صلاح عبدالصبور كما عرفته
موسيقي الأفكار
كان صلاح عبد الصبور شاعرا حزينا كما بدا في قصائده، يؤمن بأن عمره القصير سوف يمضي كالشهاب وقد كان. ولكن هناك وجها آخر لذلك الشاعر الحزين القصير العمر يتحدث عنه هذا المقال.
عرفت الشاعر صلاح عبدالصبور في الخمسينيات. في غرفة "القراءة" في روزاليوسف القديمة، حيث أقمنا أعواما نقرأ ونكتب ونأكل ونضحك.وكان حي (روز اليوسف) نقلة أو تخشينة بين عالمين، وبين حي قديم وحي جديد، أو حي شعبي مغرق في العراقة وحي أرستقراطي مستحدث، بين السيدة زينب وجاردن سيتي. والاسم يفضح، لأن حي السيدة كان يحمل اسم السيدة زينب، الست الطاهرة، وأم العواجز شفيعة زوارها من أهل الريف الكرام والطيبين الغلابة من أبناء الحي الشعبي. بينما كانت "جاردن سيتي" أسما أطلقه الإنجليز في مطلع القرن، ولايزال يحمل هذا الاسم. لأنهم أرادوا إضافة ثلاثة أحياء جديدة إلى القاهرة هي الزمالك والمعادي وجاردن سيتي، لتكون نموذجا من فكرة "المدينة الحديقة" أو العمارة التي تغوص في الخضرة. وكانت المدينة الحديقة منقولة من رسوم المهندسين بالمسطرة والبرجل والقلم. وكانت جاردن سيتي حي الأغنياء المختفين وراء حدائقهم الغناء، لكن السيدة زينب كانت أكثر غنى بالمشاعر والحركة والتاريخ القديم!
عشاق حي
السيدة
ولاعجب أن يقطن حول مقام السيدة زينب توفيق الحكيم
ليكتب رائعته الفذة "عودة الروح" في شارع سلامة. وخلف المقام في حارة الميضة، كان
يسكن فتحي رضوان الذي كتب عنها رائعة أخرى حلوة هي "الخليج العاشق"، وبينهما كان
يسكن يحيى حقي ليكتب رائعته "قنديل أم هاشم" عن أهل الحي وزواره وحجاجه والمتشفعين
ببركة القنديل وزيته الشافي المعافي لمرض العيون الذي كان شائعا وقتها، وكان أخلص
المخلصين للسيدة وحيها وأهلها هو الشاعر بيرم التونسي الذي لم يبارح حاراتها
ومقاهيها وعاش في رحابها أكثر من أربعين عاما.
وقد روى لي فتحي رضوان أن شقيقته قالت له إن أهل الحي استرابوا من غرفة على السطوح في منزل قريب، كانت مضاءة بالليل دائما، لاينزوي نورها إلا بضوء الصباح. وشك أهل الحي أن يكون أهلها من سمار الليل أو لاعبي القمار، ثم اكتشفوا بدأب أهالي الأحياء الشعبية على رعاية جيرانهم والعناية بأخبارهم وتسقط أسارهم أن الساكن أعزب، يواظب على القراءة ليلا حتى الفجر وهو شاب صنعته الأدب والصحافة واسمه عبد القادر المازني.
ولكن الحي الثالث، حي روز اليوسف، أو حي الفلكي والمنيرة والإنشا والمبتديان كان بين بين، وكان نقلة بين عالمين، وبين صخب السيدة وهدوء جاردن سيتي. قامت في هذا الحي الثالث أغلب الوزارات أو حتى النظارات منذ عهد إسماعيل، حين تقرر الهبوط بمقر الحكم من القلعة إلى قصر عابدين. وحول لاظوغلي قامت وزارات المالية والصحة والحربية والمعارف ومجلس النواب ومجلس الشيوخ. وفي شوارعه أقامت صحف البلاغ والصباح والكشكول ومصر الفتاة والسياسة، ثم المصري وبعدها ظهرت أيضا دار الهلال وروزاليوسف التي عرفناها.
وكانت روزا
القديمة قديمة جدا في مبناها العتيق، تتميز بحوش مكشوف واسع تحتله المطابع التي
تجمع حروفها باليد والملقاط، وتصف بروفاتها بالذراع والشبر والتقدير الذي يعتمد على
الذوق المرتجل. وكانت غرفتنا أوسع الغرف وكنا نسميها "غرفة القراءة"، فقد تميز
الشارع بهدوء اضطراري أو طبيعي، لأن الوزارات كانت تنتهي من الحركة والنشاط قرابة
الظهر، حين نبدأ فيها العمل، ويكتمل الجمع. وكان شارعنا هادئا وغرفتنا صاخبة، لأن
سكانها المقيمين كانوا الكاتب الرسام حسن فؤاد، والشاعر الرسام صلاح جاهين، والقصاص
الناقد عباس صالح، وأنا وقد عرفت صلاح عبد الصبور فيها، لأننا كنا نقضي أغلب يومنا
وجزءا من الليل، وكنا لا ننشر شيئا قبل أن نقرأه. وكتب فيها صلاح جاهين أروع أغانيه
الوطنية، وقال إنه استوحى فكرة أغنية "صورة" التي غناها عبدالحليم حافظ من شغف
الأطفال وإلحاحهم البريء العفوي كلما ظهرت أمامهم كاميرا، حين
يصيحون:
- صورني. صورني.
وكتب صلاح جاهين "والله زمان ياسلاحي" كما كتب عباس صالح مسلسل "عنترة" لينشر موازيا لمسلسل آخر لإحسان عبد القدوس "لا أنام". وكتبت في الغرفة مسلسل مذاهب غريبة عن السوريالية والدادية والفوضوية والعدمية ومذهب المشائين، كما كتب فيها صلاح عبد الصبور تربات لشعر جارسيا لوركا وبريفيه.
أنواع من
الحزن
وكان صلاح عبد الصبور أكثرنا حزنا. وفي قصيدته "الحزن"
كان يعرف تفصيلات الحزن، الطويل من الجحيم إلى الجحيم، والحزن الضرير، والحزن
الصموت. وكنا نضحك معه، لأنه نصب نفسه محاميا عاما عن الأحزان. وكان يترافع عن
ثقافته الواسعة، ويتحدث عن أحزان يسوع ونيتشه وباسكال وفان جوخ وأبي العلاء، وكان
يعترف أنه كان يبكي وهو في العاشرة مع سيرانودي برجراك. وكان يقرأ هايني وهو
بالجلباب والشبشب والجاكتة، مثل أفندية الزقازيق. وظل المنفلوطي صاحب "العبرات"
معبوده المفضل، حتى تعرف على جبران خليل جبران الذي قاده كالمسحور إلى ميخائيل
نعيمة.
ولم يكن صلاح عبد
الصبور يكتب الشعر، ولكن الشعر كان يكتبه. فقد كتب مبكرا في قريته وهو في الثالثة
عشرة، ثم نشر ديوانه الأول "الناس في بلادي" في الخامسة والعشرين. وتغنى جيلنا
بقصيدته "شنق زهران" عن دنشواي، ولفت الأسماع بموسيقاه الجديدة وصوره البسيطة من
الحياة اليومية، ولم يكن يخطر لشاب مثلنا خاطر عن الموت، لأن الإنسان في الثلائين
يقف في متوسط العمر. مامضى يساوي مايقبل، ولو من قبيل الاحتمال. إذا تلفت يمينه وجد
مابيساره يساويه، لكن صلاح عبد الصبور في كتابه "عمر من الحب" الذي نشرته له في
الكتاب الذهبي لروزاليوسف قال في أول سطر من الكتاب:
- يخطر لي أحيانا
أني سأموت في مفترق الطريق القادم!
وقبل الخمسين، اعتبر الشاعر نفسه "معمرا" فكتب كتابه "على مشارف الخمسين"!
وتحققت نبوءته الداخلية، فسقط مبكرا من شجرة الحياة ومات كزميله وصديقه الشاعر صلاح جاهين فجأة، بالسكتة الشعرية. ولكنهما لم يسقطا من شجرة الفن، لأن ثمارالفنون لاتموت، ولم أعرف شاعرا حزينا بالسليقة يحتفل مثله بمجالس الفكاهة والقفشات اللفظية واصطياد المتناقضات الساخرة مثله، ولذلك كان سريع الانضمام إلى الأحزاب الفكاهية التي انتشرت بين المثقفين في جيلنا. وكان في سمره أقرب إلى الدراعمة خريجي دار العلوم والأزهريين منه إلى خريجي كلية الآداب. ولهؤلاء ولع بالفكاهة اللفظية التي تخصص فيها الأزهريون الذين فسدوا، ومنهم كامل الشناوي وعبد العزيز البشري وحافظ إبراهيم.
وأذكر حين اشترى
أول سيارة في حياته، أنه صحب معه زميلا، على سبيل التجربة إلى أقرب شجرة ليصطدم
بها، فتهشمت السيارة ورقد الزميل الصحفي شهورا مدششا ومفشفشا، وخرج صلاح عبدالصبور
لم تمسه سوى سجحات خفيفة. وعيرته أن الموت لايصطفي من يكابدون الألم في حياتهم،
لأنني كنت أحس بقلبه الجياش بحساسية مذهلة مرهفة، ولم أعرف شاعرا مثله في الألم
والموهبة، وكان دائما ينفي تهمة الحزن أو الاستحزان أي طلب الحزن
قائلا:
- إنما أنا شاعر متألم ولست بالشاعر الحزين.
موسيقى الأفكار بدلا
من موسيقى اللغة
وقد تخلص صلاح عبدالصبور مبكرا من المدرسة
الرومانسية العربية، بموسيقاها الرقيقة وإيقاعها الناعم، وكان يقول إن الحب ليس هو
الشغف، ولا هو العشق، بل لكل لفظ دلالة، وليس هناك لفظ أجود من لفظ، أو أكثر بلاغة،
ولكن هناك لفظا أكثر صدقا. وكانت رسالته المخلصة هي البحث عن موسيقى الأفكار بدلا
من موسيقى اللغة، وأثبت صلاح عبد الصبور في تجديده أن أعذب الشعر ليس أكذبه، بل هو
أصدقه، لأن أعظم الفضائل في الحياة كما كان يقول هي الصدق والحرية والعدالة، وأخبث
الرذائل هي الكذب والطغيان والظلم، وقمة الصدق هو الصدق مع النفس. ومعنى أن يدرك
الإنسان وجوده ويعيه، وأن يعرف مكانه في الحياة، وأن يتحمل دوره وعبء وجوده في
الحياة. وكان هذا المثلث الذهبي. الصدق والحرية والعدالة هو محور قصائده وأغلب
مسرحياته، وكانت مسرحية "مأساة الحلاج" وقصيدتا "هجم التتار" و"شنق زهران" في
ديوانه "الناس في بلادي" وقصيدتا "الحرية والموت" و"ثلاث صور من غزة" في ديوانه
"أقول لكم"، وقصيدتا "لوركا" و"أحلام الفارس القديم"، كلها تمجيدا
للحرية.
ولأنني قرأت أندريه بريتون وهنري ميشو وجاك بريفيه وأنطوان أرتو من شعراء السوريالية وبهرني رامبو، وخبلني بودلير، على غرار جيلي من القراء في الأربعينيات، كنت أظن أن الشعر الحديث لم ينشأ إلا للتعبير عن أغراض جديدة، ينكسر بها العمود، ولاتختل الموسيقى، وكنت أظن أن صلاح عبد الصبور سيصل بثقافته المتفردة، ولأنه لم يتثقف على كبر، بل اهتدى مبكرا مع صديقيه أحمد كمال زكي وعبد الغفار مكاوي من تلاميذ الشيخ المجدد أمين الخولي إلى اليوت وفاليري ورلكه وشيلي ووردزوورث وكان ولوعا بجارسيا لوركا الذي ترجم له 13 قصيدة، وقسطنطين كفافيس الشاعر اليوناني السكندري، وترجم له ثلاث قصائد، وليوبولد سنغور الذي ترجم له قصيدتين، ويفيجني ايفشنكو الذي ترجم له قصيدة، كما ترجم لشاعر لم نعرفه من إيران هو رضا براهني.
وأظن أن صلاح عبد الصبور كان أكثر شعرائنا المجددين تعرفا على الأدب العالمي. وقد يكون ذلك بفضل تملكه الإنجليزية، أو بحكم عمله الصحفي في روزا وصباح الخير، حين كنا نهتم بتقديم أعمال الأدباء المجددين من الغرب، وبينما كنت أقدم الأدب المغضوب عليه في الاتحاد السوفييتي من باسترناك إلى دودنتسيف، كان صلاح عبد الصبور يترجم ويلخص قصصا وروايات غربية منها "سيد البنائين" لإبسن من النرويج، و"يرما" للوركا - ثانية - و"حفل الكوكتيل" لايليوت، و"من أجل ولدي" لجون إيرفن، و"بزوغ القمر" و"شيء كالأحلام" لفرجسون، وبعض من "ارابال" وجزء من "الملك لير" لشكسبير، كما قدم " ذوبان الجليد" لأهرنبورج، و"الجلد" لملابارته الإيطالي، و"جريتا" لكولدويل، و"خريف امرأة" لتينسي ويليامز.
العقاد والولد
المثقف
وحين ثارت معركة الشعر الجديد بين العقاد الذي كان
يترأس لجنة الشعر في المجلس الأعلى للثقافة، وحجب أي جائزة عن أي شاعر جديد، ظل
صلاح عبد الصبور يعترف لنا بفضل العقاد على الشعر لأنه أحيا ابن الرومي من مرقده،
وحاول أن يزلزل شوقي، لولا أن قوائمه كانت من الحجر الصوان، كما كان يقول شاعرنا،
وأذكر أن العقاد قال بعد المعركة:
- أريد أن أناقش هذا "الولد"، فهو
قد قرأ بعض الشعر وهو ليس جاهلا!
وأذكر أننا احتفلنا في حزبنا الفكاهي بشهادة العقاد الذي طالب بالتجديد قبل الوصول إلى الحكم، ثم حرمه بعد الوصول إليه!
وظللت أثق بطهارة صلاح عبد الصبور الوجدانية، لأنني لم أحس فيه صلفا أو نرجسية بل كان شفافا كالدمعة، وكان شاعرا يعيش قيمه الشعرية في حياته اليومية، وظل شاعرا يكتبه الشعر، كانت متعته في وحدته، وكان مقلا في صداقاته، وحريصا على الونس من وحشته بأصدقائه القدامى فارودتى خورشيد ومكاوي وفهمي وعز الدين إسماعيل من رواد مقهى شاعر قوله، محبا للعب والعبث بالكلمات وفكاهة الاشتقاقات، ويبدع شعرا ومسرحيات، موليا وجهه دائما إلى موسيقى الأفكار.
وفي سهرة عابرة، انطلقت كلمة طائشة كالرصاصة، فاخترقت قلبه، ومات.
وقتلت الشاعر كلمة، فمات بالسكتة الشعرية! منذ عشر سنوات!!