يصنع تاريخه من جديد.

على أن هناك أمراً أعتقد أنه عنصر مهم في إشاعة الأمل والعمل، وأعني به فسح المجال لكل من يريد العمل. وهذا لا يكون إلا إذا ابتعدنا عن الأهواء حاكمين ومحكومين.

وإني لآمل صادقا ألا ننشر أي إغراء لشبابنا بالعمل إلا إذا كنا نعني ما نقول.