تعقيب على مقال وديع فلسطين

تعقيب على مقال وديع فلسطين

السيد الدكتور سليمان العسكري.. رئيس تحرير مجلة العربي الغراء.. تحية عطرة وبعد..

اطلعتُ باهتمام على مقال الأستاذ وديع فلسطين بعنوان «نُعوا وهم بعدُ في الحياة» في عدد «العربي» (634) سبتمبر 2011. وقد أعجبني المقال جدًا لتفرّده في موضوعه. فما أغرب أن يتم الإعلان عن وفاة شخص، بل ونعيه وهو لايزال على قيد الحياة. وقد أورد الكاتب أسماء بعض الشخصيات الذين كانوا ضحايا للنعي السابق لأوانه مثل الشاعرة نازك الملائكة والشاعر المهجري زكي قنصل والأديب أحمد حسن الزيات والأديب د. محمد رجب البيومي. ومن الطبيعي أن يصعب حصرُ كلّ مَن تعرّضوا لهذا الموقف النادر الحدوث.

ولعلي أضيف بعض الأسماء استطرادًا وتواصلاً مع البحث الشائق للأديب وديع فلسطين، وربما كانت أشهر شخصية تعرّضت لإذاعة نبأ وفاتها بالخطأ فنقلته وكالات الأنباء العالمية والإذاعات على الفور هي كوكب الشرق السيدة أم كلثوم، التي أذيع من الإذاعات المصرية نعيٌ رسميٌّ لها باسم رئيس الوزراء آنذاك د.عبدالعزيز حجازي في الأول من فبراير عام 1975، في الوقت الذي كانت فيه أم كلثوم على قيد الحياة تصارع الموت بمستشفى القوات المسلحة بالمعادي، ونظرًا لأن العالم العربي كله كان يتابع أنباء تطور الحالة الصحية الحرجة لأم كلثوم، فقد تناقلت وكالات الأنباء الخبرَ الخطأ في العاشرة من مساء السبت أول فبراير 1975، بل صدرت بعض الصحف العربية في طبعاتها الأولى يتصدّرها الخبر الحزين، خصوصًا أن النعي والرثاء كانا من الإذاعة المصرية وباسم السيد رئيس الوزراء. وقد أصدرت لاحقًا بيانًا خاصًا نصه كما يلي:

«مازالت السيدة أم كلثوم في حجرة الإنعاش بمستشفى القوات المسلحة بالمعادي، ومازالت تقدم لها الرعاية الصحية.. وغير صحيح ما أذيع عن وفاتها».

ونشرت «الأهرام» في اليوم التالي في عهد رئيس تحريرها الأستاذ أحمد بهاء الدين قبل مجيئه إلى الكويت ليرأس تحرير «العربي» تقول: «طلب الدكتور عبدالعزيز حجازي رئيس الوزراء من الدكتور كمال أبوالمجد وزير الإعلام التحقيق في كيفية إذاعة هذا النبأ والنعي الذي أذيع باسم رئيس الوزراء، كما طلب رئيس الوزراء وقف المسئولين عن هذا الخطأ في وزارة الإعلام والإذاعة».

وأضافت «الأهرام»: «وكان الدكتور حجازي قد استمع من راديو سيارته وهو عائد إلى منزله في العاشرة والنصف مساء إلى البيان الذي نُسب إليه وأذاعته الإذاعة يرثي فيه سيدة الغناء العربي. وقد أصدر الدكتور كمال أبوالمجد قرارًا بوقف بعض كبار المسئولين بوزارة الإعلام والأجهزة التابعة، لإذاعتهم النبأ دون التثبت من صحته، وقد استدعاهم للتحقيق في صباح اليوم التالي». وأضافت الصحيفة: «وكان الدكتور حسن الحفناوي زوج السيدة أم كلثوم قد اتصل بالمسئولين عقب إذاعة هذا الخبر، ونفاه وقال إنه يتحدث من داخل غرفة الإنعاش، وإن السيدة أم كلثوم مازالت على قيد الحياة وتتلقى العلاج الذي قرّره الأطباء». كان هذا ما حدث في يوم السبت 1من فبراير عام 1975، وبعد مرور يومين كاملين توفيت السيدة أم كلثوم يوم الإثنين «الثالث من فبراير عام 1975» وجرت مراسم تشييع جنازتها في مشهد شعبي ورسمي مهيب حيث شاهد ميدان التحرير «مليونية» وداع لفنانة أصيلة أحبّها العرب من المحيط إلى الخليج، ولم يختلف على عبقريتها اثنان.

***

ومن الشخصيات الأدبية التي تعرضت لهذا الموقف أيضًا الأستاذ الدكتور طه محمود طه أستاذ الأدب الإنجليزي الراحل، والذي كان لي شرف أن تتلمذت على يديه بآداب عين شمس، وتوطدت علاقتي به أكثر في الكويت عندما عمل سيادته كأستاذ، ثم رئيس قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب بجامعة الكويت أثناء عملي بالصحافة الكويتية بمجلة المجالس. وبعدما عدنا إلى القاهرة، نُشر بجريدة أخبار الأدب المصرية الأسبوعية موضوع عن الأديب الإيرلندي جيمس جويس الذي تخصص فيه وترجم له د. طه محمود طه، ونشرت كلمة «الراحل» قبل اسم الدكتور طه وكان لايزال بعد على قيد الحياة، وأذكر أنني اتصلت بالأستاذ جمال الغيطاني رئيس تحرير «أخبار الأدب» السابق لأنبّهه لهذا الخطأ، وكان أن نُشر حوار مع د.طه في العدد التالي مُحلّى بالصور كاعتذار عملي عن نشر كلمة «الراحل» لأديب كبير ومثقف موسوعي كان لايزال على قيد الحياة.

وقد رحل د.طه محمود طه بعد ذلك بسنوات في 17 أبريل سنة 2002 بالقاهرة دون نشر نعي من جانب الأسرة التي فضّلت التصدّق بتكاليف النعي على الفقراء والمساكين، ورثاه الكثيرون من أصدقائه وتلاميذه وعارفي علمه وفضله.

***

ومن الشخصيات الرياضية العالمية المشهورة جدًا خاصة في الخمسينيات والستينيات لاعب كرة القدم المجري الأسطوري «بوشكاش» الذي تعرض لهذا الموقف، ففي عام 1956 أثناء اجتياح الاتحاد السوفييتي السابق بعتاده وآلته الحربية للعاصمة المجرية بودابست نقلت وكالات الأنباء العالمية خبر مصرع بوشكاش رئيس فريق المنتخب المجري الذي كان أفضل فريق كرة بالعالم في ذلك الوقت، وأذكر أنني قرأت كثيرًا من الكلمات التي تنعى اللاعب الأسطوري بالصفحات الرياضية. وبعد أن اختفت أخبار بوشكاش لفترة طويلة، كم كانت سعادتنا ونحن طلبة بالمرحلة الثانوية أن نقرأ على الصفحات الأولى للجرائد: «بوشكاش حيّ يرزق»، فقد لجأ اللاعب الكبير إلى إسبانيا وتألق في صفوف نادي ريال مدريد بعد أن اعتقد الناس أنه لقي مصرعه بسبب غزو المجر.

***

وكثيرًا ما أشاع خصوم أبي الطيب المتنبي نبأ وفاته، حيث لم تكن هناك قبل نحو ألف عام إذاعات أو صحف أو إعلام حديث، فكان من السهل انتشار الإشاعة وتصديقها. وعلّق المتنبي في نونيته المشهورة مؤكدًا أن كل شخص مرتهن بالموت فلا يفرح أحد بنعي أحد قبل موعده. ويذكر أن قومًا نعوه من قبل وأخبروا أنهم شاهدوا دفنه ثم ماتوا وهو بعد في الحياة فقال:

يامَن نعيتُ على بعدٍ بمجلسِهِ
كلٌّ بما زعمَ الناعونَ مُرتَهنُ
كم قد قُتِلْتُ وكم قَدْ متُّ عِندكمُ
ثم انتفضتُ فزال القبرُ والكفنُ
قد كان شاهدَ دفني قبل قولهمُ
جَماعةٌ ثم ماتوا قبل مَن دفنوا

رحم الله أبا الطيب، وشكرًا للأستاذ وديع فلسطين على مقاله الرائع وعلى اختياره هذا الموضوع الفريد والجديد.

محمد حسن أحمد - مصر