نادين لبكي ونديم جرجورة: أفلامي تعبر عن هواجسي ومخاوفي وأسئلتي الذاتية
نادين لبكي ونديم جرجورة: أفلامي تعبر عن هواجسي ومخاوفي وأسئلتي الذاتية
الخطوة الأولى التي أقدمت عليها السينمائية اللبنانية نادين لبكي (مواليد بيروت، في الثامن عشر من فبراير 1974)، في بداية طريقها الإبداعية في الفن البصري، ارتبطت بصناعة أشرطة الـ«فيديو كليب» والإعلانات. تخرّجت في «معهد الدراسات المسرحية والسمعية البصرية» في «جامعة القدّيس يوسف» في بيروت في العام 1997، بإنجازها فيلمًا قصيرًا بعنوان «11، شارع باستور»، الذي أعلن ولادة مخرجة سينمائية بارعة في اقتناص اللحظات الصادمة، وفي التقاط النبض الإنساني في مدينة آيلة إلى خرابها، لعجزها عن الخروج من عنفها وخرابها وحروبها اللامتناهية. أو بالأحرى لعجز ناسها عن التحرّر من قوّة العنف والخراب والحروب اللامتناهية، الكامنة فيهم. لكن أشرطة الـ«فيديو كليب» (مع نانسي عجرم أولًا وأساسًا، ومع باسكال مشعلاني وكاتيا حرب ونورا رحّال وكارول سماحة ونوال الزغبي ويوري مرقدي وغي مانوكيان وغيرهم) جعلتها أشهر وأقرب إلى قلوب الناس وانفعالاتهم، بتقديمها أعمالًا مزجت متطلّبات العمل الفيديوي بشيء من حسّ سينمائي، جعل نتاجاتها المتنوّعة منفصلة عمّا شهدته تلك المهنة، لبنانيًا وعربيًا.
- إحساسي بالأمومة دفعني إلى محاولة فهم كيفية التصرّف لمنع ابني من ممارسة العنف
- التمثيل خروج من روتين شخصيتي ودخول في شخصيات أخرى
- كثيرون في لبنان لا يريدون تصديق أن المرء قادرٌ على إنجاز عمل جيّد
- الشرّ موجود فينا.. والجيل الجديد الذي شعرنا أنه ربما يحمل أملًا لم يتحرّر من الأحقاد المتوارثة
فيلمها الروائي الأول حمل عنوان «سكّر بنات» (2006): عن نساء مختلفات بهواجسهنّ وأحلامهنّ الموؤودة وأوهامهن وانفعالاتهنّ، ومقيمات معًا في حيّز جغرافي واحد، مفتوح على حكاياتهنّ وأوجاعهنّ المدفونة في أعماقهنّ، ورغباتهنّ في بلوغ حدّ معقول من حرية مفقودة. فيلمها الروائي الثاني «وهلأ لوين؟» («والآن إلى أين؟» باللهجة اللبنانية)، مرتكز على المرأة أولًا وأساسًا، وإن احتلّ الرجل مساحة أكبر من تلك التي عرفها في الفيلم الأول. في جديدها هذا، المُقدَّم دوليًا للمرّة الأولى في قسم «نظرة ما» في الدورة الرابعة والستين لمهرجان «كانّ» السينمائي، المُقامة بين الحادي عشر والثاني والعشرين من مايو 2011، تحاول النساء معاندة القدر، منعًا لوقوع المحظور: في قرية متخيّلة وإن أوحت بلبنان، تعمل نساء مسيحيات ومسلمات على منع رجالهنّ (أزواجًا وأبناءً وأحبّة) من الاقتتال مجدّدًا. لهذا، هنّ مستعدات لفعل المستحيل، لاجتراح المعجزات، لخوض أقسى التجارب، في قوالب متداخلة بين الكوميديا البسيطة والجميلة، والحساسية الدراماتيكية والمأسوية.
أسلوب مبسّط من دون تسطيح أو سذاجة. لغة تصل إلى كثيرين بهدوء وبساطة وشفافية. تواضع واضح. تغييب مقصود لأي ادّعاء ثقافي أو تصنّع بصري. بهذا كلّه، يُمكن اختصار العالم السينمائي لنادين لبكي، القادرة على جمع السينمائي بالتجاري، عندما يكون التجاريّ صفة إيجابية تحتاج إليها صناعة السينما في العالم كلّه. إنها، بهذا المعنى، أكثر المخرجين السينمائيين اللبنانيين نجاحًا شعبيًا، أقلّه بالنسبة إلى فيلمها الروائي الطويل الأول، الذي عُرض في أكثر من سبعين بلدًا، وحصد جوائز ومكافآت تقديرية، وإطراءً نقديًا أيضًا. في حين أن «وهلأ لوين؟»، المنطلقة عروضه التجارية اللبنانية والدولية منذ سبتمبر 2011، شكّل امتدادًا للنجاحين التجاري والنقدي اللذين عرفهما فيلمها الأول.
عندما تكون القرية مسرحًا لحكايات إنسانية
- أبدأ حواري معك من «وهلأ لوين؟» فيلمك الروائي الطويل الثاني.
- القصّة متواضعة. أي أنها عادية شكلًا على الأقلّ: قرية معزولة، ينتمي أبناؤها وبناتها إلى الديانتين المسيحية والإسلامية. يعيشون مع بعضهم البعض منذ زمن بعيد. يأكلون ويشربون ويحبّون ويلعبون ويتسامرون ويختلفون. قرية تُشبه القرى الريفية والجبلية، كلّها تسامح وبساطة وألفة وتواصل. لكنها الحرب. التأثير الخارجي المقبل إلى القرية مسيء إليها وإلى ناسها. مرّت الحرب فيها وعليها، وانتهت. الضغط الخارجي يُمارس أبشع محاولاته لاختراق القرية وسلامها مجدّدًا، وإن كان سلامها هشًّا ومنقوصًا.
لن أسترسل في سرد التفاصيل الدرامية والحكائية كلّها. الرجال متوترون. تحاول النساء الحؤول دون وقوعهم في مشاحنات وخلافات، قد تؤدّي بهم وبهنّ وبالقرية إلى جحيم الحرب مرّة أخرى. تتّحد النساء بين بعضهنّ البعض لمنع التأثيرات الخارجية من إشعال نار الفتنة ثانيةً. لهذا، هنّ يستخدمن الوسائل كلّها لدرء الخطر عن أزواجهنّ وأبنائهنّ وقريتهنّ، وعن أنفسهنّ طبعًا. بل هنّ مستعدات لاستخدام أي وسيلة ممكنة، مهما كانت غريبة أو غير مألوفة، لبلوغ الهدف هذا. يُقدّمن تضحيات جمّة. يتجاوزن ذواتهنّ أحيانًا. لا تمانع أية واحدة منهنّ من الاستعانة بخدمات نساء أوكرانيات، لإلهاء الرجال عمّا يسعين لتحقيقه: إخفاء السلاح من المنازل، مثلًا. هذا كلّه بهدف منع الاقتتال مجدّدًا داخل القرية، وبين رجالها.
ربما ستسألني: هل نجحت النسوة في تحقيق الهدف هذا؟ أرى أن المسألة لا تتعلّق بما إذا نجحن أم لا، بقدر ما ترتبط بالسياق المتكامل للحكاية. ولا تنسَى أن الفيلم مبنيّ على واقع ومتخيّل في آن واحد. أي أن أمورًا عدّة تحدث في القرية، يراها المرء غريبة وغير ممكنة الحدوث في الواقع. هذا مقصود منذ البداية. هذا مطلوب أيضًا، لأني أرى أن السخرية حاجة ملحّة في حالة كهذه. بين الواقع الجاد والمأسوي، واللحظات الطريفة المتنوّعة، هناك مسار إنساني جمع الأحداث والتفاصيل والشخصيات. السخرية، هنا، استراتيجيا هدفها البقاء. وسيلة لاستحضار القوّة، وتسخيرها لاستعادة العافية. أعتبر هذا الأسلوب ضرورة. أردتُ الفيلم كوميديًا ودراميًا في لحظة واحدة. أردته مثيرًا للضحك، ودافعًا إلى الشعور بانفعالات أخرى كثيرة.
- لفت نظري أمرٌ أودّ سؤالك عنه. أعرف تمامًا أن الأحداث الدرامية كلّها تُحيل المُشاهد إلى لبنان وحربه والآثار المخيفة والمدمِّرة التي خلّفتها حرب الأعوام الخمسة عشر تلك. بعيدًا عن هذا، بدا النصّ السينمائي مشغولًا بفكرتين اثنتين، بالنسبة إليّ على الأقلّ: الشرّ موجودٌ فينا، وتحديدًا في الرجال. بينما النساء هنّ الخلاص المنتظر أو المتوقّع أو المطلوب.
- ليس الجواب سهلًا. لا ألخّص المادة الدرامية والحكاية الفيلمية بهذا الاختزال. النساء لسن الحلّ. صحيح أن الشرّ موجود فينا. إن الشرّ كامنٌ في يومياتنا وتفاصيل عيشنا وأساليب تعاطينا مع أنفسنا ومع بعضنا البعض. هذا ما أشعر به يوميًا. الدليل على ذلك: بمجرّد وقوع إشكال بسيط أو صغير أو تافه بين شخصين ينتميان إلى فئتين مختلفتين دينيًا أو فكريًا أو سياسيًا أو اجتماعيًا، أو ينتميان إلى حزبين سياسيين مختلفين أو متناقضين، بمجرّد وقوع إشكال صغير كهذا لا علاقة له بالسياسة أو الدين أو الطائفة، «تشتعل الدنيا». منذ زمن طويل بدأنا نسمع عن وقوع إشكالات كهذه، يذهب ضحيتها أفرادٌ شاركوا فيها، أو أفرادٌ لا علاقة لهم بها أبدًا. يذهب ضحيتها أناسٌ عديدون، قتلًا أو إصابات جسدية. الشرّ موجود فينا. هذا أمرٌ مؤكّد جدًا. ذلك أن الأحقاد التي نمت بيننا وعاشت زمنًا طويلًا معنا وفنيا، لم نتخطّها أبدًا. أكاد أقول: لم يشأ كثيرون منّا أن يتخطّوا الأحقاد هذه، الواقعة في النفوس. أي عذر أو سبب أو حالة أو لحظة، يندفع الناس إلى حمل السلاح، والنزول إلى الشارع، والاقتتال فيما بينهم.
هناك أمر آخر. كان كل شيء يسير بشكل طبيعي، أو شبه طبيعي. كانت الأمور حسنة. فجأة، اندلعت أحداث السابع من مايو 2008 (دخول «حزب الله» وحلفائه إلى بيروت، لمنع تنفيذ قرارات حكومية رأى أنها موجّهة ضده وضد سلاح المقاومة). لا أتحدّث في الشأن السياسي. لكن ما حدث جعلني أشعر أن حربًا أهلية اندلعت. سئلتُ مرارًا عمّا إذا استوحيتُ فكرة الفيلم وقصّته من حقائق ووقائع. جوابي أن لا. الفكرة نبعت من تجربة شخصية بحتة، لها علاقة بي كامرأة وأم، أولًا وأساسًا. في السابع من مايو 2008 نفسه، اكتشفتُ أني حامل. عرفتُ أني سأصبح أمّا في اليوم نفسه الذي شهد استعادة واضحة لمناخ الحرب الأهلية: حواجز على الطرقات. إقفال مطار بيروت الدولي. اشتعال حرائق. إطلاق رصاص وقذائف. قتلى وجرحى. إلخ. فجأة، انتشر العنف سريعًا في الأجواء كلّها. يومها، كنتُ أفكّر بفيلم جديد لي، مع صديقي وشريكي في الكتابة جهاد حجيلي. القتال في شوارع المدينة عنيفٌ. من تجاوروا مع بعضهم البعض لأعوام مديدة، وترعرعوا سويًا، وارتادوا المدرسة نفسها عامًا تلو آخر، أصبحوا يتقاتلون ضد بعضهم البعض، لاختلاف الأديان والطوائف بينهم. يومها، سألتُ نفسي: عندما أُرزق بطفل، ماذا سأفعل كي أمنعه من حمل السلاح، والنزول إلى الشارع؟
عن الشرّ الذي لا ينتهي
الشرّ موجود فينا. ما من أحد تحرّر منه، أو تخطّاه. الجيل الجديد، الذي شعرنا ذات لحظة أنه قد يحمل أملًا ما لتجاوز هذا كلّه، يعيش الحالة نفسها، مع الأسف. كأننا لم نغسل الدم. كأننا لا نريد أن نغسل الدم. في كل مرّة، أو بالأحرى بين وقت وآخر، ندخل حربًا جديدة، صراعًا جديدًا.
ما شعرتَ به أنتَ، بخصوص المرأة مثلًا، مقصود. هذا ما أردته. لعلّ الإحساس بالأمومة زاد الشعور هذا فيّ. لعلّي لم أكن لأتعاطى هذه الأمور، لو لم أكتشف أني حاملٌ، في إحدى اللحظات المصيرية في لبنان. ربما لأني خفت على ابني، وتساءلتُ عن المصير الذي ينتظره، وعمّا سيعيشه، وكيف. لهذا كلّه، ربما، انخرطت في بلورة الفكرة وكتابة الفيلم. رودني حداد وجهاد حجيلي (شاركا نادين لبكي في كتابة السيناريو) شعرا بهذا أيضًا. نمضي أوقاتنا بمناقشة أمور لا علاقة لها بالفيلم. بمناقشة ما يجري حولنا. كانا يشعران بهذا أيضًا. بدأت الفكرة من قصّة أم تفعل المستحيل لمنع ابنها من حمل السلاح والنزول إلى الشارع. ثم تطوّرت الأمور، فإذا بنا نضع الأحداث في قرية، بلغ الأمر بنسائها حدّ الشعور بالقرف والغضب من ارتداء الأسود، ودفن الأحبّة، والبكاء على الراحلين. لم تعد النسوة يرغبن في ارتداء الأسود، ودفن الأحبّة، والبكاء على الراحلين. لهذا، يحاولن المستحيل لتجنيب القرية من الوقوع في العنف والحرب والدم والخراب.
- هل يُمكن القول إن اختيار القرية يحمل رغبة ما في القول المبطّن إن الريف أفضل من المدينة، وأقدر على لجم الانزلاق إلى الحرب مجدّدًا؟
- لا علاقة للمسألة بهذا أبدًا. الفكرة الأساسية كامنةٌ في قصّة خرافية عن قرية استطاعت أن تتجنّب الحرب، عندما كان كل شيء حولها مشتعلًا. القرية صارت العالم. إنها معزولة وقادرة على أن تتخطّى المشكلات. لكن، هناك أمرًا آخر: الضغط الخارجي يؤثّر عليها. الأسهل، بالنسبة إلى اللعبة الدرامية، كامنٌ في أن تكون القرية مسرح الأحداث الدرامية، من أن يكون المسرح المقصود مدينة، لأنها (القرية) أقدر على أن تكون معزولة. هذا لخدمة الفيلم والقصّة التي أريد سردها. لم أكن أريد أن تشعر أنتَ أو المُشاهد بأن الموقع محدّدٌ جغرافيًا أو سياسيًا أو زمنيًا. لم أكن أريد أن ينتبه أحدٌ إلى عام معين، له صلة بحرب معينة. أريد، فقط، أن أتحدّث عن مسلمين ومسيحيين. لكن، كان يُمكن أن تكون شخصيات الفيلم منتمية إلى عائلتين مختلفتين. إلى قبيلتين أخريين. كان يُمكن اختراع ديانتين جديدتين أيضًا، فأنا أتحدّث عن الشرّ بالمطلق. الشرّ الموجود في البشر والعقلية وأسلوب التفكير. حتى في فرنسا، هناك أناس يخافون من أناس آخرين. الآخر عدوّ. الشرّ موجود في كل مكان. هناك صعوبة كبيرة في تقبّل الآخر. في تقبّل كيف يُفكّر الآخر.
- لكن المُشاهدين اللبنانيين سينتبهون، سريعًا، إلى أن «وهلأ لوين؟» يروي مقتطفات من سيرهم وحكاياتهم. إن أحداثه تدور في بلدهم.
- هذا صحيح. اللبناني سيشعر بهذا أكثر من غيره، لأنه يعيش الحالة يوميًا. مقيم هو في العنف، أو إلى جانبه. الناس الذين يعيشون معًا في بقعة جغرافية واحدة، لا يتّفقون مع بعضهم البعض. يعيشون عنفًا. الأم اللبنانية قد تفهم الفيلم وتفاصيله ومناخاته أكثر من أي أم أخرى لم تعش حربًا.
أحكي عن المرأة، لأني أشعر بمسئولية. أنا أول من يُمكنه الشعور بهذا. لذا، أسأل نفسي: كيف يُمكن أن أغيّر شيئًا؟ وأولًا، أسأل نفسي: هل يُمكنني أن أغيّر شيئًا؟ من هنا، خطرت فكرة الحديث عن نساء. فكرة الحديث عمّا إذا كان يُمكن العمل من أجل تغيير شيء ما.
- هناك سخرية في الفيلم.
- لهذا الأمر علاقة بتسخيف العنف. أو بتسخيف السبب الذي يجعل الناس يحملون سلاحًا ويتقاتلون. النساء لا يحملن السلاح. هذا طبيعي. هناك وجهة نظر، مفادها أنه لا يُمكن لأي سبب أن ينزل الناس إلى الشارع حاملين السلاح لمقاتلة بعضهم البعض. نحن بحاجة إلى تسخيف العنف. إلى تصوير الرجال كأنهم أولاد. النساء قادرات على إلهائهم. الرجال هم من يُسبّب الإشكال. هم من يتضاربون فيما بينهم. هم من يُشهر السلاح في وجوه الآخرين، وفي وجوه بعضهم البعض. نادرًا ما تمارس النساء إشكالات كهذه. أسهل على الرجل أن يحمل السلاح، وأن يتقاتل مع الآخر. نحن بحاجة إلى تسخيف الأسباب التي تدفع إلى العنف.
هناك نساء يُرسلن أبناءهنّ إلى الحرب. هذا صحيح. هناك نساء يُردن أبناءهنّ شهداء. هذا صحيح أيضًا. هذه أم أو امرأة لا أفهمها. الوعي يبدأ من عندنا نحن النساء. وظيفتنا أن نغيّر وجهة النظر أو طريقة التفكير، من خلال التربية. ربما، وأشدّد على تعبير «ربما»، يُمكننا أن نغيّر. لعلّ القرية، بهذا المعنى، «يوتوبيا» لا أكثر.
دعني أقل لك شيئًا: الفيلم تعبير ذاتي أولًا وأساسًا. تعبير ذاتي عن هواجس ومخاوف وأسئلة تدور كلّها في داخلي. لم أشأ تحليلًا سياسيًا، لأني رغبتُ في طرح الأسئلة نفسها التي يُردّدها لبنانيون كثيرون يوميًا، لكنهم لا يتعلّمون شيئًا منها، مع الأسف. الهواجس موجودة منذ فترة. اشتعال البلد في السابع من مايو 2008 كان اللحظة التي جعلت الهواجس هذه، أو الفكرة بالأحرى، تتعاظم في رأسي. يومها وما بعده بدأت أشعر فعليًا بما يُمكن وصفه بـ«لا معقولية» الأشياء. الحدث بلور الأسئلة المطروحة، بخفاء أو مواربة، على الناس وبينهم. أعتقد أن التعمّق بها والبحث عن أجوبة ما عليها قابلان للبلوغ بهم حدًّا معقولًا من الوضوح. مع الأسف، هذا لا يحصل.
قنّاص ومدينة وأناس مشحونون بالغضب والتوتر
قيل لي إن هناك اعتقادًا خاطئًا بأن كل شيء كان في السابق على ما يُرام: «هذا اعتقاد خاطئ، وبشهادة الفيلم». قيل لي أيضًا إني لا أوفّر فرصة لإيصال فكرة الأحكام المسبقة، التي تقوم عليها نظرة كل طرف إلى الطرف الآخر. جوابي بسيط: هذا كلّه صحيح وموجود، وأنا أقدّمه في الفيلم في إطار التكاذب الاجتماعي والإنكار المستمرّ لحقيقة أن الغالبية الساحقة من اللبنانيين لا يتقبّلون الاختلاف. هذا أمر فظيع.
- أودّ العودة إلى فيلمك الروائي القصير «11، شارع باستور». القنّاص الذي يُراقب أبناء الحيّ من منظار بندقيته، من دون أن يُطلق رصاصة واحدة على أحد. متلصّص هو، أو مراقب، أو راغبٌ في رسم ملامح بيئة وأناس وحكايات. مرّ وقتٌ طويلٌ بينه وبين «سكّر بنات». عشرة أعوام تقريبًا، بعد نيله في العام 1998 «جائزة أفضل فيلم روائي قصير» في «بينالي السينما العربية في باريس». لا أعتقد أن سبب تأخّرك في إنجاز فيلم آخر متعلّق بغياب الإنتاج فقط، كما يحلو لكثيرين أن يقولوا.
- لستُ ممن يشتكون. لا أحبّ التشكّي والشكوى أصلًا. أنا لم أواجه مشكلة إنتاج. هناك كسلٌ أو قلّة ثقة بالناس. تأخّرتُ لأني كنتُ خائفة. أشعر أني لست على قدر المسئولية أو «الحِمْل» (كما في اللهجة اللبنانية). ارتأيتُ اختبار تجارب أخرى، فاشتغلتُ في صناعة أشرطة الـ«فيديو كليب» والإعلانات، لكنّي كنتُ أشعر دائمًا أنني سأحقّق فيلمًا يومًا ما.
المشكلة ليست إنتاجية، والدليل على هذا أنني، حين التقيتُ المنتجة السينمائية الفرنسية آن دومينيك توسّان، التي أحبّت أعمالي الفنية غير السينمائية، لم يكن لديّ سيناريو جاهز للتنفيذ. شجّعتني كثيرًا، ويعود الفضل إليها في كتابة سيناريو «سكّر بنات». جائزة «معهد العالم العربي» شجّعتني كثيرًا، هي أيضًا. لكنّي خفت، خصوصًا في بلد مثل لبنان. في الدول الأخرى، تحصل على تشجيع كبير ممن حولك، وتصادف كثيرين يحتضنونك ويسعون لتنمية ما لديك من موهبة، أو بداية احتراف. ما يحصل في لبنان هو العكس: تسعى الغالبية لتحطيمك، بإطلاق أقاويل كاذبة عليك، خصوصًا إذا تفوّقت في إنجاز عمل ما. تعرّضتُ لمواجهات كثيرة بسبب «11، شارع باستور». قيل عنّي الكثير. هناك أذية في هذا كلّه. هنا، لا أحد يُشجّعك، وفي المقابل تُصادف كثيرين يسيئون إليك. ربما بسبب هذا كلّه انتابني شعورٌ بعدم الثقة الكافية بنفسي.
- ألهذا أهديت جائزتك إلى من وثق بك، وإلى من لم يثق بك في وقت واحد؟
- أكثر ما يدفعني إلى تحقيق شيء ما هو الإحساس بالانتقام. إحساس أني أريد أن أثبت نفسي أمام هؤلاء. هذا ما يدفعني إلى فعل أشياء كثيرة أخرى. يحتاج المرء إلى أن يوقف الناس عند حدودهم، وأن يضع حدًّا لكلام قيل ضدّه وأساء إليه. لعلّ هذا الأمر مفيدٌ: ألاّ تكون لديك ثقة بالنفس، فتحاول تحسين وضعك ونفسك. ربما يجب أن تجد حلاًّ وسطًا. اليوم، اختلف الوضع. هناك أناس يُشجّعونني ويحبّون عملي.
ردّة الفعل الأولى كانت الهجوم عليّ. بالنسبة إلى كثيرين، من غير المعقول أن يُنجز المرء عملًا جيدًا. هذا نابعٌ من انعدام الثقة بالنفس أو من قلّتها، لدى اللبنانيين. قيل إن «11، شارع باستور» صُوِّر في الخارج. إن فريق العمل أجنبيّ. إنه تقليد لفيلم غربي. إذ لا يُعقل أن يُحقّق المرء شيئًا جميلًا وجيّدًا في لبنان. بالنسبة إلى هؤلاء، هناك دائمًا تأثر أجنبي ما. لم يتردّد البعض عن اتهامي بسرقة العمل من فيلم أجنبي.
- لنتحدّث قليلًا عن «11، شارع باستور». لنتحدّث قليلًا عن القنّاص «الإنسان»، الذي يُراقب الناس، ويتحدّث عن يومياتهم، ويتابع تحرّكاتهم، ويروي من خلال هذا كلّه بعضًا من فصول الحرب في لبنان، من خلال مدينة لم تنجُ من حربها.
- لم يكن الفيلم عن الحرب، فأحداثه يُمكن أن تحصل في مدينة أخرى في حالة حرب، أم في انعدام هذه الحالة. لم أرغب في وضع الحدث في زمن ما قبل الحرب، أو خلالها، أو بعدها. هذه الفكرة يُمكن أن تحدث في أي مكان في العالم. هناك إنسان طفح الكيل به من الحالة التي يعيشها. أي إنسان لديه مسدس أو بندقية، شعر أن الكيل طفح به من الحالة هذه، يُمكنه أن يفعل الشيء نفسه: أن يُراقب الناس، وأن يتساءل عمّا يُمكن أن يحدث إذا أطلق الرصاص عليهم وقتلهم. في النهاية، هو لم يقتل أحدًا. إنه يتسلّى. أي إنسان موضوع في مكانه، سيفعل الأمر نفسه. هذا مجتمع يعرفه جيّدًا، وهؤلاء الناس يُسمّيهم بأسمائهم الحقيقية، لأنه يعرفهم. ربما بسبب ضجره، أراد أن يتسلّى. ربما أراد أن يختبر شعور «قدرته» على تغيير قدره وأقدار الناس الذين يعيش معهم وبينهم. والإنسان هذا بدأ يروي خبريات الناس، ولم يعد هاجسه القتل. أنجزت الفيلم بلقطة واحدة، ومن دون مونتاج. بالنسبة إليّ، الفيلم القصير فكرة، لأني لا أستطيع أن أروي قصّة بكاملها في وقت قصير إلى هذا الحدّ (ثلاث عشرة دقيقة). كان هروبًا من هذا الشيء، وخوفًا من عدم استطاعتي أن أروي قصّة في وقت قصير.
حيث يُمكن للمرأة أن تشعر بجمالها وحريتها وأمانها الذاتي
- و«سكّر بنات»؟
- اختلفت التجربة. أذكر لقائي بك أثناء كتابته. كنتُ سعيدة به. لم أشأ يومها الحديث عنه قبل إنجازه. أعرف أنك قد تقارنه بـ«وهلأ لوين؟»، بالنسبة إلى ارتكازهما على المرأة. في «سكّر بنات»، انبثقت القصّة من داخل المجتمع اللبناني، من خلال المرأة اللبنانية تحديدًا. بهذا، أقول لك إنه مختلف عن «وهلأ لوين؟»، لأن الفيلم الثاني متحرّرٌ من التصنيفات الاجتماعية والتحديدات الجغرافية. متحرّرٌ أكثر من الأول، الذي اعتمد على تفاصيل كثيرة متعلّقة بالمرأة اللبنانية هذه، على مستوى هواجسها وأساليب تفكيرها ونظرتها إلى الآخر، وإلى الرجل، وإلى الذات أيضًا. هدفي متعلّق، هنا، بالتعمّق في التفاصيل، وبتناولها. أردتُ أن أحكي عن النساء، لأني أرى أننا قادرون على فهم أمور كثيرة في المجتمع اللبناني ومنه وعنه، من خلالهنّ.
تساءلتُ مرارًا عن وضع المرأة في لبنان، أولًا لأني امرأة، وثانيًا لأني أعيش التحوّل الذي تعيشه اللبنانيات، في فترة كتابتي النصّ وإنجازي الفيلم، وفي الفترات السابقة واللاحقة أيضًا. عند إطلاق العروض التجارية الفرنسية للفيلم، سئلت عمّا إذا كان «معهد التجميل»، حيث دارت غالبية أحداث الفيلم، يُمثّل حيّز الحرية التي تبحث اللبنانيات عنها. أجبت أن لا. المعهد ليس المكان الوحيد. بالنسبة إليّ، لبنان بلدٌ تشعر المرأة فيه أنها حرّة. إنه مكانٌ تعثر النساء فيه على آمال كثيرة، فهنّ يأتين إليه ليُصبحن جميلات، ويخرجن منه طليقات ومنشرحات. الجانب الجسدي مهمّ جدًا. هناك رغبة دائمة لدى المرأة في أن تكون جميلة. النساء جميعهنّ هكذا. إنه مكان تشعر النساء فيه بالثقة والأمان أيضًا، لأن المرأة أقدر على البوح المباشر والصريح أمام امرأة أخرى عرفت عيوب جسدها وجلدها كلّها. ما يثير حساسيتي واهتمامي كامنٌ في الشعور بالجوار والحميمية، وهذا ما يفتن الرجال أيضًا. إنه مكان ممنوع عليهم، وهم يرغبون بشدّة في معرفة ماذا يجري داخله.
- لكنّ رجلًا واحدًا دخل معهد التجميل هذا. أليس كذلك؟
- نعم. إنه رجل (عادل كرم) شجاع جدًا هو ذاك الذي جعلته يتجاوز عتبة المحلّ إلى الداخل. خطى خطوة كبيرة، بدافع حبّه لِلَيال (نادين لبكي). إنه فعلٌ بطولي، حقًّا.
- في «11، شارع باستور»، اكتفيتِ بتنفيذ المشروع من دون التمثيل فيه. لكنّك في «سكّر بنات» و«هلأ لوين؟» شاركت في التمثيل. بل في تمثيل أحد أبرز الأدوار الرئيسة وأهمّها. أعرف أنك تحبّين التمثيل. هذا ما سألتك عنه عند لقائنا أثناء التحضير لفيلمك الطويل الأول. ثم مثّلت في «البوسطة» (2005) لفيليب عرقتنجي و«رصاصة طايشة» (2010) لجورج الهاشم. كما شاركت في «ردم» (1998) لدانيال عربيد (دور صغير)، وهؤلاء جميعهم لبنانيون، و«الأب والغريب» (2010) للإيطاليّ ريكي توغنازي.
- أحبّ التمثيل. هذا صحيح. أعتبره خروجًا من روتين شخصيتي. يسمح لي الدخول في/ إلى شخصيات أخرى. أشعر أن كل إنسان يحبّ أن يكون شخصًا آخر كل يوم، لكن الحياة لا تسمح له بذلك. التمثيل وحده يسمح للمرء أن يكون إنسانًا آخر، وأن يكتشف أمورًا أخرى، وأن يفعل أشياء لا يجرؤ على فعلها في حياته. في التمثيل، أستطيع أن أفعل ما أخاف أن أفعله كنادين لبكي.
هناك أمرٌ آخر: التمثيل في أفلام مخرجين آخرين أمتع بكثير، بالنسبة إليّ، من التمثيل في أفلامي. في الأولى، أستمتع بالتفتيش عن الإحساس وتفاصيل الشخصية. في أفلامي، لا أملك الوقت لذلك. أشعر أحيانًا بالضعف أمام حقيقة الناس غير المحترفين وعفويتهم. عمومًا، أجد التمثيل نوعًا من علاج أو رحلة لاكتشاف نواح غامضة في شخصيتي، والتعرّف على نظرة الآخر إليّ. أعطيك مثلًا بسيطًا: عندما قرأت سيناريو «البوسطة»، اكتشفتُ أنه يتناول موضوعًا أشعر بضعف شخصي شديد إزاءه: الدبكة. أحبّ الدبكة كثيرًا، وأحبّ التعبير عن حالة معيّنة من خلالها. أحبّ كل شيء مرتبط بالدفّ والمزمار والطبل. ما أثارني في الدور هذا، كامنٌ في أن الشخصية المطلوب منّي تأديتها ترقص الدبكة وتغنّي.
----------------------------------------
وجهًا لوجه (تنويه)
ورد في العدد رقم 636 - نوفمبر 2011 خطأ من كاتب المقال تعليقًا على إحدى صور موضوع وجهًا لوجه ص71 الخاصة بالراحل الشيخ عبدالله الجابر الصباح، والصحيح أنه أول وزير للتربية والتعليم بالكويت والمستشار الخاص لأمير الكويت، وليس أميرًا لدولة الكويت، لذا وجب التنويه.