رحلة أندلسية فوق تقاطعات الزمن: إبراهيم المليفي

رحلة أندلسية فوق تقاطعات الزمن: إبراهيم المليفي

عدسة: حسين لاري

في المسارات الأندلسية تتراكم خيارات الشغوفين بما تبقى من الأزمان الغابرة فوق أماكن محددة، ثابتة، جامع قرطبة الفسيح وقصور الحمراء الفاتنة ومئذنة الخيرالدا بإشبيلية، لا يأبهون بالروائع الأخرى التي لا تقل أهميتها عنها ولا يذكرون أن البرتغال كما إسبانيا حاضنة أخرى لآثار الحضارة العربية والإسلامية في الأندلس. من هنا أتت الفكرة وهي الخروج عن المألوف في تناول تاريخ الأندلس من خلال تلمس مواطن جديدة في حاضرها وتنفيذ رحلة تبدأ من جبل طارق في أقصى جنوب إسبانيا حتى شمال العاصمة البرتغالية لشبونة، أو المنطقة الغربية للأندلس كما تسمى فيما مضى، نستطلع أهم المدن والبلدات الواقعة في طريقنا وكل ذلك في نسيج واحد عن بلدين وحكاية واحدة. والآن نبدأ، البحر من ورائنا وغرب الأندلس هو نهاية وجهتنا.

الاتجاه غربًا

المخطط الأساسي للرحلة الإسبانية البرتغالية كان طموحًا جدًا وواضحًا بشكل جلي، وملخصه هو السير على خطى القائد عبدالعزيز بن موسى وهو من أشهر قادة الفتح الإسلامي في الأندلس، وأول وال تولى زمام أمورها بعد ذهاب والده موسى بن نصير ومعه طارق بن زياد إلى دمشق.

لماذا عبدالعزيز؟ هذا سؤال يطرح نفسه بإلحاح، وجوابه هو أن عبدالعزيز بن موسى هو أول قائد عسكري يدخل الأراضي التي تعرف اليوم بالبرتغال، وهي الدولة التي نشأت في أعقاب حالة الضعف التي أصابت دولة الموحدين في نصفها الأندلسي.

وقد واجه هذا المخطط عقبات أساسية هي المدة الزمنية، وتضارب المصادر التاريخية في تحديد نقاط مسير ابن موسى، أما من حيث المدة فهذه الرحلة تحتاج إلى مدة لا تقل عن شهر كي تنفذ بشكل صحيح، وما هو متاح لا يزيد على الأسبوع، أما خط سير عبدالعزيز بن موسى فهناك مصادر تذكر أنه انطلق من إشبيلية بعد أن ساهم في إخماد الثورة التي اشتعلت فيها، بعد مغادرة والده إلى طليطلة وأكمل صوب باجة ويابرة وأشبونة وشنترين وأخيرا قلمرية، ومصادر أخرى تضيف لبلة وشلب، وتحذف بعض المناطق في خط المسير الأول، والحل كان بالتركيز على المناطق التي اتفقت عليها أغلب المصادر مع استبعاد قلمرية لبعدها وإضافة مناطق أخرى مهمة مثل بطليوس لوقوعها في خط سير رحلتنا. بناء على ما سبق نستطيع القول إننا وصديقنا المصور سرنا على خطى ابن موسى بعض الوقت وعلى خطى رغبتنا بالاتجاه غربا البعض الآخر.

جبل طارق

من عند جبل طارق أطلقنا شارة البدء وانطلقنا، تلك هي بوابة الدخول وبوابة الخروج التاريخية لجيوش الفاتحين وفلول الخائبين، كأننا اجتزنا بحر الزقاق قادمين من عدوة المغرب، نسائم المكان محملة بقطرات البحر المالح، التي نشطت ذاكرتي لأسترجع ملامح البر الإسباني الضبابية من فوق أحد جبال طنجة منتصف التسعينيات من القرن الماضي، وهي ترى بالعين المجردة متى ما صفا الجو قليلا.

كان لافتًا منظر طابور السيارات المتجهة صوب جبل طارق وهي تنتظر دورها أمام نقطة التفتيش وجوازات السفر والعلم البريطاني يرفرف فوقها، حقيقة لم أستطع منع نفسي من التعليق «هذه أرض إسبانية ملتصقة بأمها، قطفها الإنجليز منهم كما قطف الإسبان أرضي سبته ومليله من أمهما المغرب.. كما تدين تدان».

عدتنا أنا ورفيقي المصور تتكون من سيارة صغيرة تتحرك فوق الطرق المعبدة والترابية أحيانًا، وحقيبتين صغيرتين خفيفتي الحجم لزوم الحركة السريعة، ومرشدنا خريطة تفصيلية ودفتر متوسط الحجم به تدوينات مهمة لأسماء المناطق باللغتين الإسبانية والبرتغالية وجهاز ملاحة عصري يعطينا الاتجاهات صوتا وصورة، كانت الوجهة الأولى لنا إشبيلية.

نزول طارق بن زياد لأرض الأندلس في مايو 711م، كان بالقرب من الصخرة التي أخذت اسمه وكان ما كان بعدها من معارك وفتوحات حتى نجح في هزيمة ملك القوط «لذريق»، واستقراره في طليطلة عاصمة القوط، وفي العام التالي لحق بطارق والي المغرب وقائده المباشر موسى بن نصير الذي سلك طريقا مختلفا وافتتح مناطق جديدة مهمة مثل إشبيلية وماردة، حتى التقيا في قلب الأندلس مدينة طليطلة، وبقيا فيها فترة من الزمن، ثم واصلا معا الطريق وافتتحا سرقطسة ولاردة وغيرهما.

إشبيلية

تركنا جبل طارق خلفنا وسرنا في الطريق السريع، كانت اللوحات الإرشادية مليئة بأسماء المدن الرئيسية والصغيرة، مربيلا وملقة وقرطبة وشذونة وغرناطة، ثم انحسرت لتصبح غرناطة وإشبيلية وقرطبة والمرية، وأخيرًا تقلصت لتصبح إشبيلية وقادس وهويلفا، كنا نتبع (سيفيليا) أو إشبيلية حتى بلغناها بعد خمس ساعات أو أكثر.

دخلنا إشبيلية مع مغيب الشمس وتعللنا من هوائها وتنسمنا روائح بساتينها الفواحة حتى حضرني قول الشاعر ابن سفر المريني في مديح الأندلس:

وللهواء بها لطف يرق به
من لا يرق، وتبدو منه أهواء

ولمحنا بريق جمالها الذي اتشح بسواد الليل مع ابتسامة خجلى، جمال إشبيلية وحسنها لا ينقضهما غير حرارة مناخها المختلف عن بقية المناطق التي مررنا بها، كان هدفنا الرئيسي هو العثور على مكان للمبيت بالقرب من الخيرالدا أو المئذنة السامقة التي شيدها الخليفة الموحدي أبو يعقوب يوسف، وبعد ساعة كاملة من البحث وجدنا ما نريده وكان مكانًا وسيطًا بين نهر الوادي الكبير، والموقع الأثري المهم في إشبيلية وهو الخيرالدا وقصر الملك فيليب الذي بني على أنقاض قصر ملك إشبيلية المعتمد بن عباد.

اتخذ عبدالعزيز بن موسى من إشبيلية عاصمة للأندلس في بداية عهدها الإسلامي، نظرا لقرب موقعها من المغرب وسهولة وصول النجدات إليها وقت الحاجة، وظلت هكذا لمدة أربع سنوات، حتى نقلت إلى قرطبة، وظلت هناك ردحا من الزمان، وقبل نهاية الحكم الأموي الذي بسط نفوذه على كل أجزاء الأندلس لفترات طويلة، نقل الخليفة عبدالرحمن الثالث الملقب بالناصر العاصمة إلى مدينة الزهراء.

وعندما استأثر الحاجب المنصور بالحكم دون الخليفة الأموي هشام المؤيد ابتنى لنفسه مدينة جديدة أسماها الزاهرة، وبعد انهيار الدولة الأموية وبدء عصر ملوك الطوائف ازدهرت إشبيلية في عهد ملوك بني عباد الذين جعلوا منها مدينة للفنون والآداب والفلسفة والعمارة والشعر والمجون أيضا، وعندما بسط المرابطون والموحدون نفوذهم على ما تبقى من أجزاء الأندلس الإسلامية جعلوا من إشبيلية عاصمة لهم.

قبل أن أفتح باب السيارة للذهاب إلى برج الخيرالدا، شعرت بأنني دست على شيء لين وفعلاً وجدت أني سحقت حبة برتقال متوسطة الحجم، نزلت لحملها برفق فأبصرت المكان من حولي مليئًا بحبات البرتقال ما بين مكتمل ومسحوق، تأففت وأنا أحمل ما قدرت عليه لوضعه في حاوية القمامة من هدر الناس لنعم الله، وقلت ألا يكفيهم ما يفعلونه في مهرجان «توماتينا» في فالانسيا وهو مهرجان يتراشق في سكان تلك المدينة بحبات الطماطم في آخر أربعاء من شهر أغسطس كل عام.

نسيت موضوع البرتقال مؤقتا وذهبنا على عجل إلى ساحة مئذنة المسجد الجامع أو الخيرالدا كما يسمونها هناك وتعني «الدوارة»، وهي الجزء الوحيد المتبقي من جامع إشبيلية الذي هدم وحول إلى كاتدرائية هي الثانية في العالم بعد كنيسة القديس بطرس بروما، وقد بنى الجامع الخليفة الموحدي أبو يعقوب يوسف عام 1172م ويبلغ ارتفاع المئذنة 96 مترا وتتكون من سبعة طوابق ويستطيع الفارس الصعود لأعلاها بحصانه.

بالقرب من الخيرالدا يقع «الكاثار» ولو تذوقنا هذه الكلمة ببطء لوجدنا أنها قريبة النطق من «القصر»، بني هذا القصر على أنقاض قصر المعتمد بن عباد، وللوهلة الأولى يظن الناظر لهذا القصر أنه بني في عهد الملوك العرب لتأثره الشديد بالطراز الأندلسي، ولكن في الحقيقة بني من قبل أحد الملوك المسيحيين. قبل أن نغادر إشبيلية ذهبنا لإلقاء نظرة على نهر الوادي الكبير وبرج الذهب الذي لايزال محافظا على هيئته العربية الإسلامية، وكان يستعمل لأغراض الحراسة لأي تحركات مريبة تحصل على النهر.

لقد تذكرت قصة البرتقال مجددًا لأني وجدت العشرات من الحبات متساقطة طوال طريقي نحو الخيرالدا، وعندما سألت وجدت أن الأشجار المزروعة من حولنا هي أشجار البرتقال البري، وغالًبا هو لا يستعمل للاستهلاك الآدمي.

ماردة - بطليوس

طريقنا إلى بطليوس مر عبر محطة ماردة أو (ميريدا) والمنطقتان داخل الأراضي الإسبانية، ماردة مدينة صغيرة هادئة تقع على نهر (آنه) لم نجد فيها من الآثار الإسلامية غير تحصينات عسكرية ضخمة، شيدت في عهد الأمير الأموي عبدالرحمن الثاني الأوسط (822- 852)، الذي ثارت ماردة عليه عدة مرات ما اضطره للخروج إليها بنفسه لإخضاعها على رأس حملة عسكرية انتهت بإعلان سكان ماردة الطاعة للأمير الأموي. وبعد رحلة قصيرة وصلنا إلى مدينة بطليوس أو (بيداخوث) كما تنطق بالإسبانية.

أبرز ما يذكر في سيرة تلك المدينة أنها من المدن التي أسسها المسلمون، ولم يكن لها وجود من قبل، وقصتها غريبة بعض الشيء، وهي أن من أسسها هو عبدالرحمن بن مروان الملقب بالجيليقي, وهو من أسرة مسيحية اعتنقت الإسلام، وكان جده واليًا على ماردة التي سبق ذكرها، وقد غلبت على الجيليقي أطباع التمرد على السلطة المركزية بالرغم من أنه قرب منها وحاز ثقتها، وقد نجح في مواجهة أمراء قرطبة الأمويين خاصة في الفترات التي تراخت فيها قبضتهم، وتمكن من عقد اتفاق معهم يخوله حكم بطليوس هو وأبناؤه في منطقة محددة على الضفة اليسرى من نهر «آنه»، وتمكن الخليفة القوي عبدالرحمن الثالث من انتزاع بطليوس من يد حفيد الجيليقي وردها تحت لواء السلطة المركزية في قرطبة.

ذاع صيت بطليوس في عهد بنو الأفطس إبان فترة ملوك الطوائف، كمدينة ترى العلم والعلماء في شتى المجالات، وعندما اشتد ضغط ملك قشتالة الطموح ألفونسو السادس على الممالك الأندلسية المتناحرة ونجح في ضم طليطلة لمملكته كان عمر المتوكل بن الأفطس من جملة الملوك المسلمين الذين دعوا أمير المسلمين يوسف بن تاشفين لدخول الأندلس وإنجادها من الملك المسيحي، واشتهرت بطليوس كذلك بأن سهل الزلاقة الذي وقعت فيه المعركة الشهيرة بين جيش ملك قشتالة وجيش المرابطين ومعهم الجيش الأندلسي يقع في أرض بطليوس.

تعتبر قصبة بطليوس من أكبر القصبات في إسبانيا من حيث المساحة والروعة في البناء والعمارة، وقد بنيت على مرحلتين، الأولى على يد مؤسسها عبدالرحمن بن مروان الجيليقي، أما المرحلة الثانية وهي الأكبر من حيث التوسع والامتداد فكانت على يد الموحدين بعد أن تحولت بطليوس إلى مدينة ثغرية لصد هجمات ممالك الشمال المسيحية.

كانت بيداخوث أو بطليوس هي محطتنا الأخيرة على الأراضي الإسبانية، انتقلنا بعدها متوجهين صوب العاصمة البرتغالية لشبونة أو أشبونة كما سماها مسلمو الأندلس، إن الانتقال من بلد إلى بلد داخل الاتحاد الأوربي ليس بالأمر الذي يذكر ولكنه بالنسبة لنا له نكهة خاصة كوني أحلم بالتنقل يوما بين الدول العربية دون مراكز حدودية وجوازات سفر. لقد سبق لي أن انتقلت على سبيل التجربة من الألزاس شمال فرنسا إلى قرية حدودية جنوب ألمانيا ولم أجد غير علم مرسوم على حائط عرفت منه أني دخلت الأراضي الألمانية، ولكن الطريق من بيداخوث الإسبانية إلى البرتغال خلا تماما من أي إشارات (سيادية) ولم نكتشف أننا دخلنا بلدا جديدا إلا من هواتفنا المحمولة التي ظهر فيها ما يرمز للبرتغال.

أشبونة.. لشبونة

لشبونة عاصمة البرتغال اليوم، هي واحدة من المدن التي دخلت تحت الحكم الإسلامي منذ أيام الفتح الأولى، وقد ذكرت العديد من المصادر أن من فتحها هو عبدالعزيز بن موسى، ومصادر أخرى تؤكد أن من افتتحها هو والده موسى بن نصير، إلا أنه من المرجح أن عبدالعزيز بن موسى هو الأقرب لذلك الفتح، لأن خط سيره هو الأقرب لتلك المنطقة من أبيه.

وصلنا إلى لشبونة التي تعتبر من أكبر المدن في غرب الأندلس في العصور الوسطى، ودخلنا إلى القسم القديم منها الذي يسمى الفامه أو الفاما، ذلك الاسم تم تحويره من الحامه والذي يرمز لكثرة العيون الساخنة والحمامات العربية التي أنشئت في تلك المنطقة.

لم تكن لشبونة في الأجزاء التي تجولنا فيها مختلفة عن بقية المدن الإسبانية من حيث الطابع المعماري، إلا أنه نظرا لكونها عاصمة البلاد فقد اختلفت في خليطها البشري الذي رأيناه، خاصة الوجود الإفريقي أو الإفريقي القادم من دول المستعمرات البرتغالية عندما اقتسمت لشبونة ومدريد العالم بعد تنافسهما على الرحلات الاستكشافية ومنها رحلة فاسكو دي جاما الذي انطلق من منطقة بيلم التي وصل فيها لرأس الرجاء الصالح، إن هذا الخليط البشري أضاف لمحة للماضي الاستعماري للبرتغال.

وتعج الفاما بالشوارع الضيقة المرصوفة بالحجر والبيوت الملونة التي ينشر سكانها غسيلهم على شرفاتها، كما تتميز لشبونة بكثافة الأشجار فوق شوارعها، وقد مشينا خلال النهار لمسافات طويلة لم نشعر فيها بحرارة الشمس لشدة تشابك أغصان الشجر وأوراقها الكثيفة، وتحت تلك الأشجار صادفنا ما يؤشر إلى الحالة الاقتصادية التي وصلت إليها البلاد من خلال من افترشوا الأرض وناموا في العراء على الأرض والكراسي المخصصة للاستراحة، كما لاحظنا وجود مجموعة من المعتصمين في إحدى الساحات الرئيسية وهم يجلسون في حلقات ومن حولهم عربات جمعت فيها ملابس وأحذية وأشياء أخرى ثمينة.

لشبونة وهجوم النورمانديين

شهدت لشبونة أول هجوم للنورمان أو الفايكنغ وهم خليط من شعوب أسكندنافيا الدانمارك والنرويج والسويد قاموا بغزو واستيطان عدة مناطق في أوربا ومن بينها شبه الجزيرة الآيبيرية، وقد أخذوا الإقليم الشمالي من فرنسا وهو النورماندي المشتق من اسمهم بعد أن تنازل لهم عنه الملك شارل الثالث ، ويتبع النورمان أسلوب الهجوم المباغت بسفن صغيرة وسريعة تتسلل من مصبات الأنهار حتى تصل إلى أعماق المدن وتبدأ الهجوم والقيام بأعمال السلب والنهب والتخريب.

هجوم النورمان على الأندلس لم يكن الأول ولكنهم في الفترة التي حكمها المسلمون أغاروا للمرة الأولى في عهد الأمير الحكم بن هشام بن عبدالرحمن الداخل، والغارة الثانية وقعت في عهد ابنه الأمير عبدالرحمن الأوسط وكانت على مدينة لشبونة كما ذكرنا، وكرروها في عدة مناطق من الأندلس فبعد إشبونة قادس وإشبيلية حتى وصلوا لقرطبة على الخيول ، ولكنهم سرعان ما عادوا أدراجهم لأن هدف الأساسي هو الغنائم، ومن الآثار الباقية في إشبيلية برج الذهب المطل على نهر الوادي الكبير الذي بني خصيصا لأعمال المراقبة المستمرة، تحسبا لأي هجوم من النورمان أو غيرهم.

لم تكن قرطبة مستعدة لمثل ذلك النوع من الخطر على الأراضي الأندلسية، وهذا ما دفع الأمير عبدالرحمن لأخذ الاحتياطات اللازمة لمواجهة النورمان من البداية وأمر ببناء الدفاعات وأبراج المراقبة وإقامة سور حول إشبيلية لحمايتها وتأسيس قوة بحرية لتحقيق ذلك الهدف، الذي تطور ليصبح أسطولا بحريا كبيرا وفر لشبه الجزيرة الحماية والفاعلية لإنجاد أي مدينة ساحلية تتعرض للهجوم من أي جهة. وقد حاول النورمان مجددا غزو إشبيلية ولكنهم هذه المرة تكبدوا خسائر غير متوقعة جعلتهم يتحاشون الاقتراب من الأراضي الأندلسية لفترة طويلة.

ولا يمكن لمن يتجول في منطقة الفاما الا يرى أسوار القلعة المطلة على لشبونة وهي المكان الحصين التي شيدت أيام المسلمين لحماية المدينة من الخطر، وهي اليوم تحمل اسم قلعة سان جورج ، ومثل هذا الموقع التاريخي والأثري لا يقل أهمية عن بقية الآثار المرتبطة بحقبة التاريخ العربي والإسلامي في الأندلس.

شنترين.. ذكرى حزينة للموحدين

لا توحي شنترين أو (سنتريم) بالكثير من الأهمية عندما اقتربنا منها، فهي بلدة صغيرة تتناثر مساكنها فوق سلسلة جبلية قزمة، تطل على نهر تاجه وهي جغرافيا تقع شمال غرب العاصمة لشبونة.

شنترين واسمها القوطي القديم سانتا إيرينه، اسمها اليوم سنتريم وقد نطقها المسلمون شنترين لقرون حتى دخلت في حوزة مملكة البرتغال، وسقطت شنترين ضمن سلسلة المدن والبلدات التي فتحها القائد عبدالعزيز بن موسى، وقد عاشت عصرها الذهبي في عهد دولة بني الأفطس الذين اتخذوا منها مقرًا لحكامها، وقد زاد عليها عبء مواجهة الممالك المسيحية الشمالية، وكان ألفونسو السادس ينوي الاستيلاء على بطليوس ونجح في أخذ شنترين وأشبونة وقورية إلا أنه توقف بسبب الزلاقة.

وهنا نلحظ أن مملكة بطليوس انقسمت مناطقها بين إسبانيا والبرتغال، فمثلا نجد الزلاقة وبطليوس تقعان في الأراضي الإسبانية, أما مقر ملوكها فيقع في شنترين البرتغالية، وبسبب حالة الارتباك والفراغ الذي خلفه غياب المرابطين عن الأندلس، نشأت مملكة البرتغال المسيحية في غرب الأندلس لتلعب الدور نفسه الذي لعبته مملكة قشتالة ضد المناطق شرق ووسط الأندلس.

لقد كانت شنترين في يوم من الأيام مسرحا لفجيعة عسكرية للجيوش الموحدية في الأندلس، فبعد أن تحولت شنترين إلى قاعدة هجوم القوات البرتغالية على المناطق الغربية التي مازالت تحت سيطرة المسلمين، وقد قرر الخليفة أبو يعقوب يوسف الدعوة لحملة عسكرية ضد مملكة البرتغال، ونجح في حشد جيش بلغ قوامه مائتي ألف جندي من العرب والبربر.

واختيرت مدينة شنترين هدفًا للهجوم البري كونها أكثر القواعد البرتغالية إزعاجًا للحدود الشمالية، كما خطط لحصار بحري مواز يضرب على مدينة أشبونة (لشبونة) حتى تسقط وتسقط معها مملكة البرتغال بأكملها.

وحدث الاشتباك بين الجيش الموحدي والقوات البرتغالية التي تحصنت خلف أسوار شنترين واستمر ذلك لعدة أيام حتى لاحت بوادر النصر للمسلمين ووقع ما لم يكن بالحسبان، فقد صدر أمر من أبويوسف يعقوب لقواد جيشه فيهُم على نحو خاطئ وبدلا من إعادة تمركز القوات حول شنترين انسحب جيش الموحدين طوال الليل وخيمة القائد في موقعها لم تتزحزح، وفي الصباح وجد الخليفة نفسه وحيدًا إلا من نفر قليل من جنوده، وهو ما جعله هدفا سهلا للقوات البرتغالية التي انهمرت عليه من بوابات شنترين، وقد قاتل أبو يعقوب هو ومن معه قتال الميت حتى أصيب بطعنة قاتلة وتمكن من الفرار، مات على إثرها بعد أيام، هذه الخسارة ثبتت الوجود البرتغالي وفرضت واقعًا جديدًا لم يكن بالحسبان لولا تلك المعركة الحزينة.

وفي عهد ملوك الطوائف كانت لشبونة من ضمن المناطق التي بسط بنو الأفطس سيطرتهم عليها، وفي أواخر أيام المرابطين في الأندلس سقطت هذه المدينة في أيدي ملك البرتغال ألفونسو هنريكيه عام 1147م منذ ذلك الوقت وحتى يومنا الحاضر، ولشبونة المطلة على المحيط الأطلسي مدينة شديدة التحصين خاصة بعد هجوم النورمانديين عليها في عهد الأمير عبدالرحمن الثاني (الأوسط).

رحلة تتبعها رحلات

ونحن نغادر شنترين عاد بنا شريط ذكريات هذه الرحلة الطويلة لنتذكر أن تاريخ الأندلس ليس فقط إسبانيا بل يشمل البرتغال أيضا، وحتى ذلك التاريخ في قسمه الاسباني لا يختزل في قرطبة وغرناطة وإشبيلية، فهنا توجد مناطق أخرى يمكن زيارتها مثل طليطلة وبطليوس وروندة ومورسية وبلنسية وسرقسطة وغيرها، وشخصيا لا أجد في قصور الحمراء بغرناطة رغم رفعتها العمرانية غير تذكار لمرحلة هوان الهوان والضعف المضاعف للحكم الإسلامي في غرناطة التي تركت لتعيش كي تكون الخيار الأول والأخير للنازحين من القواعد الإسلامية التي سقطت الواحدة تلو الأخرى.

لقد انتهت هذه الرحلة لتبدأ في قادم الأيام رحلات أخرى لمناطق أندلسية لم تأخذ نصيبها من الشهرة، رحلات أوفر وقتا وتخطيطا وحظًا.

 

إبراهيم المليفي